فلما كانت الليلة ٩٦٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك لما أعطى الجوهري ما تمنَّاه، ونادى بين أهل البصرة بما تمنَّاه، قالوا: إننا نخاف على البضائع من القطط والكلاب. فأمر الملك بحبسها في ذلك اليوم حتى تخرج الناس من صلاة الجمعة، وصارت تلك الجارية تخرج في كل يوم جمعة قبل الصلاة بساعتين وتركب بجواريها في شوارع البصرة، ولا يقدر أحد أن يمر في السوق ولا أن يطل من طاقة ولا من شباك. فهذا هو السبب، وقد عرَّفتك بالجارية، ولكن يا ولدي هل مرادك معرفة خبرها أو مرادك الاجتماع بها؟ فقال: يا أمي، مرادي الاجتماع بها. فقالت: أخبرني بما عندك من الذخائر الفاخرة. فقال: يا أمي، عندي من ثمين المعادن أربعة أصناف؛ صنف ثمن كل واحد منه خمسمائة دينار، وصنف ثمن كل واحد منه سبعمائة دينار، وصنف ثمن كل واحد منه ثمانمائة دينار، وصنف ثمن كل واحد منه ألف دينار. قالت له: وهل تسمح نفسك بأربعة منها؟ قال: نفسي تسمح بالجميع. قالت: قُمْ يا ولدي من غير مطرود، وأخرج منها فصًّا يكون ثمنه خمسمائة دينار، واسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجوهرية، واذهب إليه تَرَه جالسًا في دكانه وعليه ثياب فاخرة وتحت يده الصناع، فسلِّم عليه واجلس على الدكان وأخرج الفص وقل له: يا معلم، خذ هذا الحجر وصِغْه لي خاتمًا بالذهب، ولا تجعله كبيرًا، بل اجعله قدر مثقال من غير زيادة، واصنعه صنعًا جيدًا. ثم أعطِهِ عشرين دينارًا وأعطِ الصنَّاع كلَّ واحد دينارًا، واقعد عنده حصةً وتحدَّث معه، وإذا أتاك سائل فأعطِهِ دينارًا، وأظهِرِ الكرمَ حتى يتولَّع بمحبتك، ثم قُمْ من عنده ورُحْ إلى منزلك وبِتْ هناك، فإذا أصبحت فهاتِ معك مائة دينار وأعطها لأبيك فإنه فقير. قال: وهو كذلك. ثم خرج من عندها وذهب إلى الوكالة وأخذ فصًّا ثمنه خمسمائة دينار، وعمد به إلى سوق الجواهر وسأل عن دكان المعلم عبيد شيخ الجوهرية، فدلُّوه على دكانه، فلما وصل إلى الدكان رأى شيخ الجوهرية رجلًا مهابًا، وعليه ثياب فاخرة وتحت يده أربعة صناع، فقال لهم: السلام عليكم. فردَّ عليه السلام ورحَّب به وأجلسه، فلما جلس أخرج له الفص وقال له: يا معلم، أريد منك أن تصوغ لي هذا الحجر خاتمًا بالذهب، ولكن اجعله قدر مثقال من غير زيادة، وصِغْه صياغة طيبة. ثم أخرج له عشرين دينارًا وقال له: خذ هذه في نظير نقشه، والأجرة باقية. ثم أعطى كل صانع دينارًا، فأحبَّه الصنَّاع وأحبَّه المعلم عبيد، وقعد يتحدَّث معه، وصار كلُّ مَن أتاه من السائلين يعطيه دينارًا، فتعجبوا من كرمه. ثم إن المعلم عبيد كان عنده عدة في بيته مثل العدة التي في الدكان، وكان من عادته أنه إذا أراد أن يصنع شيئًا غريبًا يشغله في بيته، حتى إن الصنَّاع لا يتعلَّمون منه الصنعة الغريبة. وكانت الصبيَّة زوجته تجلس قدامه، فإذا كانت قدامه ونظر إليها فإنه يصنع كل شيء غريب في صناعته، بحيث لا يليق إلا بالملوك. فقعد يصنع هذا الخاتم صنعة عجيبة في البيت، فلما رأته زوجته قالت له: ما مرادك أن تصنع بهذا الفص؟ قال: أريد أن أصوغه خاتمًا بالذهب، فإن ثمنه خمسمائة دينار. فقالت له: لمن؟ قال: لغلام تاجر جميل الصورة له عيون تجرح وخدود تقدح، وله فم كخاتم سليمان، ووجنتان كشقائق النعمان، وشفايف حمر كالمرجان، وله عنق مثل أعناق الغزلان، وهو أبيض مشرب بحمرة، ظريف لطيف كريم، فعل كذا وكذا. وصار تارةً يصف لها حُسْنَه وجماله، وتارةً يصف لها كرمه وكماله، وما زال يذكر لها محاسنه وكرم أخلاقه حتى عشَّقها فيه، ولم يكن أحد أعرص من الذي يصف لزوجته إنسانًا بالحُسْن والجمال وفرط سخائه بالمال! فلما فاض بها الغرام قالت له: هل يوجد فيه شيء من محاسني؟ فقال لها: جميع محاسنك كلها فيه، وهو شبيهك في الصفة، وربما كان عمره قدر عمرك، ولولا أني أخاف على خاطرك لَقلتُ: إنه أحسن منك بألف مرة. فسكتت، ولكن التهبت نار محبته في قلبها. ثم إن الصايغ لم يزل يتحدث في تعداد محاسنه حتى فرغ من صياغة هذا الخاتم، ثم ناوله لها فلبسته، فجاء على قدر إصبعها، فقالت له: يا سيدي، إن قلبي حب هذا الخاتم، وأشتهي أنه يكون لي ولا أنزعه من إصبعي. فقال لها: اصبري، فإن صاحبه كريم، وأنا أطلب أن أشتريه منه، فإن باعني إياه جئت به إليك، وإن كان عنده حجر آخر أشتريه لك وأصوغه مثله. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.