شو والفن
والمقصود بالفن في سياق الكلام على شو هو فن المسرح قبل كل شيء، ثم فن الموسيقى، ثم سائر الفنون.
وشو صاحب مدرسة مستقلة في المسرحيات.
نعم، إنه يقتدي بالشاعر النرويجي هنريك أبسن، ولكنه أوسع نطاقًا من أبسن في جانب، وأضيق منه نطاقًا في جانب آخَر.
فقد تناول شو في مسرحياته كلَّ ما يتناوله الفكر من مسائل الفلسفة، ونظم الحكم، ومشكلات المجتمع والسياسة، وفصل القول في أمورٍ لم يبحثها أبسن ولم يكن في طاقته أن يبحثها، وأطلق التمثيل من قيود الفصول القصار بما أبدعه من الملاحم المسرحية التي تستغرق الصفحات الطوال، وكانت منزلته الأدبية خير شفيع لتلك الملاحم عند الفِرَق التمثيلية التي تشتغل بالمسرح أو بالصور المتحركة. فلولا تلك المنزلة لما ظهرت روايات بهذه الضخامة على المسرح أو اللوحة البيضاء.
ومزية شو في مسرحياته تكاد تنحصر في حسن الحوار وعرض الأفكار، فهي فقيرة في المواقف، فقيرة في تكوين «الشخصيات» وتلوينها، وعبثًا تحاول أن تلقى في رواياته شخصيةً كشخصيات شكسبير وموليير وسفوكليز، أو موقفًا كالمواقف المحكمة التي يعرضها لنا أولئك الشعراء في مهارة خفية، يُخَيَّل إلينا أنها أحكمت تلك المواقف بغير عناء. فما في روايات شو من محزنات أو مضحكات فهو من كلمةٍ تقال أو حوارٍ مُرتَّب بين السائل والمجيب، ولنا أن نقول إنه أقام لنا مسرحًا أو فتح لنا ناديًّا بمعنى واحد، فالمسرح ونادي السمر والحديث في روايات شو توءمان.
يقول شرشل في مقاله البديع عن روايات شو: «إن من تجديداته الأخرى — والكبرى — أنه لا يعتمد في مسرحياته على التجاوب بين الشخصية والشخصية، أو على التجاوب بين الشخصية والبيئة، ولكنه يعتمد فيها على التجاوب بين الحوار والحوار، وبين الخواطر والخواطر، فتصبح خواطره شخوصًا تتصارع فيما بينها، تارةً بقوة مسرحية شديدة وتارةً بغير ذلك، وتصبح شخوصه الإنسانية — مع استثناءٍ قليلٍ — عائشة بما تقوله، وليست عائشة بما تعمله، ولكنها مع ذلك تعيش.»
والفيلسوف «جود» تلميذ شو يتقبَّل هذا النقد ويضيف إليه قول القائلين: إن شخوص شو لا تعدو أن تكون أبواقًا ينفخ فيها آراءه ودعواته. ثم يقول: إن هذا النقد تحصيل حاصل؛ لأنه يصدق على جميع المؤلفين وجميع الشخوص.
«إلا أن بُطْلَان التهمة إذا أُرِيدَ بها أن الشخوص ليست أفرادًا حية، بل مجرد تسجيلات صوتية كقوالب الحاكي، يكفي في إظهاره سرد أسماء كأسماء: ديك، ودجيون، ولادي سيسلي، ونفليث، ولويس، ديوبدات، وكانديدا، والقديسة جون، وكابتن شوتوفر، وهم شخوص يعيشون بحقهم في الحياة لا بحق التأليف، ونحن نذكرهم أفرادًا أحياء كما نذكر شخوص شكسبير وديكنز …»
والذي ينساه جود أن تمييز الشخوص قد يرجع إلى فارق في صفةٍ من الصفات غير صفة الحياة الطبيعية، كالفارق بين رسوم الصور المتحركة التي نفرِّق بينها لطول ما نعهدها في صورها، وإن خَلَتْ تلك الصور من الملامح النفسية التي يحدث بها التمييز بين إنسان وإنسان.
وقد حاول شو أن ينظم الشعر، فلم يعلن منه غير مقطوعات غزلية فكاهية، تُحسَب مع الشعر الذي يُنظم لمحفوظات الأطفال، وسُئِل عن محاولته الشعر وعدوله عنه، فقال إنه تركه لأنه رآه يملي عليه ما تحكم به القافية ولا يقول فيه ما يعنيه، وهو عذر لو منع شاعرًا لامتنع الشعر كله، ولكنه عذر مَن ليس بشاعر؛ لأنه لا يستطيع أن يعبِّر بالشعر عما يريد.
•••
ومنزلة شو في التعليقات الموسيقية تلي منزلته في المسرحيات، وإن لم يصح فيها أن يقال إنه صاحب مدرسةٍ في هذه التعليقات.
