أحاديثه
اشتهر برنارد شو كما تقدَّمَ في أكثر من باب واحد.
اشتهر بالقصة والرواية المسرحية، واشتهر بالنقد الفني والإصلاح الاجتماعي، واشتهر بالخطابة والمناظرة، واشتهر بالنكتة البارعة والكلمة السائرة في أحاديثه التي تتلاقى فيها الحقائق والأوابد على نسق واحد.
غير أننا إذا قلنا إنه محدِّث بارع وسكتنا على ذلك، لم نظلمه ملكة من ملكاته؛ لأن كتاباته كلها من قبيل الأحاديث التي تصدر عن صاحبها عفو الخاطر، واهتمامه بوقع النكتة في مفاجأتها أشد من اهتمامه بتحليل الحقيقة بعد درسها، ومعظم آرائه مسوق في رواياته على صيغة الحديث المرتجل الذي يرد عليه بحديث مثله. فهو محدِّث غير مدافع، سواء كتب أو تكلم، ومحاسبته بغير حساب الأحاديث كمحاسبة «النكتة» بالنقد والمراجعة.
فهي «نكتة» قبل كل شيء.
ولك بعد ذلك أن تفهم منها ما تشاء، مع إعطاء النكتة حقها من المبالغة أو المفارقة أو الجناس في لفظة ومعناه.
ومن الصعب أن يقال عن رجل أربى على التسعين، وقضى نحو سبعين سنة منها يكتب ويفكر، أنه يرتجل آراءه ولا يرجع فيها إلى رَوِيَّة سابقة، ولكننا نعني بالارتجال هنا أنه تعوَّدَ أن يفوه بما يحضره لساعته عفو الخاطر، سواء ذكر ما قاله فيه من قبلُ أو لم يذكر شيئًا عنه قبل ذلك، فطابع الارتجال هو الطابع الظاهر على كل ما يكتب ويقول، ومفاجأة السامع أهم عنده من مخاطبته بما يألف أو بما ينتظر، وقد يكون الإغراب عنده كالجرس الذي ينبه السامع إلى حامله، ثم تتلوه «الفرجة» على المألوف أو غير المألوف.
وليس من اليسير جمع أحاديثه الكثيرة في حيز واحد، فقد تحدَّثَ إلى مئات، وسأله السائلون وأجابهم خلال عشرات السنين، فحسبنا من أحاديثه الكثيرة نماذج شتى في موضوعات متشعبة جرى الحديث فيها بينه وبين جاره وصديقه مستر «ونستين» وبعض صَحَابَتِه، ثم جمعها هذا في كتاب سماه «أيام مع برنارد شو» … وكلٌّ منها مثال صالح لجملة أحاديثه، وفيما يلي دلالة عليها لم نتعمد فيها الانتقاء والتمييز؛ إذ كان الاختيار «الجزاف» أليق «اختيار» للدلالة على الحديث المرتجل في جميع الأوقات.
•••
جرى الحديث عن غاندي فقال شو عن نفسه إنه هو مهاتما الغرب — وكلاهما كما هو معلوم لا يأكل اللحوم.
ثم قال: «لما لقيته في إنجلترا قضيت معه لحظة في حديث غاية في الطرافة، وكان شديد التلطف بي، فسألني عند انصرافي كيف أنوي أن أعود إلى منزلي؟ فقلت له: سأركب سيارة من سيارات الأجرة! فلم يقبل هذا وأصَرَّ على أن يدبر لي طريق العودة بنفسه، ودعا بسيارة فخمة يسوقها شاب أنيق جميل الهندام، فحرت ماذا أعطيه حين وقف بي على باب داري! وأحسست أنه جدير بهبة غير «نصف الشلن التقليدي» الذي ننفح به سائقي السيارات، فاعتزمت أن أنفحه بخمسة شلنات، وأدهشني أنه يرفضها، وخُيِّلَ إليَّ أنه يستقلها، ولكنني لم أشأ أن أفسده بالسرف. وإذا به يعود في اليوم الثاني ليسأل عني، فسبق إلى خاطري أنه جاء في طلب الهبة المرفوضة، ولكنه أفهمني ونحن ندخل المنزل أنه جاء ليسألني عن راحتي في نقلة الأمس، وأنه أمير صاحب ملايين، وقضينا فترة من الوقت نتحدث عن السيارات، وكل حديث عن المكنات يطيب لي على الدوام.»
