فلما كانت الليلة ٩٦٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زوجة التاجر لما قالت له ذلك الكلام، قال لها: مخافةً عليهما من أعين الناس؛ لأني محبٌّ لهما، والمُحِبُّ شديدُ الغيرات، وقد أحسَنَ مَن قال هذه الأبيات:
فقالت له زوجته: توكَّل على الله، ولا بأس على مَن يحفظه الله، وخذه في هذا اليوم معك إلى الدكان. ثم إنها ألبسته بدلة من أفخر الملابس، فصار فتنة للناظرين وحسرة في قلوب العاشقين، وأخذه أبوه معه ومضى به إلى السوق، فصار كل مَن رآه يفتتن به ويتقدَّم إليه ويبوس يده ويسلِّم عليه، وصار أبوه يشتم الناس حيث تبعوه لقصد الفرجة، وصار البعض من الناس يقول: إن الشمس قد طلعت في المحل الفلاني وأشرقت في السوق. والبعض يقول: مطلع البدر في الجهة الفلانية. والبعض يقول: ظهر هلال العيد على عباد الله. وصاروا يلمِّحون إلى الولد بالكلام ويدعون له، وقد حصل لأبيه خجل من كلام الناس، ولا يقدر أن يمنع أحدًا منهم عن الكلام، وصار يشتم أمه ويدعو عليها؛ لأنها هي التي كانت سببًا في خروجه. والتفت أبوه فرأى الخلائق مزدحمين عليه خلفه وقدامه، وهو ماشٍ إلى أن وصل إلى الدكان، ففتح الدكان وجلس وأجلس ولده قدامه، والتفت إلى الناس فرآهم قد سدوا الطريق، وصار كلُّ مَن مرَّ به من رائح وغادٍ يقف قدام الدكان وينظر إلى ذلك الوجه الجميل، ولا يقدر أن يفارقه. وانعقد عليه إجماع النساء والرجال متمثلين بقول مَن قال:
فلما رأى التاجر عبد الرحمن الناس مزدحمين عليه وواقفين صفوفًا نساءً ورجالًا لديه، شاخصين لولده، خجل غاية الخجل وصار متحيرًا في أمره، ولم يدرِ ماذا يصنع. فلم يشعر إلا ورجل درويش من السياحين وعليه شعار عباد الله الصالحين قد أقبل عليه من طرف السوق، ثم تقدَّمَ إلى الغلام وصار ينشد الأشعار ويُرخِي الدموع الغِزار، فلما رأى قمر الزمان جالسًا كأنه قضيب البان، نابت على كثيب من الزعفران، أفاض دمع العين وأنشد هذين البيتين:
ثم إن الدرويش صار يمشي الهوينا ويمسح شيبته بيده اليمنى، فانشقَّ لِهَيْبتِه قلبُ الزحام، فلما نظر إلى الغلام اندهش منه العقل والنظر، وانطبق عليه قول الشاعر:
ثم تقدَّم إلى الولد وأعطاه عرق ريحان، فمدَّ أبوه يده إلى جيبه وأخرَجَ له ما تيسَّرَ من الدراهم، وقال: خذ نصيبك يا درويش واذهبْ إلى حال سبيلك. فأخذ منه الدراهم وجلس على مصطبة الدكان قدام الولد، وصار ينظر إلى الولد ويبكي ويتحسَّر حسرات متتابعة ودموعه كالعيون النابعة، فصارت الناس تنظر إليه وتعترض عليه، وبعضهم يقول: كل الدراويش فسَّاق. وبعضهم يقول: إن الدرويش في قلبه من عشق للولد احتراق. وأما أبوه فإنه لما عاين هذا الحال قام وقال: قُمْ يا ولدي حتى نقفل الدكان ونروح إلى بيتنا، ولا يتبقى لنا في هذا اليوم بيع ولا شراء، الله تعالى يجازي أمك بما فعلت معنا؛ فإنها هي التي تسبَّبت في هذا كله. ثم قال: يا درويش، قم حتى أقفل الدكان. فقام الدرويش وقفل التاجر دكانه وأخذ ولده ومشى. فتبعهما الدرويش والناس إلى أن وصلا إلى منزلهما، فدخل الولد المنزل، والتفت التاجر إلى الدرويش وقال له: ما تريد يا درويش؟ وما لي أراكَ تبكي؟ فقال: يا سيدي، أريد أن أكون ضيفك في هذه الليلة، والضيف ضيف الله تعالى. فقال: مرحبًا بضيف الله، ادخل يا درويش. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.