فلما كانت الليلة ٩٤٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما أقبلت جلست على الكرسي وأخرجت العود من الخريطة، وإذا هو مرصَّع بالجواهر واليواقيت وملاويه من الذهب، فشدَّت أوتاره لرنَّات المزاهر، وهي كما قال فيها وفي عودها الشاعر:
ثم ضمَّت العود إلى صدرها وانحنت عليه انحناء الوالدة على ولدها، وجسَّت أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه، ثم ضربت عليه وجعلت تنشد هذه الأبيات:
فلما فرغتْ من شِعرها بكت بكاءً شديدًا، وصاح كل مَن في الدار بالبكاء حتى كادوا أن يهلكوا، وما منهم أحد إلا وغاب عن وجوده ومزَّق أثوابه ولطم على وجهه لحسن غنائها. فقال الرشيد: إن غناء هذه الجارية يدل على أنها عاشقة مفارِقة. فقال سيدها: إنها ثاكلة لأمها وأبيها. فقال الرشيد: ما هذا بكاء مَن فقد أباه وأمه، وإنما هو شجو مَن فقد محبوبه. وطرب الرشيد من غنائها، وقال لإسحاق: والله، ما رأيت مثلها. فقال إسحاق: يا سيدي، إني لَأعجبُ منها غايةَ العجب، ولا أملك نفسي من الطرب. وكان الرشيد مع ذلك كله ينظر إلى صاحب الدار ويتأمَّل في محاسنه وظرف شمائله، فرأى في وجهه أثرَ اصفرار، فالتفت إليه وقال له: يا فتى. فقال: لبيك يا سيدي. فقال له: هل تعلم مَن نحن؟ قال: لا. فقال له جعفر: أتحبُّ أن نخبرك عن كل واحد باسمه؟ فقال: نعم. فقال جعفر: هذا أمير المؤمنين وابن عم سيد المرسلين. وذكر له بقية أسماء الجماعة، وبعد ذلك قال الرشيد: أشتهي أن تخبرني عن هذا الاصفرار الذي في وجهك؛ هل هو مكتسَب أو أصلي من حين ولادتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن حديثي غريب وأمري عجيب، لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لَكانَ عبرةً لمَن اعتبر. قال: أعلِمني به؛ لعل شفاك يكون على يدي. قال: يا أمير المؤمنين، أرْعِني سمعك وأخلِ لي ذرعك. قال: هاتِ فحدِّثني، فقد شوَّقتَني إلى سماعه. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني رجل تاجر من تجار البحر، وأصلي من مدينة عمان، وكان أبي تاجرًا كثير المال، وكان له ثلاثون مركبًا تعمل في البحر، أُجْرتُها في كل عام ثلاثون ألف دينار، وكان رجلًا كريمًا، وعلَّمني الخط وجميع ما يحتاج إليه الشخص، فلما حضرَتْه الوفاة دعاني وأوصاني بما جرت به العادة، ثم توفَّاه الله تعالى إلى رحمته وأبقى الله أمير المؤمنين. وكان لأبي شركاء يتَّجرون في ماله ويسافرون في البحر، فاتفق في بعض الأيام أني كنتُ قاعدًا في منزلي مع جماعة من التجار، إذ دخل عليَّ غلام من غلماني وقال: يا سيدي، إن بالباب رجلًا يطلب الإذن في الدخول عليك. فأذِنْتُ له، فدخل وهو حامل على رأسه شيئًا مغطًّى، فوضعه بين يدي وكشفه، فإذا فيه فواكه بغير أوانٍ وملح وطرائف ليست في بلادنا، فشكرته على ذلك وأعطيته مائة دينار، وانصرف شاكرًا، ثم فرَّقت ذلك على كل مَن كان حاضرًا من الأصحاب، ثم سألت التجار: من أين هذا؟ فقالوا: إنه من البصرة. وأثنَوْا عليه وصاروا يَصِفون حُسْنَ البصرة، وأجمعوا على أنه ليس في البلاد أحسن من بغداد ومن أهلها، وصاروا يَصِفون بغداد وحُسْنَ أخلاق أهلها، وطِيب هوائها، وحُسْن تركيبها، فاشتاقتْ نفسي إليها، وتعلقتْ آمالي برؤيتها، فقمت وبعت العقارات والأملاك، وبعت المراكب بمائة ألف دينار، وبعت العبيد والجواري، وجمعتُ مالي فصار ألف ألف دينار غير الجواهر والمعادن، واكتريتُ مركبًا وشحنته بأموالي وسائر مَتاعي، وسافرتُ به أيامًا وليالي حتى جئتُ إلى البصرة، فأقمتُ بها مدة، ثم استأجرت سفينة ونزلت ما لي فيها، وسرنا منحدرين أيامًا قلائل حتى وصلنا إلى بغداد، فسألت أين تسكن التجار؟ وأي موضع أطيب للسكان؟ فقالوا: في حارة الكرخ. فجئت إليها واستأجرت دارًا في دربٍ يُسمَّى الزعفران، ونقلت جميع ما لي إلى تلك الدار، وأقمت فيها مدة، ثم توجَّهتُ في بعض الأيام إلى الفرجة ومعي شيء من المال، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة، فأتيت إلى جامعٍ يُسمَّى جامع المنصور تُقام فيه الجمعة، وبعد أن خلصنا من الصلاة خرجتُ مع الناس إلى موضع يُسمَّى قرن الصراط، فرأيت في ذلك المكان موضعًا عاليًا جميلًا وله روشن مطِلٌّ على الشاطئ، وهناك شباك، فذهبت في جملة الناس إلى ذلك المكان، فرأيت شيخًا جالسًا وعليه ثياب جميلة وتفوح منه رائحة طيبة، وقد سرَّح لحيته فافترقت على صدره فرقتين كأنها قُضُب من لُجَيْن، وحوله أربع جوارٍ وخمسة غلمان، فقلت لشخص: ما اسم هذا الشيخ؟ وما صنعته؟ فقال: هذا طاهر بن العلاء وهو صاحب الفتيان، كل مَن دخل عنده يأكل ويشرب وينظر إلى الملاح. فقلت له: والله إنَّ لي زمانًا أدور على مثل هذا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.