ويظهر أن سليقة الموسيقى ملكة موروثة من أمه، وأن فائدته من الملحنات التي وضعها نوابغ الموسيقيين — ولا سيما ڤاجنر — أكبر من كل فائدة استفادها من المسرحيات التي وضعها كبار الشعراء والكتَّاب؛ إذ يغلب على مسرحياته أنها ملحنات لفظية تنوب فيها النكات والكلمات عن الأغاني والألحان، وأنها سمط ينتظم النكتة هنا والجواب المسكت هناك، كما جعلت الملحنات سمطًا لانتظام الألحان الموقعة في شتى المناسبات.
واعتقاد شو في الموسيقى أنها تنقل إليك الشعور نفسه من حيث يعجز القصَّاص عن نقله فيكتفى بوصفه. وإننا إذا أصغينا إلى الرواية الموسيقية غمرتنا حالة كالحالة التي جاشت بنفس البطل، واستولت عليه في تلك اللحظة، وهو يقول: «إنني نفذت إلى فكتور هوجو وشيلر من طريق الموسيقي دونيزتي والموسيقي فردي والموسيقي بيتهوفن، ونفذت إلى التوراة من طريق هاندل، وإلى جيتي من طريق شومان …»
والذين يعقبون على هذا الرأي، منكرين لا يبخسون الموسيقى حقها، بل يعطونها فوق هذا الحق ويجعلونها غرضًا مقصودًا لذاته، ولا يحصرون مهمتها في التعبير عن الأغراض الأخرى، وهي عندهم «حياة مستقلة» وليست بكلام أو أداة للكلام.
وفي اعتقادنا أن الموسيقى قد تكون معبرًا، كما قد تكون هي نفسها «شيئًا معبَّرًا عنه».
وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت صورة للنفس في حالات انتظامها، وتناسق الشعور فيها، وتطابق النغمات بينها وبين نظام الكون الذي نعيش فيه، وهي بهذه المثابة أكثر من تعبير؛ لأنه ليس هناك ما تعبر عنه غير هذه المطابقة بين عالم السريرة وعالم الوجود كله، وما أندرها من مطابقة! وما أندر الموسيقى التي تحكيها وتغنينا بها عن كل حكاية سواها!
وقد اشتغل شو بالنقد الموسيقي زمنًا، واشتغل معه بنقد الآثار الفنية على الإجمال، ومأثرته العظمى في هذا الباب أنه أنقذ النقد الفني من «المشرحة الطبية» التي حاول بعض النقاد العلماء أن يردوه إليها ويقصروه عليها، وفي طليعتهم «ماكس نورداو» الطبيب الكاتب المفكر المعروف صاحب كتاب «الانحلال والاضمحلال»، الذي أنحى فيه على عشرات من الأدباء والفنانين بسلاح المشرطة ولغة الوصفات والتحليلات.
وكان هَمُّ نورداو أن يثبت على الفنان أعراض المرض كما «يشخصها» من كتاباته وترجمة حياته، ثم يحكم على فنه بالشذوذ والانحلال.
ومن الواضح أن هذه الطريقة كثيرة المزالق، كثيرة الأخطاء؛ لأن إثبات الشذوذ على النوابغ لا يزيد على القول بأن شذوذ المزايا يقترن بشذوذ التركيب، وتعليل الإحساس بعلة مرضية — أو فزيولوجية — لا ينفيه، فقد يكون ورم الجلد علة لفرط الإحساس، ولا يعني هذا أن الإحساس باطل وأن المحسوس به غير موجود، وقد يقول قائل إن الألماس من الفحم، ولا ينفي بذلك أن الألماس جوهر نفيس، وقديمًا فهم الناس «أن صاحب العاهة جبار»، وفهموا أن المختلين والمعتلين سر من الأسرار، فلم يكن هذا الأسلوب الجديد من «النقد الطبي» للفن والأدب جديدًا في مجموعه، بل الجديد فيه هو تسليطه على الأدباء والفنانين لإنكار آثارهم من طريق المشرحة ووصفات الدواء.
وقد تصدى برنارد شو لهذه المدرسة النقدية فعصف بها عصفًا، ومثَّل بها تمثيلًا، قضى عليها في البلاد الإنجليزية والأمريكية على الخصوص، فجاءته المقترحات من كل فَجٍّ للكتابة في نقد الفنون، ومنها نقد الشعر ونقد الصور والتماثيل ونقد المباني والآثار.
إلا أن تفصيلات النقد في هذه الأبواب لم تسجِّل له فضلًا أكبر من فضله في تصحيح المقاييس وتمحيص الطريقة، ورد النقد العلمي أو النقد الطبي إلى مكانه الأمين.
وقد تقرَّر مكانه هو في عالم الفن وعالم النقد باتفاقٍ بين النقاد قلما يمتري فيه ناقدان.
فهو في المسرح صاحب عمل، وهو في الموسيقى صاحب رأي، وهو في سائر الفنون صاحب ذوق يسلكه بين «المستنفدين» الذين يُحسِنون الاختيار، ولا يرتقي به إلى طبقة المنتجين الخلَّاقين، وعمله في المسرح ورأيه في الموسيقى، وذوقه في سائر الفنون، حظ من أوفر الحظوظ التي يطمح إليها الفنان الناقد، وقليلًا ما يجتمعان.