•••
وتحدَّثَ الجلساء مرةً عن الدعوة الانتخابية في المذياع، فتبيَّنَ أن شو كان يصغي إليها ويزجي الفراغ بإعطاء أصحابها درجات في فن الإلقاء، وأنه رضي عن صوت مستر «أتلي»؛ لأنه لا ينمُّ على احتراف السياسة.
وتكلم عن مجتمع رأس المال فقال: إن التنازع أول صفات الانسانية في مجتمعات رأس المال؛ ولهذا تصبح الحياة موحشة عسيرة من ألف وجهة لا تستلزمها الضرورة، ومن ثَمَّ يندر وجود الإنسان الذي يبلغ من ذكائه وكياسته وضبط نفسه أن يسلك طريقه في الدنيا بغير إساءة يلقيها أو يتلقاها، ويمتلئ الجو كله بالدعاوى الكاذبة حتى لا يتهم بالدجل والفساد أحد غير الذي ينشد الحقيقة. إنني أنفر من البغضاء، ولكنني لا أوصي بالقناعة. فإذا سمعت الشيوخ يدعون إلى القناعة، فاعلم أنهم عُطل من الفكر أو أنهم منافقون.
•••
ولما دار الحديث على القذيفة الذرية قال: «إن لم نتفق على الحكومة العالمية، فسوف تأتي الحكومة العالمية بغير اتفاق على نحوٍ أخطر وأعنف، ستأتي بطغيان دولة واحدة على العالَم بأسره، ولن تكون إنجلترا هي تلك الدولة.»
•••
وتكلم محدثه مرة عن الفن وعلاقته بجهل أسرار الزوجية، كلامًا أكثر فيه من الشروح والتعليلات، فقال شو: «ها أنت ذا تعود إلى الشروح كأن هذه الشروح تنفع أحدًا من الناس. إن الوقائع وحدها قد تكفينا حيث تخطئ الشروح في معظم الأحوال؛ لأنها تجري في نطاق تفكيرنا المحدود. وأذكر مثلًا تلك الشروح التي تعوَّد أسلافنا أن يقنعوا بها ويعتمدوا عليها …! لقد كانت إلين تيري — الممثلة المشهورة — تعتقد أنها ستلد طفلًا بعد أن قَبَّلَها واطس، ولم تكن على هذا بالمرأة الحمقاء. وكثير من المتعلمين في أكسفورد وكامبردج لا يفقهون شيئًا عن المسائل الجنسية أو يفقهونها فوق ما ينبغي، وكلاهما سواء في الضرر والوخامة.»
•••
وذكروا أمامه أن القوة أو السلطة مفسدة لأصحابها، فقال: ماذا نتوقع إذا كنا من الحماقة بحيث نضع السلطة بين أيدي الحمقى؟ إن السلطة على كل حال لا تفسد الناس، ولكن الحمقى من الناس إذا ملكوا السلطة أفسدوها. وهذا ما حدث مع هتلر والبلاد الألمانية، وهذه هي صناعة اللعب بامتطاء السلطة … ولقد عرفت جيدًا تلك القسوة التي يصبها أولئك الآلهة من القصدير على الوادعين والحالمين، ولكنني عرفت كذلك جيدًا تلك الأرواح العظيمة التي تزداد على القوة عذوبة وبساطة، وتتلقى الشبهات والمفتريات وتظل بعد ذلك على عصمتها من الفساد.
•••
وقال عن أهل الصين إنه يحسبهم مستطيعين أن يحاربوا أبدًا ولا يفقدوا ما جُبِلوا عليه من روح الفكاهة. ثم قال إن عبادات الصين تحفُّ بها السكينة؛ لأن المعيشة هناك محورها السن لا الشباب، ولست أخالف القائلين إن اليونان هم المسئولون عن هذه العبادة للشبيبة. وقد حاولها هتلر … وها أنت ذا ترى مصير قومه، ونحن في الغرب نخجل من التقدم في العمر، أما الشرقي فإنه يقول لك إذا أراد أن يسترضيك إنك تبدو أكبر من عمرك. وحذار — بعدُ — أن تَهْرِفَ بهذا في محضر سيدة من سيداتنا؛ فقد ترى قبل أن تشعر أن سقف الدار منطبق على أذنيك.
