فلما كانت الليلة ٩٥٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الخصيب قال: فلما قدَّموني إلى الوالي ورأى على يدي أثر الدم، قال: هذا لا يحتاج إلى بيِّنة، فاضربوا عنقه. فلما سمعت هذا الكلام بكيتُ بكاءً شديدًا، وجرت مني دموع العين، وأنشدتُ هذين البيتين:
ثم شهقتُ شهقة فوقعتُ مغشيًّا عليَّ، فرقَّ لي قلب الجلاد وقال: والله ما هذا وجه قتل! فقال الوالي: اضربوا عنقه. فأجلسوني في نطع الدم وشدُّوا على عيني غطاءً، وأخذ السيَّاف سيفه واستأذن الوالي وأراد أن يضرب عنقي، فصحت: وا غربتاه! وإذا بخَيْلٍ قد أقبلت وقائل يقول: دعوه، امنعْ يدَك يا سيَّاف. وكان لذلك سبب عجيب وأمر غريب، وهو أن الخصيب صاحب مصر كان قد أرسَلَ حاجبَه إلى الخليفة هارون الرشيد ومعه هدايا وتُحَف، وصحبتُه كتابٌ يذكر له فيه: إن ولدي قد فُقِد من منذ سنة، وقد سمعتُ أنه ببغداد، والمقصود من إنعام خليفة الله أن يفحص عن خبره ويجتهد في طلبه ويرسله إليَّ مع الحاجب. فلما قرأ الخليفة الكتابَ أمر الوالي أن يبحث عن حقيقة خبره، فلم يزل الوالي والخليفة يسألان عنه حتى قيل له بالبصرة، فأُخبِرَ الخليفةُ بذلك، فكتب الخليفة كتابًا وأعطاه للحاجب المصري، وأمره أن يسافر إلى البصرة ويأخذ معه جماعةً من أتباع الوزير. فمِن حرص الحاجب على ولد سيده خرج من ساعته فوجد الغلامَ في نطع الدم مع الوالي، فلما رأى الوالي الحاجبَ وعرفه ترجَّلَ إليه، فقال له الحاجب: ما هذا الغلام؟ وما شأنه؟ فأخبره بالخبر، فقال الحاجب والحال أنه لم يعرف أنه ولد السلطان: إن وجه هذا الغلام وجه مَن لا يَقتل. وأمره بحلِّ وثاقه، فحَلَّه، فقال: قدِّمْه إليَّ. فقدَّمه إليه، وكان قد ذهب جماله من شدةِ ما قاساه من الأهوال، فقال له الحاجب: أخبِرْني بقضيتك يا غلام. وما شأن هذه المقتولة معك؟ فلما نظر إبراهيم إلى الحاجب عرفه، فقال له: ويلك! أَمَا تعرفني؟! أَمَا أنا إبراهيم ابن سيدك؟ فلعلك جئتَ في طلبي. فأمعَنَ الحاجب فيه النظرَ فعرَفَه غايةَ المعرفة، فلما عرفه انكبَّ على أقدامه، فلما رأى الوالي ما حصل من الحاجب اصفرَّ لونه، فقال له الحاجب: ويلك يا جبَّار! هل كان مرادك أن تقتل ابن سيدي الخصيب صاحب مصر؟ فقبَّلَ الوالي ذيل الحاجب وقال له: يا مولاي، من أين أعرفه؟ وإنما رأيناه على هذه الصفة، ورأينا الصبية مقتولةً بجانبه. فقال له: ويلك! إنك لا تصلح للولاية، هذا غلامٌ له من العمر خمسة عشر عامًا، وما قتل عصفورًا، فكيف يقتل قتيلًا؟ هلا أمهلَتْه وسألَتْه عن حاله! ثم قال الحاجب والوالي: فتِّشوا على قاتل الصبية. فدخلوا الحمَّام ثانيًا فرأوا قاتلها، فأخذوه وأتوا به إلى الوالي، فأخذه وتوجَّهَ به إلى دار الخلافة وأعلم الخليفة بما جرى، فأمر الرشيد بقتل قاتل الصبية، ثم أمر بإحضار ابن الخصيب، فلمَّا تمثَّلَ بين يديه تبسَّمَ الرشيد وقال له: أخبرني بقصتك وما جرى لك. فحدَّثه بحديثه من أوله إلى آخره، فعَظُم ذلك عنده، فنادى مسرورًا السياف وقال: اذهبْ في هذه الساعة واهجمْ على دار أبي القاسم الصندلاني، وائتني به وبالصبيَّة. فمضى من ساعته وهجم على داره، فرأى الصبيَّة في وثاق من شعرها، وهي في حالة التلف، فحلَّها مسرور وأتى بها وبالصندلاني، فلما رآها الرشيد تعجَّبَ من جمالها، ثم التفت إلى الصندلاني وقال: خذوه واقطعوا يدَيْه اللتين ضرب بهما هذه الصبيَّة، واصلبوه وسلِّموا أمواله وأملاكه إلى إبراهيم. ففعلوا ذلك، فبينما هم كذلك وإذا بأبي الليث عامل البصرة والِد السيدة جميلة قد أقبَلَ عليهم يستغيث بالخليفة من إبراهيم بن الخصيب صاحب مصر، ويشكو إليه أنه أخذ ابنته، فقال له الرشيد: إنه كان سببًا في خلاصها من العذاب والقتل. وأمر بإحضار ابن الخصيب، فلما حضر قال لأبي الليث: ألَا ترضى أن يكون هذا الغلامُ ابنُ سلطان مصر بَعْلًا لابنتك؟ فقال: سمعًا وطاعةً لله ولك يا أمير المؤمنين. فدعا الخليفة بالقاضي والشهود وزوَّج الصبيَّة بإبراهيم بن الخصيب، ووهب له جميع أموال الصندلاني وجهَّزه إلى بلاده، وعاش معها في أتمِّ سرورٍ وأوفى حبور إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فسبحان الحي الذي لا يموت!
حكاية أبي الحسن الخراساني
ومما يُحكى أيضًا أيها الملك السعيد، أن المعتضد بالله كان عاليَ الهمة شريف النفس، وكان له ببغداد ستمائة وزير، وما كان يخفى عليه من أمور الناس شيء، فخرج يومًا هو وابن حمدون يتفرَّجان على الرعايا، ويسمعان ما يتجدَّد من أخبار الناس، فحمي عليهما الحر والهجير، وقد انتهيا إلى زقاق لطيف في شارع، فدخلا ذلك الزقاق، فرأيا في صدر الزقاق دارًا حسنة شامخة البناء، تُفصِح عن صاحبها بلسان الثناء، فقعدا على الباب يستريحان فخرج من تلك الدار خادمان كالقمرين في ليلة أربعة عشر، فقال أحدهما لصاحبه: لو استأذن اليومَ ضيفٌ؛ لأن سيدي لم يأكل إلا مع الضيفان، وقد صرنا إلى هذا الوقت ولم أرَ أحدًا. فتعجَّب الخليفة من كلامهما، وقال: إن هذا دليل على كرم صاحب الدار، ولا بد أن ندخل داره وننظر مروءته، ويكون ذلك سببًا في نعمة تصل إليه منا. ثم قال للخادم: استأذن سيدك في قدوم جماعة أغراب. وكان الخليفة في ذلك الزمان إذا أراد الفرجة على الرعية تنكَّرَ في زي التجار، فدخل الخادم على سيده وأخبره، ففرح وقام وخرج إليهما بنفسه، وإذا به جميل الوجه حَسن الصورة، وعليه قميص نيسابوري ورداء مذهَّب، وهو مضمَّخ بالطِّيب، وفي يده خاتم من الياقوت، فلما رآهما قال: أهلًا وسهلًا بالسادة المنعِمين علينا غاية الإنعام بقدومهم. فلما دخلا تلك الدار رأياها تُنسِي الأهل والأوطان، كأنها قطعة من الجِنَان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.