فلما كانت الليلة ٩٤٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله البحري قال لعبد الله البري: وإذا سمع ألف من هذا النوع أو أكثر من ابن آدم صيحةً واحدة يموتون لوقتهم ولا يقدر أحدٌ منهم أن ينتقل من مكانه. فقال عبد الله البري: توكَّلت على الله. ثم قلع ما كان عليه من الملبوس، وحفر في شاطئ البحر ودفن ثيابه، وبعد ذلك دهن جسمه من فرقه إلى قدمه بهذا الدهن، ثم نزل في الماء وغطس وفتح عينيه فلم يضره الماء، فمشى يمينًا وشمالًا، ثم جعل إن شاء يعلو وإن شاء ينزل إلى القرار، ورأى ماء البحر مخيمًا عليه مثل الخيمة ولا يضره، فقال له عبد الله البحري: ماذا ترى يا أخي؟ قال له: أرى خيرًا يا أخي، وقد صدقتَ فيما قلت؛ فإن الماء ما ضرني. قال له: اتبعني. فتبعه، وما زالا يمشيان من مكان إلى مكان وهو يرى أمامه وعن يمينه وعن شماله جبالًا من الماء، فصار يتفرج عليها وعلى أصناف السمك وهي تلعب في البحر، البعض كبير والبعض صغير، وفيه شيء يشبه الجاموس، وشيء يشبه البقر، وشيء يشبه الكلاب، وشيء يشبه الآدميين، وكل نوع قرب منه يهرب حين يرى عبد الله البري، فقال للبحري: يا أخي، ما لي أرى كل نوع قربنا منه يهرب منَّا؟ فقال له: مخافةً منك؛ لأن جميع ما خلقه الله يخاف من ابن آدم. وما زال يتفرَّج على عجائب البحر حتى وصلا إلى جبل عالٍ، فمشى عبد الله البري بجانب ذلك الجبل، فلم يشعر إلا وصيحة عظيمة، فالتفت فرأى شيئًا أسود منحدرًا عليه من ذلك الجبل، وهو قدر الجمل أو أكبر، وصار يصيح، فقال له: ما هذا يا أخي؟ قال له البحري: هذا الدندان؛ فإنه نازل في طلبي، مراده أن يأكلني، فَصِحْ عليه يا أخي قبل أن يصل إلينا فيخطفني ويأكلني. فصاح عليه عبد الله البري وإذا هو وقع ميتًا، فلما رآه ميتًا قال: سبحان الله وبحمده، أنا لا ضربته بسيف ولا بسكين! كيف هذه العَظَمة التي فيها هذا المخلوق ولم يحمل صيحتي، بل مات؟ فقال له عبد الله البحري: لا تعجب، فوالله يا أخي، لو كان من هذا النوع ألف أو ألفان لم يحملوا صيحة ابن آدم.
