فلما كانت الليلة ٩٦٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المملوك لمَّا قال لأبي الحسن: فإذا مررتَ عليها فضع على كل باب من الأبواب حبَّةً من الفول؛ لأن من عادة الخليفة أن يفعل هكذا إلى أن تأتي إلى الدرب الثاني الذي على يدك اليمنى، فترى حجرةً عتبةُ بابها من المرمر، فإذا وصلت إليها فمسَّها بيدك، وإن شئتَ فعُدَّ الأبواب فهي كذا وكذا بابًا، فادخُلِ الباب الذي علامته كذا وكذا، فتراك صاحبتك وتأخذك عندها، وأما خروجك فإن الله يهوِّن عليَّ فيه، ولو أُخرِجكَ في صندوق. ثم تركني ورجع، وصرتُ أمشي وأعُدُّ الأبواب وأضع على كل بابٍ حبةَ فول، فلما صرتُ في وسط الحُجَر سمعت ضجة عظيمة، ورأيت ضوء شموع، وأقبل ذلك الضوء نحوي حتى قرب مني، فتأمَّلته فإذا هو الخليفة وحوله الجواري ومعهن الشمع، فسمعت واحدة منهن تقول لصاحبتها: يا أختي، هل نحن لنا خليفتان؟ إن الخليفة قد جاز حجرتي وشممت منه رائحة العطر والطيب، ووضع حبة الفول على حجرتي كعادته، وفي هذه الساعة أرى ضوء شموع الخليفة وها هو مُقبِل معه! فقالت: إن هذا أمر عجيب؛ لأن التزيي بزي الخليفة لا يجسر عليه أحد! ثم قرب الضوء مني فارتعدتْ أعضائي، وإذا بخادم يصيح على الجواري ويقول: ها هنا. فانعطفوا إلى حجرة من الحُجَر ودخلوا، ثم خرجوا ومشوا حتى وصلوا إلى بيت صاحبتي، فسمعت الخليفة يقول: هذه حجرة مَن؟ فقالوا: هذه حجرة شجرة الدر. فقال: نادوها. فنادوها فخرجت وقبَّلت أقدام الخليفة. فقال لها: أتشربين الليلة؟ فقالت: إن لم يكن لحضرتك والنظر إلى طلعتك فلا أشرب؛ فإنني لا أميل إلى الشراب في هذه الليلة. فقال للخادم: قل للخازن يدفع لها العقد الفلاني. ثم أمر بالدخول إلى حجرتها، فدخلتْ بين يديه الشموع، وإذا بجارية أمامهم وضوء وجهها غالب على ضوء الشمعة التي بيدها، فقربت مني وقالت: مَن هذا؟ ثم قبضت عليَّ وأخذتني إلى حجرة من الحُجَر وقالت لي: مَن أنت؟ فقبَّلت الأرض بين يديها وقلت لها: أناشدك الله يا مولاتي أن تحقني دمي وترحميني وتتقرَّبي إلى الله بإنقاذ مهجتي. وبكيت فزعًا من الموت، فقالت: لا شك أنك لص. فقلت: لا والله، ما أنا لص، فهل ترَيْن عليَّ أثرَ اللصوص؟ فقالت: أَصْدِقني خبرك وأنا أجعلك في أمان. فقلت: أنا عاشق جاهل أحمق، قد حملَتْني الصبابة وجهلي على ما ترين مني حتى وقعتُ في هذه الورطة. فقالت: قف هنا حتى أجيء إليك. ثم خرجت وجاءتني بثياب جارية من جواريها، وألبستني تلك الثياب في تلك الزاوية وقالت: اخرج خلفي. فخرجت خلفها حتى وصلت إلى حجرتها وقالت: ادخل هنا. فدخلت حجرتها، فجاءت بي إلى سرير وعليه فرش عظيم وقالت: اجلس لا بأس عليك، أَمَا أنت أبو الحسن الخراساني الصيرفي؟ قلت: بلى. قالت: قد حقن الله دمك إن كنتَ صادقًا ولم تكن لصًّا؛ فإنك تهلك لا سيما وأنت في زي الخليفة ولباسه وبخوره، وأما إن كنتَ أبا الحسن الخراساني الصيرفي فإنك قد أمنت، ولا بأس عليك؛ لأنك صاحب شجرة الدر التي هي أختي، فإنها لا تقطع ذِكْرَك أبدًا، وتخبرنا كيف أخذت منك المال ولم تتغير، وكيف جئتَ خلفها إلى الشاطئ وأوميت لها إلى الأرض تعظيمًا، وفي قلبها منك النار أكثر مما في قلبك منها، ولكن كيف وصلتَ إلى ها هنا؟ أبأمرها أم بغير أمرها؟ بل خاطرت بنفسك! وما مرادك من الاجتماع بها؟ فقلت: والله يا سيدتي إني أنا الذي خاطرت بنفسي، وما غرضي من الاجتماع بها إلا النظر والاستماع لحديثها. فقالت: أحسنت. فقلت: يا سيدتي، الله شهيد على ما أقول، إن نفسي لم تحدِّثني في شأنها بمعصية. فقالت: بهذه النية نجَّاك الله ووقعت رحمتك في قلبي. ثم قالت لجاريتها: يا فلانة، امضي إلى شجرة الدر وقولي لها: إن أختك تسلِّم عليكِ وتدعوكِ، فتفضَّلي عندها في هذه الليلة على جري عادتك؛ فإن صدرها ضيق. فتوجَّهتْ إليها ثم عادت وأخبرتها أنها تقول: متَّعني الله بطول حياتك وجعلني فداك، والله لو دعوتِني إلى غير هذا ما توقَّفت، لكن يضرني صداع الخليفة، وأنت تعلمين منزلتي عنده. فقالت للجارية: ارجعي إليها وقولي لها: إنه لا بد من حضورك لسرٍّ بينك وبينها. فتوجَّهت إليها الجارية، وبعد ساعة جاءت مع الجارية ووجهها يضيء كأنه البدر، فقابلَتْها واعتنقَتْها وقالت: يا أبا الحسن، اخرج إليها وقبِّل يديها. وكنت في مخدع في داخل الحجرة، فخرجتُ إليها يا أمير المؤمنين، فلما رأتني ألقتْ نفسها عليَّ وضمَّتْني إلى صدرها، وقالت لي: كيف صرتَ بلباس الخليفة وزِينتِه وبخوره؟ ثم قالت: حدِّثني بما جرى لك. فحدَّثتها بما جرى لي وبما قاسيتُه من خوف وغيره، فقالت: يعزُّ عليَّ ما قاسيتَه من أجلي، والحمد لله الذي جعل العاقبة إلى السلامة، وتمام السلامة دخولك في منزلي ومنزل أختي. ثم أخذَتْني إلى حجرتها وقالت لأختها: إني قد عاهدته ألَّا أجتمع معه في الحرام، ولكن كما خاطَرَ بنفسه وارتكب هذا الهول لَأكوننَّ أرضًا لوطء قدمَيْه وترابًا لنعلَيْه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.