وأخرج يومًا لجليسين معه وثيقة طويلة مرقومة رقمًا حسنًا بالآلة الكاتبة، وطلب إليهما أن يوقِّعَاها، وقال لهما: إنها وصيته المعدَّلَة.
فسألاه: ألَمْ نوقِّعْها من قبلُ؟
فقال لهما: ولا يبعد أن تعودا بعد توقيع هذه إلى توقيعها مرة أخرى. فإنها لتسلية ظريفة أن تَحْتَجِنَ قسطًا وافرًا من المال وتلهو بإلقائه عنك هكذا بين حين وحين، وقد جاءني بعضهم ذات يوم واقترح عليَّ أن أهبها كلها للفنانين، إلا أن المرء إذا لم يكن قد تعوَّد حيازة المال خليق أن يضيعه. وقد كان شلي يحسن التصرف؛ لأنه تعود حيازة المال، أما والتر سكوت ودستيفسكي فقد بدَّدَا ما كسبا وآلَ بهما الأمر ألَّا يكتبا إلَّا وعلى الباب غريم يلحف في المقاضاة. وسأوصي بمالي لهيئات منتظمة لا لآحاد متفرقين. إن أمي قد تنغصت حياتها؛ لأنها كانت تترقب أن يُترَك لها الميراث، فلما لم يُترَك لها شقينا بذلك أجمعين.
•••
ومن كلامه عن الأحاديث الصحفية: إن أناسًا عديدين يتحدثون إليَّ خمس دقائق ويقصون سائر أيامهم بعدها، وهم يثلبونني وينعون عليَّ. قال: «ولا شيء يثيرني كما يثيرني كما يثيرني الثناء عليَّ لصفات أزدريها، وإن كنتُ لا أبالي أن يزدريني من شاء لتلك الصفات التي أنفقت السنين بعد السنين في تكوينها واكتسابها. وقد عولت في المستقبل على أن أطلب من كل صحفي أن يُطْلِعني على نص الحديث معي قبل أن آذَن له بالمحادثة!»
وكان قد قال قبل ذلك: إن صحفيًّا جاءني ذات يوم فبلغ من ضعفي أن آذَنَ له بمحادثتي، فإذا هو قد أتم شغلة الحديث وحده ولم يترك لي لحظة أقول فيها كلمة واحدة، فلما انصرف سمحت له بنشر الحديث على شرطٍ، وهو أن يكتفي بما قلتُ ويحذف كلَّ ما قال!
•••
ولقيه أسير ألماني فأعرب له عن إعجابه وتمنيه أن يلقاه من قبل أن ينظر إليه بعيني رأسه، وقال له: إنه ساعة لمحه من بعيد قال لرفاقه: إن جيتي شاعرنا قد قال عن نفسه إنه طفل العالم، ولكن برنارد شو خليق أن يُسمَّى «شيخ العالم».
قال شو: إن إنجليزيتك جيدة؛ لأنك — كسائر أبناء القارة — قد اطَّلَعت على الجميل من آدابنا، والإنجليزي إذا تكلم عن الأدب الألماني أحضر في خاطره جيتي وهيني، ولكنه إذا تكلم عن الأدب الإنجليزي فالذي يعنيه هو تلك الشرطيات والمقاتل التي يتسلى بها حين يذهب إلى فراشه.
•••
وزار يومًا جيرانه فقدموا له كوبًا من عصير التفاح، فاعتذر قائلًا إنه لا يأكل ولا يشرب شيئًا بين وجبة الغداء (الساعة الأولى والدقيقة الخامسة عشرة) ووجبة العشاء (منتصف الثامنة). ثم أضاف قائلًا: وعَدَا هذا أرى أن الأكل يقتضب حفاوة اللقاء؛ فإن الإنسان لا يتكلم وهو يأكل!
