فلما كانت الليلة ٩٥٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بوَّاب الخان لمَّا صنعت زوجتُهُ الطعام والشراب أخذه ودخل به على ابن السلطان، فأكلا وشرِبا وطرِبا، فبكى الغلام وأنشد هذين البيتين:
ثم شهق شهقةً عظيمة وخَرَّ مغشيًّا عليه، فتنهَّد بوَّاب الخان، فلما أفاق قال له بواب الخان: يا سيدي، ما يُبكِيك؟ ومَن هي التي تريدها بهذا الشِّعر؟ فإنها لا تكون إلا ترابًا لأقدامك. فقام الغلام وأخرَجَ بقجة من أحسن ملابس النساء، وقال له: خُذْ هذه إلى حريمك. فأخذها منه ودفعها إلى زوجته، فأتت معه ودخلت على الغلام، فإذا هو يبكي، فقالت له: فتَّتَّ أكبادنا، فعرِّفنا بأي مليحة تريدها، وهي لا تكون إلا جارية عندك. فقال: يا عمِّ، اعلم أني أنا ابن الخصيب صاحب مصر، وأني متعلِّق بجميلة بنت الليث العميد. فقالت زوجة بواب الخان: الله الله يا أخي أن تترك هذا الكلام لئلا يسمع بنا أحدٌ فنهلك؛ فإنه ما على وجه الأرض أجبرُ منها ولا يقدر أحدٌ أن يذكر لها اسم رجل؛ لأنها زاهدة في الرجال. فيا ولدي، اعدلْ عنها لغيرها. فلما سمع كلامها بكى بكاءً شديدًا، فقال له بواب الخان: ما لي سوى روحي، فأنا أخاطر بها في هواك، وأُدبِّر لكَ أمرًا فيه بلوغ مرادك. ثم خرجا من عنده، فلما أصبح الصباح دخل الحمَّام ولبس حلة من ملبوس الملوك، وإذا ببوَّاب الخان هو وزوجته قَدِما عليه وقالا له: يا سيدي، اعلم أن هنا رجلًا خيَّاطًا أحدب، وهو خيَّاط السيدة جميلة، فاذهبْ إليه وأخبره بحالك، فعساه يدلُّك على ما فيه وصولك إلى أغراضك. فقام الغلام وقصد دكان الخياط الأحدب، فدخل عليه فوجد عنده عشرة مماليك كأنهم الأقمار، فسلَّم عليهم فردُّوا عليه السلام، وفرحوا به وأجلسوه وتحيَّروا في محاسنه وجماله، فلما رآه الأحدب اندهش عقله من حُسْن صورته، فقال له الغلام: أريد أن تخيط لي جيبي. فتقدَّم الخياط وأخذ فتلةً من الحرير وخاطه، وكان الغلام قد فتق جيبه عمدًا، فلما خاطه أخرج له خمسة دنانير وأعطاها له، وانصرف إلى حجرته، فقال الخياط: أي شيء عملته لهذا الغلام حتى أعطاني الخمسة دنانير؟! ثم بات ليلته يفكِّر في حُسْنه وكرمه، فلما أصبح الصباح ذهب إلى دكان الخياط الأحدب، ثم دخل وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام وأكرمه ورحَّب به، فلما جلس، قال للأحدب: يا عمِّ، خيِّط لي جيبي، فإنه فُتِق ثانيًا. فقال له: يا ولدي، على الرأس والعين. ثم تقدَّم وخاطه، فدفع له عشرة دنانير، فأخذها وصار مبهوتًا من حُسنه وكرمه، ثم قال: والله يا غلام، إن فعلك هذا لا بد له من سبب، وما هذا خبر خياطة جيب، ولكن أخبرني عن حقيقة أمرك، فإن كنتَ عشقت واحدًا من هؤلاء الأولاد، فوالله ما فيهم أحسن منك، وكلهم تراب أقدامك، وها هم عبيدك بين يديك، وإن كان غير هذا فأخبرني. فقال: يا عمِّ، ما هذا محل الكلام، فإنَّ حديثي عجيب وأمري غريب. قال: فإذا كان الأمر كذلك فقُمْ بنا في خلوة.
