فلما كانت الليلة ٩٥٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام لما أعطى للملَّاح العشرة دنانير الأخرى أخذها وقال: سلَّمتُ الأمر لله تعالى. وانحدر به، فلما وصل إلى البستان نهض الغلام من فرحته، ووثب من الزورق وثبةً مقدار رمية رمح، ورمى نفسه، فرجع الملاح هاربًا، ثم تقدَّم الغلام فرأى جميع ما وصفه له الأحدب من البستان، ورأى بابه مفتوحًا، وفي الدهليز سرير من العاج جالس عليه رجل أحدب لطيف المنظر، عليه ثياب مذهَّبة، وفي يده دبوس من فضة مطلي بالذهب. فنهض الغلام مسرعًا وانكبَّ على يده وقبَّلها، فقال له: مَن أنت؟ ومِن أين أتيت؟ ومَن أوصلك إلى ها هنا يا ولدي؟ وكان ذلك الرجل لما رأى إبراهيم بن الخصيب انبهر من جماله، فقال له إبراهيم: يا عمِّ، أنا صبي جاهل غريب. ثم بكى، فرقَّ له وأصعده على السرير، ومسح له دموعه وقال له: لا بأس عليك، إن كنتَ مديونًا قضى الله دَيْنك، وإنْ كنتَ خائفًا آمن الله خوفك. فقال: يا عمِّ، ما بي خوف ولا عليَّ دَيْن، ومعي مال جزيل بحمد الله وعونه. فقال له: يا ولدي، ما حاجتك حتى خاطرتَ بنفسك وجمالك إلى محلٍّ فيه الهلاك؟ فحكى له حكايته، وشرح له أمره، فلما سمع كلامه أطرق رأسه ساعةً إلى الأرض وقال: هل الذي دلَّك عليَّ الخياط الأحدب؟ قال له: نعم. قال: هذا أخي، وهو رجل مبارك. ثم قال: يا ولدي، لولا أن محبَّتك نزلتْ في قلبي ورحمتك لَهلكْتَ أنت وأخي وبوَّاب الخان وزوجته. ثم قال: اعلم أن هذا البستان ما على وجه الأرض مثله، وأنه يُقال له بستان اللؤلؤة، وما دخَلَه أحدٌ مدةَ عمري إلا السلطان وأنا وصاحبته جميلة، وأقمتُ فيه عشرين سنة، فما رأيت أحدًا جاء إلى هذا المكان، وكل أربعين يومًا تأتي في المركب إلى ها هنا وتصعد بين جواريها في حلة أطلس، تحمل أطرافها عشرُ جوارٍ بكلاليب من الذهب إلى أن تدخل، فلم أرَ منها شيئًا، ولكن أنا ما لي إلا نفسي فأخاطر بها من أجلك. فعند ذلك قبَّل الغلام يده، فقال له: اجلس عندي حتى أدبِّر لك أمرًا. ثم أخذ بيد الغلام وأدخله البستان.
فلما رأى إبراهيم ذلك البستان ظنَّ أنه الجنة ورأى الأشجار ملتفَّة، والنخيل باسقة، والمياه متدفقة، والأطيار تناغي بأصوات مختلفة، ثم ذهب به إلى قبَّة وقال له: هذه التي تقعد فيها السيدة جميلة. فتأمَّلَ تلك القبة فوجَدَها من أعجب المتنزهات، وفيها سائر التصاوير بالذهب واللازورد، وفيها أربعة أبواب يصعد إليها بخمس درج، وفي وسطها بركة ينزل إليها بدرج من الذهب، وتلك الدرج مرصَّعة بالمعدن، وفي وسط البركة سلسبيل من الذهب فيه صور كبار وصغار، والماء يخرج من أفواهها، فإذا صفقت الصور عند خروج الماء بأصوات مختلفة تخيل لسامعها أنه في الجنة. وحول القبة ساقية قواديسها من الفضة، وهي مكسوَّة بالديباج، وعلى يسار الساقية شباك من الفضة مطلٌّ على برج أخضر فيه من سائر الوحوش والغزلان والأرانب، وعلى يمينها شباك مطل على ميدان فيه من سائر الطيور، وكلها تغرِّد بأصوات مختلفة تدهش السامع. فلما رأى الغلام ذلك أخذه الطرب، وقعد في باب البستان وقعد البستاني بجانبه، فقال له: كيف ترى بستاني؟ فقال له الغلام: هو جنة الدنيا. فضحك البستاني، ثم قام وغاب عنه ساعة وعاد ومعه طبق فيه دجاج وسمان ومأكول مليح وحلوى من السكر، فوضعه بين يدي الغلام وقال له: كُلْ حتى تشبع. قال إبراهيم: فأكلت حتى اكتفيت. فلما رآني أكلتُ فرح وقال: والله، هكذا شأن الملوك أولاد الملوك. ثم قال: يا إبراهيم، أي شيء معك في هذه الكارة؟ فحللتها بين يديه، فقال: احملها معك، فإنها تنفعك إذا حضرت السيدة جميلة، فإنها إذا جاءت لا أقدر أن أدخل لك بما تأكل. ثم قام وأخذ بيدي وأتى بي إلى مكان قبالَ قبةِ جميلة، فعمل عريشة بين الأشجار وقال: اصعد هنا، فإذا جاءت فإنك تنظرها وهي لا تنظرك، وهذا أكثر ما عندي من الحيلة، وعلى الله الاعتماد، فإذا غنَّت فاشرب على غنائها، فإذا ذهبت فارجع من حيث جئتَ إن شاء الله مع السلامة. فشكره الغلام وأراد أن يقبِّل يده، فمنعه. ثم إن الغلام وضع الكارة في العريشة التي عملها له، ثم قال له البستاني: يا إبراهيم، تفرَّجْ في البستان، وكُلْ من أثماره، فإن ميعاد حضور صاحبتك في غد. فصار إبراهيم يتنزَّه في البستان ويأكل من أثماره، وبات ليلته عنده، فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، صلَّى إبراهيم الصبح، وإذا بالبستاني جاءه وهو مُصفرَّ اللون، وقال له: قم يا ولدي واصعد إلى العريشة، فإن الجواري قد أتينَ ليفرشْنَ المكان، وهي تأتي بعدهن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.