فلما كانت الليلة ٩٦٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة لمَّا دخل الدار هو ومَن معه ورأياها تُنسِي الأهل والأوطان، كأنها قطعة من الجِنان، ومن داخلها بستان فيه من سائر الأشجار، وهي تُدهِش الأبصار، وأماكنها مفروشة بنفائس الفرش، فجلسوا وجلس المعتضد يتأمل الدار والفرش، فقال ابن حمدون: فنظرتُ إلى الخليفة فرأيت وجهَه قد تغيَّر، وكنتُ أعرف من وجهه حال الرضا والغضب، فلما رأيته قلت في نفسي: يا تُرَى ما باله حتى غضب؟ ثم جاءوا بطشت من الذهب، فغلسنا أيدينا، ثم جاءوا بسفرة من الحرير وعليها مائدة من الخيزران، فلما انكشفت الأغطية عن الأواني رأينا طعامًا كزهر الربيع في عز الأوان صِنوانًا وغير صِنوان، ثم قال صاحب الدار: باسم الله يا سادتنا، والله إن الجوع قد أمَضَّني، فأنعِموا عليَّ بالأكل من هذا الطعام كما هو أخلاق الكرام. وصار صاحب الدار يَفسخ الدجاج ويضعه بين أيدينا ويضحك، ويُنشِد الأشعار ويُورِد الأخبار ويتكلم بلطائف ما يليق بالمجلس. قال ابن حمدون: فأكلنا وشربنا، ثم نُقِلنا إلى مجلس آخر يدهش الناظرين، تفوح منه الروائح الزكية، ثم قدَّم لنا سفرة فاكهةٍ جَنِيَّة، وحلويات شهيَّة، فزادت أفراحنا وزالت أتراحنا. قال ابن حمدون: ومع ذلك لم يَزَلِ الخليفة في عُبوس، ولم يتبسَّم لما فيه فرح النفوس، مع أن عادته أنه يحب اللهو والطرب ودفع الهموم، وأنا أعرف أنه غير حَسُود ولا ظَلُوم، فقلتُ في نفسي: يا تُرَى ما سبب عبوسه وعدم زوال بؤسه؟
ثم جاءوا بطبق الشراب ومجمع شمل الأحباب، وأحضروا الشراب المروق وبواطي الذهب والبلور والفضة، وضرب صاحب الدار على باب مقصورة بقضيب من الخيزران، وإذا بباب المقصورة قد فُتِح وخرج منه ثلاث جوارٍ نُهد أبكار، وجوههن كالشمس في رابعة النهار، وتلك الجواري ما بين عوَّادة وجنكية ورقاصة، ثم قدَّم لنا النُّقْل والفواكه. قال ابن حمدون: فضرب بيننا وبين الثلاث جوارٍ ستارة من الديباج، وشراريبها من الإبريسم، وحلقاتها من الذهب، فلم يلتفت الخليفة إلى هذا جميعه، وصاحب الدار لم يعلم مَن هو الذي عنده. فقال الخليفة لصاحب الدار: شريفٌ أنت؟ قال: لا يا سيدي، إنما أنا رجل من أولاد التجار، أُعرَف بين الناس بأبي الحسن علي بن أحمد الخراساني. فقال له الخليفة: أتعرفني يا رجل؟ قال: والله يا سيدي لم يكن لي معرفة بأحدٍ من جنابكم. فقال له ابن حمدون: يا رجل، هذا أمير المؤمنين المعتضد بالله حفيد المتوكل على الله. فقام الرجل وقبَّلَ الأرض بين يدَي الخليفة وهو يرتعد من خوفه، وقال: يا أمير المؤمنين، بحق آبائك الطاهرين، إن كنتَ رأيتَ مني تقصيرًا أو قلة أدب بحضرتك أن تعفو عني. فقال الخليفة: أمَّا ما صنعتَه معنا من الإكرام فلا مزيدَ عليه، وأما ما أنكرتُه عليك هنا، فإن أصدقتَني حديثَه واستقرَّ ذلك بعقلي نجوتَ مني، وإن لم تعرِّفني حقيقته أخذتُك بحجة واضحة، وعذَّبتك عذابًا لم أعذِّب أحدًا مثله. قال: معاذ الله أن أحدِّث بالمحال، وما الذي أنكرتَه عليَّ يا أمير المؤمنين؟ فقال الخليفة: أنا من حين دخلت الدار وأنا أنظر إلى حسنها وأوانيها وفِراشها وزينتها، حتى ثيابك، فإذا عليها اسم جدي المتوكل على الله. قال: نعم، اعلم يا أمير المؤمنين — أيَّدَك الله — أن الحق شعارك والصدق رداؤك، ولا قدرة لأحد على أن يتكلم بغير الصدق في حضرتك. فأمره بالجلوس فجلس، فقال له: حدِّثني. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين — أيدك الله بنصره وحفَّك بلطائف أمره — أنه لم يكن ببغداد أحد أيسر مني ولا من أبي، ولكن أخلِ لي ذهنك وسمعك وبصرك حتى أحدِّثك بسبب ما أنكرته عليَّ. فقال له الخليفة: قل حديثك.
فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان أبي بسوق الصيارف والعطارين والبزازين، وكان له في كل سوق حانوت ووكيل وبضائع من سائر الأصناف، وكان له حجرة داخل الدكان التي بسوق الصيارف لأجل الخلوة فيها، وجعل الدكان لأجل البيع والشراء، وكان ماله يكثر عن العد، ويزيد عن الحد، ولم يكن له ولد غيري، وكان محبًّا لي وشفوقًا عليَّ، فلما حضرتْهُ الوفاةُ دعاني وأوصاني بوالدتي وبتقوى الله تعالى، ثم مات رحمه الله تعالى وأبقى أمير المؤمنين، فاشتغلت باللَّذات وأكلت وشربت، ثم اتخذت الأصحاب والأصدقاء، وكانت أمي تنهاني عن ذلك وتلومني عليه، فلم أسمع منها كلامًا حتى ذهب المال جميعه وبعت العقارات، ولم يبقَ لي شيء غير الدار التي أنا فيها، وكانت دارًا حسنة يا أمير المؤمنين، فقلت لأمي: أريد أن أبيع الدار. فقالت: يا ولدي، إن بعتها تفتضح، ولا تعرف لك مكانًا تأوي إليه. فقلت: هي تساوي خمسة آلاف دينار، فأشتري من جملة ثمنها دارًا بألف دينار، ثم أتَّجر بالباقي. فقالت: أتبيعني هذه الدار بهذا المقدار؟ قلت: نعم. فجاءت إلى طابق وفتحته وأخرجت منه إناءً من الصيني فيه خمسة آلاف دينار، فتخيَّل لي أن الدار كلها ذهب. فقالت لي: يا ولدي، لا تظن أن هذا المال مال أبيك، والله يا ولدي إنه من مال أبي، وكنت ادَّخرته لوقت الحاجة إليه؛ فإني كنت في زمن أبيك غنيةً عن الاحتياج إلى هذا المال. فأخذت المال منها يا أمير المؤمنين وعدتُ لما كنتُ عليه من المأكل والمشرب والصحبة حتى نفدت الخمسة آلاف دينار، ولم أقبل من أمي كلامًا ولا نصيحة، ثم قلت لها: مرادي أن أبيع الدار. فقالت: يا ولدي، قد نهيتك عن بيعها لعلمي أنك محتاج إليها، فكيف تريد بيعها ثانيًا؟ فقلت لها: لا تُطيلي عليَّ الكلام، فلا بد من بيعها. فقالت: بِعني إياها بخمسة عشر ألف دينار، بشرط أن أتولى أمورك بنفسي. فبعتها لها بذلك المبلغ على أن تتولَّى أموري بنفسها، فطلبتْ وكلاءَ أبي وأعطت كلَّ واحد منهم ألف دينار، وجعلت المال تحت يدها، والأخذ والعطاء معها، وأعطتني بعضًا من المال لأتَّجر فيه، وقالت لي: اقعد أنت في دكان أبيك. ففعلت ما قالت أمي يا أمير المؤمنين، وجئت إلى الحجرة التي في سوق الصيارف، وجاء أصحابي وصاروا يشترون مني وأبيع لهم، وطاب لي الربح وكثر مالي، فلما رأتني أمي على تلك الحالة الحسنة أظهرتْ لي ما كان مدَّخرًا عندها من جوهر ومعدن ولؤلؤ وذهب، ثم عادت لي أملاكي التي كان وقع فيها التفريط، وكثر مالي كما كان، ومكثت على هذه الحال مدةً، وجاء وكلاء أبي فأعطيتهم البضائع.