ثم نهض الخيَّاط وأخذ بيده ودخل معه حجرة في داخل الدكان، وقال له: يا غلام، حدِّثني. فحدَّثه بأمره من أوله إلى آخره، فبُهِت من كلامه وقال: يا غلام، اتقِ الله في نفسك، فإن التي ذكرتَها جبَّارة زاهدة في الرجال، فاحفظْ يا أخي لسانك، وإلا فإنك تهلك نفسك. فلما سمع الغلام كلامه بكى بكاءً شديدًا، ولزم ذيل الخياط وقال: أجِرني يا عم، فإني هالك، وقد تركت مُلكي ومُلك أبي وجَدِّي وصرت في البلاد غريبًا وحيدًا، ولا صبرَ لي عنها. فلما رأى الخياط ما حلَّ به رَحِمه وقال: يا ولدي، ما عندي إلا نفسي، فأخاطر بها في هواك، فإنك قد جرحتَ قلبي، ولكن في غدٍ أُدبِّر لك أمرًا يطيب به قلبك. فدعا له وانصرف إلى الخان، فحدَّثَ بوَّابَ الخان بما قاله الأحدب، فقال له: قد فعل معك جميلًا. فلما أصبح الصباح لبس الغلام أفخر ثيابه، وأخذ معه كيسًا فيه دنانير، وأتى إلى الأحدب فسلَّم عليه وجلس، ثم قال له: يا عمِّ، أنجز وعدي. فقال له: قُم في هذه الساعة وخُذْ ثلاثَ دجاجات سمان وثلاث أواقٍ من السكر النبات، وكوزَيْن لطيفَيْن واملأهما شرابًا، وخذْ قدحًا وضَعْ ذلك في كارة، وانزل بعد صلاة الصبح في زورق مع ملَّاح وقل له: أريد أن تذهب بي تحت البصرة. فإن قال لك: ما أقدر أن أعدِّي أكثر من فرسخ، فقل له: الرأي لك. فإذا عدَّى فرغِّبه بالمال حتى يوصلك، فإذا وصلتَ فأول بستان تراه فإنه بستان السيدة جميلة، فإذا رأيته فاذهب إلى بابه تَرَ درجتين عاليتين عليهما فرش من الديباج، وجالس عليهما رجل أحدب مثلي، فاشْكُ إليه حالك، وتوسَّل به، فعساه أن يرثي لحالك ويوصلك إلى أن تنظرها ولو نظرة من بعيد، وما بيدي حيلة غير هذا. وأما إذا لم يرثِ لحالك فقد هلكتُ أنا وأنت، وهذا ما عندي من الرأي، والأمر إلى الله تعالى. فقال الغلام: استعنتُ بالله، ما شاء الله كان ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قام من عند الخياط الأحدب وذهب إلى حجرته، وأخذ ما أمره به في كارة لطيفة، ثم إنه لما أصبح جاء إلى شاطئ الدجلة، وإذا هو برجل ملَّاح نائم، فأيقَظَه وأعطاه عشرة دنانير وقال له: عَدِّني إلى تحت البصرة. فقال له: يا سيدي، بشرط أني لا أعدِّي أكثر من فرسخ، وإن تجاوزتُه شبرًا هلكتُ أنا وأنت. فقال له: الرأي لك. فأخذه وانحدر به، فلما قرب من البستان قال: يا ولدي، من هنا ما أقدر أن أعدِّي، فإن تعديتُ هذا الحد هلكتُ أنا وأنت. فأخرَجَ له عشرة دنانير أخرى وقال له: خُذْ هذه النفقة لتستعين بها على حالك. فاستحى منه وقال: سلَّمتُ الأمرَ لله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.