ثم مشيا إلى مدينة فرأيا أهلها جميعًا بنات وليس فيهن ذكور، فقال: يا أخي، ما هذه المدينة؟ وما هذه البنات؟ فقال له: هذه مدينة البنات؛ لأن أهلها من بنات البحر. قال: هل فيهن ذكور؟ قال: لا. قال: وكيف يحبلنَ ويَلِدنَ من غير ذكور؟! قال: إن ملك البحر ينفيهن إلى هذه المدينة، وهن لا يحبلن ولا يَلِدنَ، وإنما كل واحدة غضب عليها من بنات البحر يرسلها إلى هذه المدينة ولا تقدر أن تخرج منها، فإن خرجتْ منها فإن كل ما رآها من دوابِّ البحر يأكلها، وأما غير هذه المدينة ففيه رجال وبنات. قال له: هل في البحر مدن غير هذه المدينة؟ قال له: كثير. قال: وهل عليكم سلطان في البحر؟ قال له: نعم. قال له: يا أخي، إني رأيت في البحر عجائب كثيرة. قال له: وأي شيء رأيتَ من العجائب؟ أَمَا سمعتَ صاحب المثل يقول: عجائب البحر أكثر من عجائب البر؟! قال: صدقتَ. ثم إنه صار يتفرَّج على هذه البنات، فرأى لهن وجوهًا مثل الأقمار، وشعورًا مثل شعور النساء، ولكنْ لهن أيادٍ وأرجل في بطونهن، ولهن أذناب مثل أذناب السمك، ثم إنه فرَّجه على أهل تلك المدينة، وخرج به ومشى قدامه إلى مدينة أخرى، فرآها ممتلئةً خلائق؛ إناثًا وذكورًا، صورهم مثل صور البنات ولهم أذناب، ولكن ليس عندهم بيع ولا شراء مثل أهل البر، وليسوا لابسين، بل الكل عرايا مكشوفو العورة، فقال له: يا أخي، إني أرى الإناث والذكور مكشوفي العورة! فقال له: لأن أهل البحر لا قماش عندهم. فقال له: يا أخي، كيف يصنعون إذا تزوَّجوا؟ فقال له: هم لا يتزوَّجون، بل كلُّ مَن أعجبَتْه أنثى يقضي مرادَه منها. قال له: إن هذا شيء حرام! ولأي شيء لا يخطبها ويمهرها ويقيم لها فرَحًا ويتزوَّجها بما يرضي الله ورسوله؟! قال له: ليس كلنا مِلَّة واحدة، فإنَّ فينا مسلمين موحِّدين، وفينا نصارى ويهودًا وغير ذلك، والذي يتزوَّج منا خصوص المسلمين. فقال: أنتم عريانون ولا عندكم بيع ولا شراء، فأي شيء يكون مهر نسائكم؟ هل تعطونهن جواهر ومعادن؟ قال له: إن الجواهر أحجار ليس لها عندنا قيمة، وإنما الذي يريد أن يتزوَّج يجعلون عليه شيئًا معلومًا من أصناف السمك يصطاده قدر ألف أو ألفين أو أكثر أو أقل بحسب ما يحصل عليه الاتفاق بينه وبين أبي الزوجة. فلمَّا يُحضِر المطلوبَ يجتمع أهل العريس وأهل العروسة ويأكلون الوليمة، ثم يُدخِلونه على زوجته، وبعد ذلك يصطاد من السمك ويُطعِمها، وإذا عجز تصطاد هي وتُطعِمه. قال: وإن زنا بعضهم ببعض كيف يكون الحال؟ قال: إن الذي يثبت عليه هذا الأمر، إنْ كانت أنثى ينفوها إلى مدينة البنات، فإذا كانت حاملًا من الزنا فإنهم يتركونها إلى أن تَلِد، فإن ولدتْ بنتًا ينفوها معها وتُسمَّى زانية بنت زانية، ولم تزل بنتًا حتى تموت، وإن كان المولود ذكرًا فإنهم يأخذونه إلى الملك سلطان البحر فيقتله. فتعجَّب عبد الله البري من ذلك.
