فلما كانت الليلة ٩٥٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما حدَّث أمير المؤمنين بصفات الجارية قال له: وهي كالبدر في ليلة أربعة عشر، ذات حُسْن وجمال، وقَدٍّ واعتدال، وألفاظ تفضح رنات المزاهر، كأنها المقصودة بقول الشاعر:
وما أحسن قول الآخر:
وما أحسن قول الآخر:
فسلَّمت عليها فقالت: أهلًا وسهلًا ومرحبًا. وأخذتْ بيدي يا أمير المؤمنين وأجلستني إلى جانبها. فمن فرط الاشتياق بكيتُ مخافةَ الفراق، وأسبلتُ دمع العين، وأنشدتُ هذين البيتين:
ثم إنها صارت تؤانسني بلطف الكلام، وأنا غريق في بحر الغرام، خائف في القرب ألمَ الفراقِ من فرط الوَجْد والاشتياق، وتذكَّرتُ لوعة النوى والبَيْنِ فأنشدتُ هذين البيتين:
ثم أمرتْ بإحضار الأطعمة، فأقبلتْ أربع جوارٍ نُهْدٌ أبكار، فوضعْنَ بين أيدينا من الأطعمة والفاكهة والحلوى والمشموم والمُدَام ما يصلح للملوك، فأكلنا يا أمير المؤمنين وجلسنا على المُدَام وحولنا الرياحين في مجلس لا يصلح إلا للملك، ثم جاءتها يا أمير المؤمنين جارية بخريطة من الإِبْرِيسَم، فأخذَتْها وأخرجتْ منها عودًا فوضعَتْه في حِجْرها، وجسَّت أوتاره فاستغاث كما يستغيث الصبي بأمه، وأنشدت هذين البيتين:
فأقمتُ يا أمير المؤمنين عندها على هذه الحالة مدةً من الزمان حتى نفدَ جميع مالي، فتذكَّرتُ وأنا جالس معها مُفارَقتها، فنزلتْ دموعي على خدي كالأنهار، وصرتُ لا أعرف الليل من النهار، فقالت: لأي شيء تبكي؟ فقلت لها: يا سيدتي، من حين جئتُ إليك وأبوك يأخذ مني في كل ليلة خمسمائة دينار، وما بقي عندي شيء من المال، وقد صدق الشاعر حيث قال:
فقالت: اعلم أن أبي من عادته أنه إذا كان عنده تاجر وافتقر فإنه يضيفه ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك يُخرِجه فلا يعود إلينا أبدًا، ولكن اكتمْ سرَّك وأخفِ أمرَك وأنا أعمل حيلة في اجتماعي بك إلى ما شاء الله، فإن لك في قلبي محبةً عظيمة. واعلم أن جميع مال أبي تحت يدي، وهو لا يعرف قدره، فأنا أعطيك في كل يومٍ كيسًا فيه خمسمائة دينار، وأنت تعطيه لأبي وتقول له: ما بقيت أعطي الدراهم إلا يومًا بيوم. وكلما دفعتَه إليه فإنه يدفعه إليَّ وأنا أعطيه لك، ونستمر هكذا إلى ما شاء الله. فشكرتها على ذلك وقبَّلت يدها، ثم أقمت عندها يا أمير المؤمنين على هذه الحالة مدة سنة كاملة، فاتفق في بعض الأيام أنها ضربت جاريتها ضربًا وجيعًا، فقالت لها: والله لَأوجعنَّ قلبك كما أوجعتِني. ثم مضت تلك الجارية إلى أبيها وأعلمَتْه بأمرنا من أوله إلى آخره، فلما سمع طاهر بن العلاء كلام الجارية قام من ساعته ودخل عليَّ وأنا جالس مع ابنته، وقال لي: يا فلان! قلت له: لبيك. قال: عادتنا أنه إذا كان عندنا تاجر وافتقر أننا نضيفه عندنا ثلاثة أيام، وأنت لك سنة عندنا تأكل وتشرب وتفعل ما تشاء. ثم التفت إلى غلمانه وقال: اخلعوا ثيابه. ففعلوا وأعطوني ثيابًا رديئة قيمتها خمسة دراهم، ودفعوا إليَّ عشرة دراهم، ثم قال لي: اخرج، فأنا لا أضربك ولا أشتمك، واذهب إلى حال سبيلك، وإنْ أقمتَ في هذه البلدة كان دمك هَدَرًا. فخرجتُ يا أمير المؤمنين برغم أنفي، ولا أعلم أين أذهب، وحلَّ في قلبي كلُّ همٍّ في الدنيا، وأشغلني الوسواس، وقلت في نفسي: كيف أجيء في البحر بمائة ألف ألف من جملتها ثمن ثلاثين مركبًا ويذهب هذا كله في دارِ هذا الشيخ النحس، وبعد ذلك أخرج من عنده عريانًا مكسور القلب؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ثم أقمت في بغداد ثلاثة أيام لم أذُق طعامًا ولا شرابًا، وفي اليوم الرابع رأيت سفينة متوجِّهة إلى البصرة، فنزلت فيها واستكريت مع صاحبها إلى أن وصلَتِ البصرة، فدخلتُ السوق وأنا في شدة الجوع، فرآني رجل بقَّال، فقام إليَّ وعانقني؛ لأنه كان صاحبًا لي ولأبي من قبلي، وسألني عن حالي، فأخبرته بجميع ما جرى لي، فقال: والله ما هذه فِعَال عاقل! ومع هذا الذي جرى لك فأي شيء في ضميرك تريد أن تفعله؟ فقلت له: لا أدري ماذا أفعل. فقال: أتجلس عندي وتكتب خرجي ودخلي، ولك في كل يوم درهمان زيادة على أكلك وشربك؟ فأجبته إلى ذلك وأقمت عنده يا أمير المؤمنين سنةً كاملة أبيع وأشتري إلى أن صار معي مائة دينار، فاستأجرت غرفةً على شاطئ البحر؛ لعل مركبًا يأتي ببضاعة فأشتري بالدنانير بضاعة وأتوجَّه بها إلى بغداد. فاتفق في بعض الأيام أن المركب جاء، وتوجَّه إليه جميع التجار يشترون، فرُحتُ معهم، وإذا برجلَيْن قد خرجَا من بطن المركب ونصبا لهما كرسيَّيْن وجلسا عليهما، ثم أقبل التجار عليهما لأجل الشراء، فقالا لبعض الغلمان: أحضِرُوا البساط. فأحضَرُوه وجاء واحد بخُرجٍ فأخرج منه جرابًا وفتحه وكبَّه على البساط، وإذا به يخطف البصر لما فيه من الجواهر واللؤلؤ والمرجان والياقوت والعقيق من سائر الألوان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.