فلما كانت الليلة ٩٤٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن عبد الله البري قال لعبد الله البحري: يا أخي، هل أنت جئتَ بي لتجعلني سخريةً لأولادك وزوجتك؟! فقال له عبد الله البحري: العفو يا أخي؛ فإن الذي لا ذَنَبَ له غير موجود عندنا، وإذا وُجِد واحد من غير ذَنَب يأخذه السلطان ليضحك عليه، ولكن يا أخي لا تُؤاخِذ هؤلاء الأولاد الصِّغار والمرأة، فإن عقولهم ناقصة. ثم صرخ عبد الله البحري على عياله وقال لهم: اسكتوا. فخافوا وسكتوا، وجعل يأخذ بخاطره. فبينما هو يتحدث معه، وإذا بعشرة أشخاص كبار شداد غلاظ أقبلوا عليه وقالوا: يا عبد الله، إنه بلغ الملك أن عندك أزعرَ من زُعْر البر. فقال لهم: نعم، وهو هذا الرجل، فإنه صاحبي أتاني ضيفًا، ومرادي أن أُرجِعَه إلى البر. قالوا له: إننا لا نقدر أن نروح إلا به، فإن كان مرادك كلامًا فقم وخذه واحضر به قدام الملك، والذي تقوله لنا قُلْه للملِك. فقال عبد الله البحري: يا أخي، العذر واضح، ولا يمكننا مخالَفة الملِك، ولكن امضِ معي للملِك وأنا أسعى في خلاصك منه إن شاء الله، ولا تخَفْ؛ فإنه متى رآك عرف أنك من أولاد البر، ومتى علم أنك برِّي فلا بد أنه يكرمك ويردُّك إلى البر. فقال عبد الله البري: الرأي رأيك، فأنا أتوكَّل على الله وأمشي معك. ثم أخذه ومضى به إلى أن وصل إلى الملِك، فلما رآه الملِك ضحك وقال: مرحبًا بالأزعر. وصار كل مَن كان حول الملك يضحك عليه ويقول: إي والله، إنه أزعر! فتقدَّم عبد الله البحري إلى الملك وأخبره بأحواله، وقال له: هذا من أولاد البر وصاحبي، وهو لا يعيش بيننا؛ لأنه لا يحب أكل السمك إلا مقليًّا أو مطبوخًا، والمراد أنك تأذن لي في أن أردَّه إلى البر. فقال له الملك: حيث كان الأمر كذلك، لا يعيش عندنا، فقد أذنتُ لك في أن تردَّه إلى مكانه بعد الضيافة. ثم إن الملك قال: هاتوا الضيافة. فأتوا له بسمك أشكالًا وألوانًا، فأكل امتثالًا لأمر الملك، ثم قال له الملك: تمنَّ عليَّ. فقال عبد الله البري: أتمنَّى أن تعطيني جواهر. فقال: خذوه إلى دار الجوهر ودعوه ينقِّي ما يحتاج إليه. فأخذه صاحبه إلى دار الجوهر ونقَّى على قدر ما أراد، ثم رجع به إلى مدينته وأخرَجَ له صرَّة وقال له: خذ هذه أمانة أوصِلها إلى قبر النبي ﷺ. فأخذها وهو لا يعلم ما فيها، ثم خرج معه ليوصله إلى البر، فرأى في طريقه غناءً وفرحًا وسماطًا ممدودًا من السمك، والناس يأكلون ويغنون وهم في فرح عظيم، فقال عبد الله البري لعبد الله البحري: ما لهؤلاء الناس في فرح عظيم؟ هل عندهم عُرس؟ فقال البحري: ليس عندهم عُرس، وإنما مات عندهم ميت. فقال له: أنتم إذا مات عندكم ميت تفرحون له وتغنون وتأكلون؟! قال: نعم. وأنتم يا أهل البر ماذا تفعلون؟ قال البري: إذا مات عندنا ميت نحزن عليه ونبكي، والنساء يلطمْنَ وجوهَهنَّ ويشققْنَ جيوبَهنَّ حزنًا على مَن مات. فحملق عبد الله البحري عينيه في عبد الله البري وقال له: هاتِ الأمانة! فأعطاها له، ثم أخرَجَه إلى البر وقال: قد قطعتُ صحبتَك وودَّك، فبعد هذا اليوم لا تراني ولا أراك. فقال له: لماذا هذا الكلام؟ فقال له: أَمَا أنتم يا أهل البر أمانةُ الله؟ فقال البري: نعم. قال: لا يهون عليكم أن الله يأخذ أمانته، بل تبكون عليها! وكيف أعطيك أمانة النبي ﷺ؟ وأنتم إذا أتاكم المولود تفرحون به مع أن الله يضع فيه الروح أمانة، فإذا أخذها كيف تصعب عليكم وتبكون وتحزنون؟ فما لنا في رفقتكم حاجة. ثم تركه وراح إلى البحر.
ثم إن عبد الله البري لبس حوائجه وأخذ جواهره وتوجَّه إلى الملك، فتلقَّاه باشتياق وفرح به وقال له: كيف أنت يا نسيبي؟ وما سبب غيابك عني هذه المدة؟ فأخبره بقصته وما رآه من العجائب في البحر، فتعجَّب الملك من ذلك، ثم أخبره بما قاله عبد الله البحري، فقال له: هل أنت الذي أخطأت في خبرك بهذا الخبر؟ ثم إنه استمر مدة من الزمان وهو يروح إلى جانب البحر ويصيح على عبد الله البحري، فلم يرد عليه، ولم يأتِ إليه، فقطع عبد الله البري الرجاء منه، وأقام هو والملك نسيبه وأهلهما في أسرِّ حال وحسن أعمال حتى أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات وماتوا جميعًا. فسبحان الحي الذي لا يموت، ذي المُلْك والمَلَكوت، وهو على كل شيء قدير، وبعباده لطيف خبير.
حكاية هارون الرشيد وأبي الحسن العماني
ومما يُحكى أيضًا أن الخليفة هارون الرشيد أَرِق ذات ليلة أرقًا شديدًا فاستدعى مسرورًا فحضر، فقال: ائتني بجعفر بسرعة. فمضى وأحضره، فلما وقف بين يديه قال: يا جعفر، إنه قد اعتراني في هذه الليلة أرقٌ فمنع عني النوم، ولا أعلم ما يزيله عني. قال: يا أمير المؤمنين، قد قالت الحكماء: النظر إلى المرآة ودخول الحمَّام واستعمال الغناء يُزِيل الهمَّ والفكر. فقال: يا جعفر، إني فعلت هذا كله فلم يُزِل عني شيئًا، وأنا أقسم بآبائي الطاهرين إن لم تتسبَّب فيما يزيل عني ذلك لأضربَنَّ عنقك. قال: يا أمير المؤمنين، هل تفعل ما أشير به عليك؟ قال: وما الذي تشير به عليَّ؟ قال: أن تنزل بنا في زورق وتنحدر به في بحر الدجلة مع الماء إلى محل يُسمَّى قرن الصراط، لعلنا نسمع ما لم نسمع، أو ننظر ما لم ننظر، فإنه قد قيل: تفريج الهم بواحد من ثلاثة أمور: أن يرى الإنسان ما لم يكن رآه، أو يسمع ما لم يكن سمعه، أو يطأ أرضًا لم يكن وطئها. فلعل ذلك يكون سببًا لزوال القلق عنك يا أمير المؤمنين. فعند ذلك قام الرشيد من موضعه وصُحبته جعفر وأخوه الفصل وإسحاق النديم وأبو نواس وأبو دلف ومسرور السياف. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.