ثم إن عبد الله البحري أخذه إلى مدينة أخرى وبعدها أخرى وهكذا، وما زال يفرِّجه حتى فرَّجه على ثمانين مدينة، وكل مدينة يرى أهلها لا يشبهون أهل غيرها من المدن، فقال له: يا أخي، هل بقي في البحر مدائن؟ قال: وأي شيء رأيت من مدائن البحر وعجائبه؟ وحق النبي الكريم الرءوف الرحيم لو كنتُ فرَّجتك ألف عام كل يوم على ألف مدينة، وأريتك في كل مدينة ألف أعجوبة، ما أريتك قيراطًا من أربعة وعشرين قيراطًا من مدائن البحر وعجائبه، وإنما فرَّجتك على ديارنا وأرضنا لا غير. فقال له: يا أخي، حيث كان الأمر كذلك يكفيني ما تفرَّجت عليه، فإني سئمتُ من أكل السمك، ومضى لي في صحبتك ثمانون يومًا، وأنت لا تُطعِمني صباحًا ومساءً إلا سمكًا طريًّا، لا مشويًّا ولا مطبوخًا. فقال له: أي شيء يكون المطبوخ والمشوي؟ قال له عبد الله البري: نحن نشوي السمك في النار ونطبخه ونجعله أصنافًا ونصنع منه أنواعًا كثيرة. فقال له البحري: ومن أين تأتي لنا النار؟ فنحن لا نعرف المشوي ولا المطبوخ ولا غير ذلك. فقال له البري: نحن نقليه بالزيت والشيرج. فقال له البحري: ومن أين لنا الزيت والشيرج ونحن في هذا البحر لا نعرف شيئًا مما ذكرته؟ قال: صدقت، ولكن يا أخي قد فرَّجتني على مدائن كثيرة ولم تفرِّجني على مدينتك. قال له: أما مدينتي فإننا فُتناها بمسافة، وهي قريبة من البر الذي أتينا منه، وإنما تركتُ مدينتي وجئت بك إلى هنا لأني قصدتُ أن أفرِّجك على مدائن البحر. قال له: يكفيني ما تفرَّجت عليه، ومرادي أن تفرِّجني على مدينتك. قال له: وهو كذلك. ثم رجع به إلى مدينته، فلما وصل إليها قال له: هذه مدينتي. فرآها مدينة صغيرة عن المدائن التي تفرَّج عليها، ثم دخل المدينة ومعه عبد الله البحري إلى أن وصل إلى مغارة. قال له: هذا بيتي، وكل بيوت هذه المدينة كذلك؛ مغارات كبار وصغار في الجبال، وكذلك جميع مدائن البحر على هذه الصفة، فإن كل مَن أراد أن يُصنَع له بيت يروح إلى الملك ويقول له: مرادي أن أتخذ بيتًا في المكان الفلاني. فيرسل الملك معه طائفة من السمك يُسمَّون النَّقَّارين، ويجعل كراهم شيئًا معلومًا من السمك، ولهم مناقير تفتِّت الحجر الجلمود، فيأتون إلى الجبل الذي أراده صاحب البيت وينقرون فيه البيت، وصاحب البيت يصطاد لهم من السمك ويلقِّمهم حتى تتم المغارة، فيذهبون وصاحب البيت يسكنه. وجميع أهل البحر على هذه الحالة، لا يتعاملون مع بعضهم إلا بالسمك، وكلهم سمك. ثم قال له: ادخل. فدخل، فقال عبد الله البحري: يا بنتي. وإذا ببنته أقبلتْ عليه ولها وجه مدوَّر مثل القمر، ولها شعر طويل ثقيل وطَرْف كحيل وخَصْر نحيل، لكنها عريانة ولها ذَنَب، فلما رأت عبد الله البري مع أبيها قالت له: يا أبي، ما هذا الأزعر الذي جئتَ به معك؟ فقال لها: يا بنتي، هذا صاحبي البري الذي كنتُ أجيء لك من عنده بالفاكهة البرية، تعالَي سلِّمي عليه. فتقدَّمتْ وسلَّمتْ عليه بلسان فصيح وكلام بليغ، فقال لها أبوها: هاتي زادًا لضيفنا الذي حلَّت علينا بقدومه البركة. فجاءت له بسمكتين كبيرتين، كل واحدة منهما مثل الخروف، فقال له: كُلْ. فأكل غصبًا عنه من الجوع؛ لأنه سئم من أكل السمك وليس عندهم شيء غير السمك. فما مضى حصة إلا وامرأة عبد الله البحري أقبلت، وهي جميلة الصورة ومعها ولدان، ولد في يده فرخ سمك يقرش فيه كما يقرش الإنسان في الخيارة. فلما رأت عبد الله البري مع زوجها قالت: أي شيء هذا الأزعر؟ وتقدَّم الولدان وأختهما وأمهم وصاروا ينظرون إلى دُبُر عبد الله البري ويقولون: إي والله، إنه أزعر! ويضحكون عليه. فقال له عبد الله البري: يا أخي، هل أنت جئتَ بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك؟! وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.