فلما كانت الليلة ٩٦٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الدرويش لما قال للتاجر والد قمر الزمان: أنا ضيف الله. فقال له التاجر: مرحبًا بضيف الله، ادخل يا درويش. وقال التاجر في نفسه: إن كان هذا الدرويش عاشقًا للولد وطلب منه فاحشة فلا بد أن أقتله في هذه الليلة، وأُخفي قبره، وإن كان ما عنده فساد، فإن الضيف يأكل نصيبه. ثم إنه أدخل الدرويش هو وقمر الزمان في قاعة وقال سرًّا لقمر الزمان: يا ولدي، اجلس بجانب الدرويش وناغشه ولاعبه بعد أن أخرج من عندكما، فإن طلب منك فسادًا فأنا أكون ناظرًا لكما من الطاقة المطلة على القاعة، فأنزل إليه وأقتله. ثم إن الولد لما اختلى به الدرويش في تلك القاعة قعد بجانب الدرويش، فصار الدرويش ينظر إليه ويتحسَّر ويبكي، وإذا كلَّمه الولد يرد عليه برفق وهو يرتعش ويلتفت إلى الولد ويتنهد ويبكي، إلى أن أتى العشاء، فصار يأكل وعينه من الولد ولا يفتر عن البكاء، فلما مضى ربع الليل وفرغ الحديث وجاء وقت النوم، قال أبو الولد: يا ولدي، تقيَّد بخدمة عمك الدرويش ولا تخالفه. وأراد أن يخرج، فقال له الدرويش: يا سيدي، خذ ولدك معك أو نَمْ عندنا. قال: لا، وها هو ولدي نائم عندك، ربما تشتهي نفسك شيئًا فولدي يقضي حاجتك ويقوم بخدمتك. ثم خرج وخلَّاهما وقعد في قاعة ثانية فيها طاقة تطل على القاعة التي هما فيها.
هذا ما كان من أمر التاجر، وأما ما كان من أمر الولد، فإنه تقدَّم إلى الدرويش، وصار يناغشه ويعرض نفسه عليه، فاغتاظ الدرويش وقال له: ما هذا الكلام يا ولدي؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! اللهم إن هذا منكر لا يرضيك، ابعد عني يا ولدي! ثم قام الدرويش من مكانه وقعد بعيدًا عن الولد، فتبعه الولد ورمى روحه عليه وقال له: لأي شيء يا درويش تحرم نفسك من لذَّةِ وِصالي وأنا قلبي يحبك؟ فازداد غيظ الدرويش وقال له: إن لم تمتنع عني ناديتُ أباك وأخبره بخبرك! فقال له: إن أبي يعرف أنني بهذه الصفة، ولا يمكن أن يمنعني، فاجبر بخاطري، لأي شيء تمتنع عني؟ أَمَا أعجبتك؟ فقال له: والله يا ولدي ما أفعل ذلك ولو قُطِّعتُ بالسيوف البواتر. وأنشد قول الشاعر:
ثم بكى وقال له: قم افتح لي الباب حتى أروح إلى حال سبيلي، أنا ما بقيت أنام في هذا المكان. ثم قام على قدميه، فتعلَّق به الولد وصار يقول له: انظر لإشراق وجهي وحُمْرة خدِّي ولِين مَعاطفي ورِقَّة شفايفي. ثم كشف له عن ساقٍ تُخجِل الخَمْر والساقي، ورَنَا إليه بلَحْظٍ يُعجِز السِّحْر والراقي، وكان بديعَ الجمال رخيمَ الدلال كما قال فيه بعض مَن قال:
ثم بيَّنَ له الغلام صدره وصار يقول له: انظر إلى نهودي، فإنها أحسن من نهود البنات، وريقي أحلى من السكر النبات، فدَعِ الورع والزهادة وخلِّنا من النسك والعبادة، واغتنم وصالي وتملَّ بجمالي، ولا تخَفْ من شيء أبدًا، وعليك الأمان من الردى، واترك هذه البلادة فإنها بئسَتِ العادة. وصار يريه ما خفي من محاسنه ويبديه ويثني عنان عقله بتثنيه، والدرويش يلفت وجهه ويقول: أعوذ بالله! استحِ يا ولدي، إن هذا شيء حرام لا أفعله ولا في المنام. فشدَّد عليه الغلام، فانفلت منه الدرويش واستقبل القِبلة وصار يصلي، فلما رآه يصلِّي تركه حتى صلَّى ركعتين وسلَّم وأراد أن يتقدَّم إليه فنوى الصلاة ثاني مرة، وصلَّى ركعتين، ولم يَزَل يفعل هكذا ثالثًا ورابعًا وخامسًا. فقال له الولد: وما هذه الصلاة؟ وهل مرادك أن تطير على السحاب؟ أضعت حظنا وأنت طول الليل في المحراب. ثم إن الغلام ارتمى عليه وصار يبوسه بين عينيه. فقال له: يا ولدي، اخزِ عنك الشيطان، وعليك بطاعة الرحمن. فقال له: إن لم تفعل بي ما أريد أنادي أبي وأقول له إن الدرويش يريد أن يفعل بي الفاحشة، فيدخل عليك ويضربك حتى يكسر عظمك على لحمك. كل هذا وأبوه ينظر بعينه ويسمع بأذنه، فثبت عند أبي الولد أن الدرويش ما عنده فساد، وقال في نفسه: لو كان هذا الدرويش مفسودًا ما كان يتحمَّل هذه المشقة كلها. ثم إن الولد صار يحاول الدرويش، وكلما نوى الصلاة قطعها عليه حتى اغتاظ الدرويش غاية الغيظ، وأغلظ على الولد وضربه، فبكى الولد، فدخل عليه أبوه ومسح دموعه وأخذ بخاطره، وقال للدرويش: يا أخي، حيث كنت على هذه الحالة، لأي شيء تبكي وتتحسَّر حين رأيتَ ولدي؟ هل لهذا من سبب؟ قال له: نعم. فقال له: أنا لما رأيتك تبكي عند رؤيته ظننتُ فيك السوء، فأمرت الولد بهذا الأمر حتى أجرِّبك، وأضمرتُ أني إذا رأيتك تطلب منه فاحشةً أدخل عليك وأقتلك، فلما رأيتُ ما وقع منك عرفتُ أنك من الصلاح على غاية، ولكن بالله عليك أن تخبرني بسبب بكائك. فتنهَّد الدرويش وقال له: يا سيدي، لا تحرِّك عليَّ ساكن الجراح. فقال: لا بد أن تخبرني. فقال: اعلم أنني درويش سَيَّاح في البلاد والأقطار؛ لأعتبر بآثار خالق الليل والنهار، فاتفق أنني دخلت مدينة البصرة في يوم جمعة ضحوة النهار … وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.