فلما كانت الليلة ٩٦٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الدرويش لما قال للتاجر: اعلم أنني درويش سَيَّاح، فاتفق أني دخلتُ مدينة البصرة في يوم جمعة ضحوية النهار، فرأيت الدكاكين مفتوحة وفيها من سائر الأصناف والبضائع والمأكول والمشروب، وهي خالية ليس فيها رجل ولا امرأة ولا بنت ولا ولد، وليس في الشوارع والأسواق كلاب ولا قطط ولا حس حسيس ولا إنس، فتعجَّبت من ذلك وقلت: يا ترى، أين راح أهل هذه المدينة بقططهم وكلابهم؟ وما فعل الله بهم؟ وكنت جائعًا فأخذت عيشًا سخنًا من فرن خباز ودخلت دكان زيات وبسَسْتُ العيش بالسمن والعسل، وأكلت، وطلعت دكان شربات فشربت ما أردت، ورأيت القهوة مفتوحة فدخلتها ورأيت فيها البكارج على النار ممتلئة بالقهوة، وليس فيها أحد فشربت كفايتي، وقلت: إن هذا الشيء عجيب! كأنَّ أهل هذه المدينة أتاهم الموت فماتوا كلهم في هذه الساعة، أو خافوا من شيء نزل بهم فهربوا وما قدروا أن يقفلوا دكاكينهم. فبينما أنا أفكر في هذا الأمر، وإذا بصوت نوبة تدق، فخفت واختفيت حصة من الزمان، وصرت أنظر من خلال الخروق، فرأيت جواريَ كأنهن الأقمار وقد مشين في السوق زوجًا زوجًا من غير غطاء، بل مكشوفات الوجوه، وهنَّ أربعون زوجًا بثمانين جارية، ورأيت وليدة راكبة على جواد لا يقدر أن ينقل أقدامه مما عليه وعليها من الذهب والفضة والجواهر، وتلك الوليدة مكشوفة الوجه من غير غطاء وهي مزيَّنة بأفخر الزينة ولابسة أفخر الملبوس، وفي عنقها عقد من الجوهر، وفي صدرها قلائد من الذهب، وفي يديها أساور تضيء كالنجوم، وفي رجلَيْها خلاخل من الذهب مرصَّعة بالمعادن، والجواري قدامها وخلفها وعن يمينها وشمالها، وبين يديها جارية مقلَّدة بسيف عظيم قبْضتُهُ من زمرد وعلائقه من ذهب مرصَّع بالجواهر، فلما وصلت تلك الصبية إلى الجهة التي قدامي حبستْ عنان الجواد وقالت: يا بنات، إني قد سمعت حس شيء في داخل هذا الدكان، ففتِّشْنَه لئلا يكون فيه أحد مستخفٍ ومراده أن يتفرج علينا ونحن مكشوفات الوجوه. ففتَّشْنَ الدكان الذي قدام القهوة التي أنا مستخفٍ فيها، وبقيت أنا خائفًا، فرأيتهن قد خرجْنَ برجل وقلن لها: يا سيدتنا، قد رأينا هنا رجلًا، وها هو بين يديك. فقالت للجارية التي معها السيف: ارمي عنقه. فتقدَّمت إليه الجارية وضربت عنقه، ثم تركْنَه مطروحًا على الأرض ومضَيْنَ. ففزعتُ أنا لمَّا رأيت هذه الحالة، ولكن تعلَّقَ قلبي بعشق الصبية، وبعد ساعة ظهر الناس وصار كلُّ مَن كان له دكان يدخلها، ودرجت الناس في الأسواق والتمُّوا على المقتول يتفرَّجون عليه، فخرجتُ أنا من المكان الذي كنت فيه سرًّا، ولم ينتبه لي أحد، ولكن تملَّك قلبي عشق تلك الصبية، فصرت أتجسَّس عليها سرًّا، فلم يخبرني أحد عنها بخبر. ثم إني خرجت من البصرة وفي قلبي من عشقها حسرة، فلما رأيت ابنك هذا رأيته أشبه الناس بتلك الصبية، فأذكرني بها وهيَّج عليَّ نار الغرام، وأضرم بقلبي لهيبًا، وهذا سبب بكائي. ثم إنه بكى بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، وقال: يا سيدي، بالله عليك أن تفتح لي الباب حتى أذهب إلى حال سبيلي. ففتح له الباب وخرج.
هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قمر الزمان، فإنه لما سمع كلام الدرويش اشتغل باله بعشق تلك الصبيَّة، وتمكَّن منه الغرام، وهاج به الوَجْد والهيام، فلما أصبح الصباح قال لأبيه: كل أولاد التجار يسافرون البلاد لتحصيل المراد، وليس منهم واحد إلا وأبوه يجهِّز له بضاعة فيسافر بها ويربح فيها. ولأي شيء يا أبي لم تجهِّز لي تجارة حتى أسافر بها وأنظر سعدي؟ فقال له: يا ولدي، إن التجار مقلُّون من المال، فيسفِّرون أولادهم من أجل الفوائد والمكاسب وجلب الدنيا، وأما أنا فعندي أموال كثيرة، وليس عندي طمع، فكيف أغرِّبك وأنا لا أقدر على فراقك ساعة؟ خصوصًا وأنت فريد في الجمال والحُسن والكمال وأخاف عليك. فقال له: يا أبي، لا يمكن إلا أن تجهز لي متجرًا لأسافر به، وإلا أغافلك وأهرب ولو من غير مال ولا تجارة، وإن أردت تطييب خاطري فجهِّز لي بضاعة حتى أسافر وأتفرج على بلاد الناس. فلما رآه أبوه متعلقًا بالسفر أخبر زوجته بهذا الخبر وقال لها: إن ولدك يريد أن أجهِّز له متجرًا ليسافر به إلى بلاد الغربة، مع أن الغربة كربة. فقالت له زوجته: ماذا يضرك من ذلك؟ إن هذه عادة أولاد التجار؛ فكلهم يتفاخرون بالأسفار والمكاسب. فقال لها: إن غالب التجار فقراء يطلبون كثرة المال، وأما أنا فمالي كثير. فقالت له: زيادة الخير لا تضر، وإن كنتَ أنت لا تسمح له بذلك فأنا أجهِّز له متجرًا من مالي. فقال التاجر: إني أخاف عليه من الغربة؛ لأنها بئست الكربة. قالت: لا بأس بالاغتراب الذي فيه الاكتساب، وإلا يذهب ولدنا ونطلبه فلا نراه ونفتضح بين الناس. فقبل التاجر كلام زوجته وجهَّزَ متجرًا لولده بتسعين ألف دينار، وأعطته أمه كيسًا فيه أربعون فصًّا من ثمين الجواهر، أقل قيمة الواحد خمسمائة دينار، وقالت: يا ولدي، احتفظْ بهذه الجواهر فإنها تنفعك. فأخذ قمر الزمان جميع ذلك وسافَرَ إلى البصرة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.