فلما كانت الليلة ٩٥٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة جميلة لما مضت إلى الجواري قالت لهن: قُمْن بنا لنروح إلى قصرنا. فقلن لها: كيف نقوم في هذه الساعة وعادتنا أننا نقعد ثلاثة أيام؟ فقالت: إني أجد في نفسي ثقلًا عظيمًا كأني مريضة، وأخاف أن يثقل عليَّ ذلك. فقلن لها: سمعًا وطاعة. فلبسن ثيابهن، ثم توجَّهن إلى الشاطئ ونزلن في الزورق، وإذا بالبستاني قد أقبل على إبراهيم وما عنده عِلْم بالذي جرى له، فقال: يا إبراهيم، ما لك حظٌّ في التلذُّذ برؤيتها؛ فإن من عادتها أن تقيم هنا ثلاثة أيام، وأنا أخاف أن تكون رأتك. فقال إبراهيم: ما رأتني ولا رأيتها ولا خرجتُ من القبة. قال: صدقتَ يا ولدي، فإنها لو رأتك لكنَّا هلكنا، ولكن اقعد عندي حتى تأتي في الأسبوع الثاني وتراها وتشبع من النظر إليها. فقال إبراهيم: يا سيدي، إن معي مالًا وأخاف عليه، وورائي رجال فأخاف أن يستغيبوني. فقال: يا ولدي، إنه يعزُّ عليَّ فراقك. ثم عانَقَه وودَّعه. ثم إن إبراهيم توجَّه إلى الخان الذي كان نازلًا فيه، وقابَلَ بواب الخان وأخذ ماله، فقال له بواب الخان: خبرُ خيرٍ إن شاء الله. فقال له إبراهيم: إني ما وجدتُ إلى حاجتي سبيلًا، وأريد أن أرجع إلى أهلي. فبكى بوَّاب الخان وودَّعه وحمل أمتعته ووصَّله إلى المركب، وبعد ذلك توجَّه إلى المحل الذي قالت له عليه وانتظرها فيه، فلما جنَّ الليل إذا بها قد أقبلت عليه وهي في زي رجل شجاع بلحية مستديرة ووسط مشدود بمنطقة، وفي إحدى يديها قوس ونشاب، وفي الأخرى سيف مجرد، وقالت له: هل أنت ابن الخصيب صاحب مصر؟ فقال لها إبراهيم: هو أنا. فقالت له: وأيُّ علق أنت حتى جئت تفسد بنات الملوك؟ قُمْ كلِّم السلطان. قال إبراهيم: فوقعتُ مغشيًّا عليَّ، وأما الملاحون فإنهم ماتوا في جلودهم من الخوف. فلما رأت ما حلَّ بي خلعتْ تلك اللحية ورمت السيف وحلَّت المنطقة، فرأيتها هي السيدة جميلة، فقلت لها: والله إنك قطَّعت قلبي.
ثم قلت للملاحين: أسرعوا في سير المركب. فحَلُّوا الشِّراع وأسرعوا في السير، فما كان إلا أيام قلائل حتى وصلنا إلى بغداد، وإذا بمركب واقفة على جانب الشط، فلما رآنا الملاحون الذين فيها صاحوا على الملاحين الذين معنا وصاروا يقولون: يا فلان، ويا فلان، نهنِّيكم بالسلامة. ثم دفعوا مركبهم على مركبنا فنظرنا فإذا فيها أبو القاسم الصندلاني، فلما رآنا قال: إن هذا هو مطلوبي، امضوا في وداعة الله، وأنا أريد التوجُّه إلى غرض. وكان بين يديه شمعة، ثم قال لي: الحمد لله على السلامة، هل قضيتَ حاجتك؟ قلت: نعم. فقرَّب الشمعة منَّا، فلما رأته جميلة تغيَّر حالها، واصفرَّ لونها، ولما رآها الصندلاني قال: اذهبوا في أمان الله، أنا رايح إلى البصرة في مصلحة للسلطان، ولكن الهدية لمَن حضر. ثم أحضر عُلبة من الحلويات ورماها في مركبنا، وكان فيها البنج. فقال إبراهيم: يا قرَّة عيني، كُلِي من هذا. فبكت وقالت: يا إبراهيم، أتدري مَن هذا؟ قلت: نعم، هذا فلان. قالت: إنه ابن عمي، وكان سابقًا خطبني من والدي، فما رضيت به، وهو متوجِّه إلى البصرة، فربما يعرِّف أبي بنا. فقلت: يا سيدتي، هو لا يصل إلى البصرة حتى نصل نحن إلى الموصل — ولم يعلما بما هو مخبوء لهما في الغيب — فأكلتُ شيئًا من الحلاوة، فما نزلت جوفي حتى ضربتُ الأرض برأسي، فلما كان وقت السَّحَر عطست فخرج البنج من منخري، وفتحت عيني فرأيت نفسي عريانًا مرميًّا في الخراب، فلطمت على وجهي وقلت في نفسي: إن هذه حيلة عملها عَلَيَّ الصندلاني! فصرت لا أدري أين أذهب وما عليَّ سوى سروال، فقمت وتمشيت قليلًا، وإذا بالوالي أقبل عليَّ ومعه جماعة بسيوف ومطارق، فخفت، فرأيت حمَّامًا خربًا، فتواريت فيه، فعَثَرَتْ رِجلي في شيء، فوضعتُ يدي عليه فتلوَّثتْ بالدم، فمسحتها في سروالي ولم أعلم ما هو، ثم مددت يدي إليه ثانيًا فجاءت على القتيل، وطلعت رأسه في يدي فرميتها وقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم دخلت زاوية من زوايا الحمام، وإذا بالوالي وقف على باب الحمام وقال: ادخلوا هذا المكان وفتِّشوا. فدخل منهم عشرة بالمشاعل، فمن خوفي دخلت وراء حائط، فتأمَّلت ذلك المقتول فرأيتُه صبيَّةً ووجهها كالبدر، ورأسها في ناحية وجثتها في ناحية، وعليها ثياب ثمينة، فلما رأيتها وقعت الرجفة في قلبي، ودخل الوالي وقال: فتِّشوا جهات الحمام. فدخلوا الموضع الذي أنا فيه، فنظرني رجل منهم فجاءني وبيده سكين طولها نصف ذراع، فلما قرب مني قال: سبحان الله خالق هذا الوجه الحسن! يا غلام، من أين أنت؟ ثم أخذ بيدي وقال: يا غلام، لأي شيء قتلتَ هذه المقتولة؟ فقلت: والله ما قتلتها، وما أعرف مَن قتلها، وما دخلت هذا المكان إلا فزعًا منكم. وأخبرته بقصتي وقلت له: بالله عليك لا تظلمني، فإني مشغول بنفسي. فأخذني وقدَّمني إلى الوالي، فلما رأى على يدي أثر الدم، قال: هذا لا يحتاج إلى بيِّنة، فاضربوا عنقه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.