فلما كانت الليلة ٨٨٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لمَّا لبس ثيابه أخذ العشرة دراهم من العجوز، ثم خرج إلى السوق وغاب ساعة حتى عرف جهات المدينة، ثم رجع إلى الكنيسة فرأى مريم الزنارية بنت ملك إفرنجة قد أقبلَتْ على الكنيسة ومعها أربعمائة بنت نواهد أبكار كأنهن الأقمار، ومن جملتهن بنت الوزير الأعور وبنات الأمراء وأرباب الدولة، وهي تمشي بينهن كأنها القمر بين النجوم، فلما وقع نظر نور الدين عليها لم يتمالك نفسه، بل صرخ من صميم قلبه وقال: يا مريم، يا مريم. فلما سمعت البنات صياحَ نور الدين وهو ينادي يا مريم، هجَمْنَ عليه وجرَّدْنَ بيضَ الصفاح مثل الصواعق، وأرَدْنَ قتله في تلك الساعة، فالتفتَتْ مريم وتأمَّلَتْه فعرفته غاية المعرفة، فقالت للبنات: اتركْنَ هذا الشاب فإنه مجنون بلا شك؛ لأن علامة الجنون لائحةٌ على وجهه. فلما سمع نور الدين من السيدة مريم هذا الكلام كشف رأسه وحملق عينَيْه، وأشاح بيدَيْه وعوج رجلَيْه، وأخرج الزبد من فِيه وشدقَيْه، فقالت السيدة مريم: أَمَا قلتُ لكُنَّ إن هذا مجنون. أحضِرْنَه عندي وابعدْنَ عنه حتى أسمع ما يقول، فإني أعرف كلام العرب وأنظر حاله، وهل داء جنونه يقبل المداواة أم لا. فعند ذلك حمله البنات وجئْنَ به بين يدَيْها، ثم بعدْنَ عنه، فقالت له: هل جئتَ إلى هنا من أجلي، وخاطرت بنفسك وعملت نفسك مجنونًا؟ فقال لها نور الدين: يا سيدتي، أَمَا سمعتِ قول الشاعر:
فقالت له مريم: والله يا نور الدين، إنك الجاني على نفسك، فإني حذَّرْتُكَ من هذا قبل وقوعه، فلم تقبل قولي وتبعت هوى نفسك، وأنا ما أخبرتك لا من باب الكشف ولا من باب الفراسة ولا من باب الرؤية في المنام، وإنما هو من باب المشاهدة والعِيَان؛ لأني رأيتُ الوزيرَ الأعور، فعرفتُ أنه ما دخل في هذه البلدة إلا في طلبي. فقال لها نور الدين: يا سيدتي مريم، نعوذ بالله من زلة العاقل. ثم تزايَدَ بنور الدين الحال فأنشد هذا المقال:
ولم يَزَلْ نور الدين هو والسيدة مريم الزنارية في عتاب يطول شرحه، وكلٌّ منهما يحكي لصاحبه ما جرى له، وينشدان الأشعار ودموعهما تجري على خدودهما شبه البحار، ويشكوان لبعضهما شدة الهوى وأليم الوحدة والجوى، إلى أنْ لم يَبْقَ لأحدهما قوةٌ على الكلام، وكان النهار قد ولَّى وأقبَلَ الظلام، وقد كان على السيدة مريم حلة خضراء مزركشة بالذهب الأحمر، مرصَّعة بالدر والجوهر، فزاد حُسْنها وجمالها وظرف معانيها، وقد أجاد من قال فيها:
فلما جنَّ الليل أقبلَتِ السيدةُ مريم على البنات وقالت لهن: هل أغلقتُنَّ الباب؟ فقلْنَ لها: قد أغلقْناه. فعند ذلك أخذت السيدة مريم البنات وأتَتْ بهِنَّ إلى مكانٍ يُقال له «مكان السيدة مريم العذراء أم النور»؛ لأن النصارى يزعمون أن روحانيتها وسرها في ذلك المكان، فصار البنات يتبرَّكْنَ به ويَطُفْنَ في الكنيسة كلها، ولما فرغْنَ من زيارتها التفتَتِ السيدة مريم إليهنَّ وقالت لهنَّ: إني أريد أن أدخل وحدي في هذه الكنيسة وأتبرَّك بها، فإنه حصل لي اشتياق إليها بسبب طول غيبتي في بلاد المسلمين، وأما أنتنَّ فحيث فرغتُنَّ من الزيارة، فنمْنَ حيث شئتنَّ. فقلْنَ لها: حبًّا وكرامة، وافعلي أنتِ ما تريدينه. ثم إنهن تفرَّقْنَ عنها في الكنيسة ونِمْنَ، فعند ذلك استغفلتهن مريم وقامت تفتِّش على نور الدين، فرأته في ناحيةٍ جالسًا على مقالي الجمر وهو في انتظارها، فلما أقبلَتْ عليه قام لها على قدمَيْه وقبَّلَ يدَيْها، فجلست وأجلسته في جانبها، ثم نزعت ما كان عليها من الحلي والحلل ونفيس القماش، وضمَّتْ نور الدين إلى صدرها وجعلته في حضنها، ولم تزل هي وإياه في بوس وعناق، ونغمات خاق باق، وهما يقولان: ما أقصر ليل التلاقي، وما أطول يوم الفراقِ، وينشدان قول الشاعر:
فبينما هما في هذه اللذة العظيمة والفرحة العميمة، وإذا بغلامٍ من الغلمان النفيسة يضرب الناقوس فوق سطح الكنيسة، ليقيم من عبادتهم الشعائر، وهو كما قال الشاعر:
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.