ثم بنيتُ حجرة ثانية من داخل الدكان، فبينما أنا قاعد فيها على عادتي يا أمير المؤمنين، وإذا بجارية قد أقبلت عليَّ، لم تَرَ العيون أجمل منها منظرًا، فقالت: هذه حجرة أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني؟ قلت لها: نعم. قالت: أين هو؟ فقلت: هو أنا. ولكن اندهش عقلي من فرط جمالها يا أمير المؤمنين. ثم إنها جلست وقالت لي: قُلْ لغلامك يَزِن لي ثلاثمائة دينار. فأمرته أن يزن لها ذلك المقدار، فوزنه لها فأخذته وانصرفت وأنا ذاهل العقل. فقال لي غلامي: أتعرفها؟ قلت: لا والله. قال: فلِمَ قلت لي: زِنْ لها؟ فقلت: والله إني لم أدرِ ما أقول مما بهرني من حسنها وجمالها. فقام الغلام وتبعها من غير علمي، ثم رجع وهو يبكي وبوجهه أثر ضربة، فقلت له: ما بالك؟ فقال: إني تبعت الجارية لأنظر أين تذهب، فلما أحسَّتْ بي رجعت وضربتني هذه الضربة، فكادت أن تتلف عيني. ثم مكثتُ شهرًا لم أرَها ولم تأتِ، وأنا ذاهل العقل في هواها يا أمير المؤمنين. فلما كان آخر الشهر، وإذا بها جاءت وسلَّمت عليَّ، فكدت أن أطير فرحًا، فسألتني عن خبري وقالت: لعلك قلت في نفسك: ما شأن هذه المحتالة؟ كيف أخذت مالي وانصرفت؟ فقلت: والله يا سيدتي إن مالي وروحي ملك لك. فأسفرتْ عن وجهها وجلستْ لتستريح والحلي والحلل تلعب على وجهها وصدرها، ثم قالت لي: زِنْ لي ثلاثمائة دينار. فقلت: سمعًا وطاعة. ثم وزنتُ لها الدنانير، فأخذتها وانصرفت، فقلت للغلام: اتبعها. فتبِعها، ثم عاد لي وهو مبهوت. ومضت مدة وهي لم تأتِ، فبينما أنا جالس في بعض الأيام، وإذا بها قد أقبلت عليَّ وتحدثت ساعة، ثم قالت لي: زِنْ لي خمسمائة دينار؛ فإني قد احتجت إليها. فأردت أن أقول لها: على أي شيء أُعطيكِ مالي؟ فمنعني فرط الغرام من الكلام، وأنا يا أمير المؤمنين كلما رأيتها ترتعد مفاصلي ويصفرُّ لوني وأنسى ما أريد أن أقول وأصير كما قال الشاعر:
ثم وزنت لها الخمسمائة دينار، فأخذتها وانصرفت، فقمت وتبعتها بنفسي إلى أن وصلت إلى سوق الجواهر، فوقفتْ على إنسان فأخذتْ منه عقدًا، والتفتت فرأتني، فقالت: زِنْ لي خمسمائة دينار. فلما نظرني صاحب العقد قام إليَّ وعظَّمني، فقلت له: أعْطِها العقدَ وثمنُه عليَّ. فقال: سمعًا وطاعة. فأخذتِ العقد وانصرفتْ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.