فلما كانت الليلة ٨٨١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ الريس لما قال لنور الدين: أنا أوصلك إليها إن شاء الله تعالى. قال له نور الدين: متى السفر؟ قال الريس: قد بقي لنا ثلاثة أيام ونسافر في خير وسلامة. فلما سمع نور الدين كلام الريس فرح فرحًا شديدًا وشكر فضله وإحسانه، وبعد ذلك تذكَّرَ أيامَ الوصال واجتماع الشَّمْل بجاريته العديمة المثال، فبكى بكاءً شديدًا، وأنشد هذه الأبيات:
ثم إن نور الدين طلع من وقته وساعته وتوجَّهَ إلى السوق، وأخذ منه جميع ما يحتاج إليه من الزاد وأدوات السفر، وأقبَلَ على ذلك الريس، فلما رآه قال له: يا ولدي، ما هذا الذي معك؟ قال: زوادتي وما أحتاج إليه في السفر. فضحك الريس من كلامه وقال له: يا ولدي، هل أنت رائح تتفرَّج على عمود السواري؟ إن بينك وبين مقصدك مسيرة شهرين إذا طاب الريح وصفَتِ الأوقات. ثم إن ذلك الشيخ أخذ من نور الدين شيئًا من الدراهم، وطلع إلى السوق واشترى له جميع ما يحتاج إليه في السفر على قدر كفايته، وملأ له بتيةً ماءً حلوًا، ثم أقام نور الدين في المركب ثلاثة أيام إلى أن تجهَّزَ التجار وقضَوْا مصالحهم ونزلوا في المركب، ثم حلَّ الريس قلوعها وساروا مدةَ واحدٍ وخمسين يومًا، وبعد ذلك خرج عليهم القراصِن قطَّاع الطريق، فنهبوا المركب وأسروا جميع مَن فيها، وأتوا بهم إلى مدينة إفرنجة وعرضوهم على الملك، وكان نور الدين من جملتهم، فأمر الملك بحبسهم، وفي وقت نزولهم من عند الملك إلى الحبس، وصل الغُراب الذي فيه الملكة مريم الزنارية مع الوزير الأعور، فلما وصل الغُراب إلى المدينة طلع الوزير إلى الملك وبشَّرَه بوصول ابنته مريم الزنارية سالمةً، فدقُّوا البشائر وزيَّنوا المدينةَ بأحسن زينة، وركب الملك في جميع عسكره وأرباب دولته، وتوجَّهوا إلى البحر ليقابلوها، فلما وصلت المركب طلعت ابنته مريم فعانَقَها وسلَّم عليها وسلَّمت عليه، وقدَّمَ لها جوادًا فركبته، فلما وصلت إلى القصر قابلتها أمها وعانقَتْها وسلَّمَتْ عليها وسألتها عن حالها، وهل هي بِكْر مثل ما كانت عندهم سابقًا أو صارت امرأة ثيِّبًا؟ فقالت لها مريم: يا أمي، بعد أن يباع الإنسان في بلاد المسلمين من تاجر إلى تاجر ويصير محكومًا عليه، كيف يبقى بنتًا بكرًا؟ إن التاجر الذي اشتراني هدَّدني بالضرب وغصبني وأزال بكارتي وباعني لآخَر، وآخَر باعني لآخَر. فلما سمعت أمها منها هذا الكلام، صار الضياء في وجهها ظلامًا، ثم أعادت على أبيها هذا الكلام، فصعب ذلك عليه وكَبُر أمره لديه، وعرض حالها على أرباب دولته وبطارقته، فقالوا له: أيها الملك، إنها تنجَّسَتْ من المسلمين، وما يطهِّرها إلا ضرب مائة رقبة من المسلمين. فعند ذلك أمر بإحضار الأسارى الذين في الحبس، فأحضروهم جميعًا بين يدَيْه ومن جملتهم نور الدين، فأمر الملك بضرب رقابهم، فأول مَن ضربوا رقبته ريس المركب، ثم ضربوا رقاب التجار واحدًا بعد واحدٍ، حتى لم يَبْقَ إلا نور الدين، فشرطوا ذيله وعصبوا عينَيْه وقدَّموه إلى نطع الدم، وأرادوا أن يضربوا رقبته، وإذا بامرأةٍ عجوز أقبلَتْ على الملك في تلك الساعة وقالت له: يا مولاي، أنت كنتَ نذرتَ لكلِّ كنيسةٍ خمسةَ أسارى من المسلمين، إنْ ردَّ الله بنتك مريم، لأجل أن يساعدوا في خدمتها، والآن قد وصلَتْ إليك بنتك السيدة مريم، فأَوْفِ بنذرك الذي نذرته. فقال لها الملك: يا أمي، وحقِّ المسيح والدين الصحيح، لم يَبْقَ عندي من الأسارى غير هذا الأسير الذي يريدون قتله، فخذيه معك يساعدك في خدمة الكنيسة إلى أن يأتي إلينا أسارى من المسلمين، فأُرسِل إليك أربعةً آخَرين، ولو كنتِ سبقت قبل أن يضربوا رقاب هؤلاء الأسارى لَأعطيناك كلَّ ما تريدينه. فشكرَتِ العجوزُ صنيعَ الملك ودعَتْ له بدوام العز والبقاء والنِّعَم، ثم تقدَّمَتِ العجوز من وقتها وساعتها إلى نور الدين وأخرجته من نطع الدم، ونظرَتْ إليه فرأته شابًّا لطيفًا ظريفًا رقيق البشرة، ووجهه كأنه البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر، فأخذته ومضت به إلى الكنيسة وقالت له: يا ولدي، اقلع ثيابَك التي عليك فإنها لا تصلح إلا لخدمة السلطان. ثم إن العجوز جاءت لنور الدين بجبةٍ من صوف أسود، ومِئْزرٍ من صوف أسود، وسير عريض، فألبسته تلك الجبة وعمَّمَتْه بالمِئْزر، وشدَّتْ وسطه بالسير، وأمَرَتْه أن يخدم الكنيسة، فخدم الكنيسة مدة سبعة أيام، فبينما هو كذلك وإذا بتلك العجوز قد أقبلَتْ عليه وقالت له: يا مسلم، خذ ثيابك الحرير والبسها، وخذ هذه العشرة دراهم واخرج في هذه الساعة لتتفرج في هذا اليوم، ولا تقف هنا ساعة واحدة لئلا تروح روحك. فقال لها نور الدين: يا أمي، أيُّ شيءٍ الخبر؟ فقالت له العجوز: اعلم يا ولدي، أن بنت الملك السيدة مريم الزنارية تريد أن تدخل الكنيسة في هذا الوقت لأجل أن تزورها وتتبرَّك بها وتقرِّب لها قربانًا حلاوةَ السلامة بسبب خلاصها من بلاد المسلمين، وتُوفِّي لها النُّذُر التي نذرَتْها إنْ نجَّاها المسيح، ومعها أربعمائة بنت، ما واحدة منهن إلا كاملة في الحُسْن والجمال، ومن جملتهن بنت الوزير وبنات الأمراء وأرباب الدولة، وفي هذه الساعة يحضرون، وربما يقع نظرهن عليك في هذه الكنيسة فيقطِّعنك بالسيوف. فعند ذلك أخذ نور الدين من العجوز العشرة دراهم بعد أن لبس ثيابه وخرج إلى السوق، وصار يتفرج في شوارع المدينة حتى عرف جهاتها وأبوابها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.