فلما كانت الليلة ٩٦١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن الخراساني قال: فقلت له أعطِها العقد وثمنُهُ عليَّ. فأخذتِ العقد وانصرفتْ، فتبعتُها حتى جاءت إلى الدجلة، ونزلتْ في مركب، فأوميت إلى الأرض لأقبِّلها بين يديها، فذهبت وضحكتْ، ومكثتُ واقفًا أنظرها إلى أن دخلت قصرًا، فتأملته فإذا هو قصر الخليفة المتوكل، فرجعت يا أمير المؤمنين وقد حلَّ بقلبي كل همٍّ في الدنيا، وكانت قد أخذت مني ثلاثة آلاف دينار، فقلت في نفسي: قد أخذت مالي وسلبت عقلي، وربما تَلِفت نفسي في هواها! ثم رجعتُ إلى داري، وقد حدَّثتُ أمي بجميع ما جرى لي، فقالت لي: يا ولدي، إياك أن تتعرَّض لها بعد ذلك فتهلك! فلما رحت إلى دكاني جاءني وكيلي الذي بسوق العطارين، وكان شيخًا كبيرًا، فقال لي: يا سيدي، ما لي أراكَ متغير الحال يظهر عليك أثر الكآبة؟ فحدِّثني بخبرك. فحدَّثته بجميع ما جرى لي معها، فقال لي: يا ولدي، إن هذه من جواري قصر أمير المؤمنين، وهي محظية الخليفة، فاحتسب المال لله تعالى ولا تشغل نفسك بها، وإذا جاءتك فاحذر أن تتعرَّض لك، وأعلمني بذلك حتى أدبِّر لك أمرًا لئلا يحصل لك تلف. ثم تركني وذهب وفي قلبي لهيب النار. فلما كان آخر الشهر وإذا بها قد أقبلت عليَّ، ففرحت بها غاية الفرح، فقالت لي: ما حملك على أنك تبعتني؟ فقلت لها: حملني على ذلك فرط الوَجْد الذي بقلبي. وبكيتُ بين يديها، فبكتْ رحمةً لي وقالت: والله ما في قلبك شيء من الغرام إلا وفي قلبي أكثر منه، ولكن كيف أعمل؟ والله ما لي من سبيل غير أني أراكَ في كل شهر مرة. ثم دفعت إليَّ ورقةً وقالت: خذ هذه إلى فلان الفلاني، فإنه وكيلي، واقبض منه ما فيها. فقلت: ليس لي حاجة بمال، ومالي وروحي فداك. فقالت: سوف أدبِّر لك أمرًا يكون فيه وصولك إليَّ، وإن كان فيه تعب لي. ثمَّ ودَّعتني وانصرفت.
فجئتُ إلى الشيخ العطار وأخبرته بما جرى لي، فجاء معي إلى دار المتوكل، فرأيتها هي المكان الذي دخلت فيه الجارية، فصار الشيخ العطار متحيِّرًا في حيلة يفعلها، ثم التفت فرأى خيَّاطًا قبالَ الشباكِ المطلِّ على الشاطئ وعنده صنَّاع. فقال: بهذا تنال مرادك، ولكن افتق جيبك وتقدَّم إليه وقُلْ له أن يخيطه لك، فإذا خاطه فادفعْ له عشرة دنانير. فقلت له: سمعًا وطاعة. ثم توجَّهت إلى ذلك الخياط وأخذتُ معي شقَّتين من الديباج الرومي وقلت له: فصِّلْ هاتين أربعة ملابس؛ اثنين فرجية واثنين غير فرجية. فلما فرغ من تفصيل الملابس وخياطتها أعطيته أجرتها زيادةً عن العادة بكثير، ثم مدَّ يده إليَّ بتلك الملابس فقلت: خذها لك ولمَن حضر عندك. وصرت أقعد عنده وأطيل القعود معه، ثم فصَّلت عنده غيرها وقلت له: علِّقه على وجه الدكان لمن ينظره فيشتريه. ففعل، وصار كلُّ مَن خرج من قصر الخليفة وأعجبه شيء من الملابس وهبتُه له حتى البوَّاب. فقال لي الخياط يومًا من الأيام: أريد يا ولدي أن تَصْدُقني حديثك؛ لأنك فصَّلت عندي مائة حلَّة ثمينة، وكل حلَّة تساوي جملةً من المال، ووهبتَ غالبها للناس، وهذا ما هو فعل تاجر؛ لأن التاجر يحاسب على الدرهم، وما مقدار رأس مالك حتى تعطي هذه العطايا؟ وما يكون مكسبك في كل عام؟ فأخبرني خبرًا صحيحًا حتى أعاونك على مرادك. ثم قال: أناشدك الله، أَمَا أنت عاشق؟ قلت: نعم. فقال: لمَن؟ قلت: لجارية من جواري قصر الخليفة. فقال: قبَّحهن الله! كم يفتنَّ الناس! ثم قال لي: فهل تعرف اسمها؟ قلت: لا. فقال: صِفها لي. فوصفتها له. فقال: ويلاه! هذه عوَّادة الخليفة المتوكل المحظية عنده، لكن لها مملوك فاجعل بينك وبينه صداقة لعله يكون سببًا في اتصالك بها.
فبينما نحن في الحديث، وإذا بالمملوك مُقبل من باب الخليفة وهو كأنه القمر في ليلة أربعة عشر، وبين يديَّ الثياب التي خاطها لي الخياط، وكانت من الديباج من سائر الألوان، فصار ينظر إليها ويتأمَّل، ثم أقبَلَ عليَّ فقمتُ إليه وسلَّمت عليه، فقال: مَن أنت؟ فقلت: رجل من التجار. قال: أتبيع هذه الثياب؟ قلت: نعم. فأخذ منها خمسة وقال: بكم هذه الخمسة؟ فقلت: هي هدية مني إليك، عقد صحبة بيني وبينك. ففرح بها، ثم جئتُ إلى بيتي وأخذتُ له ملبوسًا مرصَّعًا بالجواهر واليواقيت قيمته ثلاثة آلاف دينار، وتوجَّهت به إليه، فقبِلَه مني، ثم أخذني ودخل بي حجرة في داخل القصر وقال لي: ما اسمك بين التجار؟ فقلت له: رجل منهم. فقال: قد رابني أمرك. فقلت: لماذا؟ قال: لأنك أهديت لي شيئًا كثيرًا ملكتَ به قلبي، وقد صحَّ عندي أنك أبو الحسن الخراساني الصيرفي. فبكيت يا أمير المؤمنين، فقال لي: لِمَ تبكي؟ فوالله إن التي تبكي من أجلها عندها من الغرام بك أكثر مما عندك من الغرام بها وأعظم، وقد شاع عند جميع جواري القصر خبرها معك. ثم قال لي: وأيُّ شيء تريد؟ فقلت: أريد أنك تساعدني على بليَّتي. فوعدني إلى غدٍ، فمضيت إلى داري، فلما أصبحت توجَّهت إليه ودخلت حجرته، فلما جاء قال: اعلم أنها لما فرغتْ من خدمتها عند الخليفة بالأمس ودخلت حجرتها حدَّثتها بحديثك جميعه، وقد عزمت على الاجتماع بك، فاقعد عندي إلى آخر النهار. فقعدت عنده، فلما جنَّ الليل إذا بالمملوك أتى ومعه قميص منسوج من الذهب، وحُلَّة من حُلَل الخليفة، فألبسني إياها وبخَّرني، فصرت أُشبه الخليفة، ثم أخذني إلى محل فيه الحُجَر صفين من الجانبين، وقال لي: هذه حُجَر الجواري الخواص، فإذا مررتَ عليها فضع على كل باب من الأبواب حبَّةً من الفول؛ لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا في كل ليلة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.