ثم استعاد ذكرى رحلته الإيطالية واندفع يغني، ورأسه إلى الوراء ويده تضبط النغمة، وعند الساعة السادسة إلا عشر دقائق تمامًا امتدت يده إلى ساعته الذهبية الكبيرة، فأخرجها ونظر فيها، وهمَّ واقفًا وهو يقول: لا مؤاخذة، لا بد أن أعود الساعة إلى امرأتي، فمن عادتنا أن نسمع معًا أخبار الساعة السادسة.
•••
وتحدَّثَ قس القرية التي يعيش فيها إلى بعض جيرانه فقال له الجار: إنك لم تنجح قَطُّ في إقناعه بزيارة الكنيسة على ما أرى.
قال القس: إنه حضر مدرسة الأحد ذات مرة، ولست أنسى أسلوبه في خطابه لأطفال القرية المساكين، مستغرقًا في «الاقتصاديات» والحيويات وما يسميه بقوة الحياة! وكان الأطفال يصغون إصغاءهم الذي لا يحسنه غيرهم.
قال الجار: أحسبهم كانوا مبتهجين لعلمهم بمَن يخاطبهم.
ومضى القس يقول: وإنني لأستعيد ذلك اليوم فأذكر أنه لم يسألني قَطُّ عن نفسي، كأنه يشعر بأن أُخُوَّتِي له أمر مفروغ منه، ولما عاد بعد ذلك كانت معه نخبة من النبات النادر، فقال إن زوجته كانت تحضرها بنفسها لو أنها عائشة، وقد كان من عادته أن يزور قبرها كل يوم، فيضع عليه نثارة من الزهر البسيط، وينثني راضيًا.
ووصل إليه خطاب من ناظر مدرسة يستأذنه في اختصار روايته «جان دارك» لقراءة التلاميذ، فأخبر أصحابه أنه كتب إليه يقول: إنه لا يذكر في الرواية كلمة زائدة، وإن الأطفال إذا كانت قراءة كُتُبي بعد نضجهم ميسورة لهم، فالخير أن تبقى هذه الكتب بعيدًا من المدرسة.
إن شكسبير — كما قلت للناظر — قد مسخوه بتحويله إلى موضوع من الموضوعات المدرسية، والدنيا لا ترضى أن تحطم عبقرياتها، فإن العبقرية لا تُخلَق كل يوم. وما قضت ثلاثمائة سنة في تكوينه — يعني المدة بين شكسبير وبينه — يستطيع ناظر المدرسة أن يفسده في يوم واحد.
فعارضه جاره وقال إنه على نقيض رأيه يعتقد أن شكسبير قد عاش لاحتضانه في المدارس.
فابتدره «شو» مؤكدًا أنه بقي في هذه الأيام؛ لأنه هو قد أنحى عليه.
قال: لا أبالي أن يفعلوا ما دام نظَّار المدارس لا يطبعونها مذيَّلَة بالتعليقات والشروح، وأنا نفسي لم أنجح قَطُّ في امتحان … وأحسبني أرسب إذا كانت الأسئلة من رواياتي!
ثم عقب مستفسرًا: وبعدُ، فما هو نموذج الأسئلة التي يسألونها عن مؤلفاتي؟
قال صاحبه: قد يسألون مثلًا هل كان «وب» أو «ولز» هو الذي ألَّف المسرحيات «الشوئية» …؟
فضحك «شو» وأجاب: لعل وب كتبها؛ لأنه صاحب ذوق حسن في التسلية والفكاهة، ولعل ولز هو كاتب المقدمات … وإلا فكيف يتسنَّى لرجل لم يتعلم قَطُّ مثل شو أن يكتب حرفًا.
وعرض الحديث لشكسبير في سياق الكلام عن التمثيل، وكان محدِّثه يزعم له أنه ممثل بارع، وأنه لو اشتغل بفن التمثيل لغطى على هنري أرفنج بلا مراء، فقال شو: إن الرجل صاحب القريحة يأتي منه ممثل ردئ، وإنني — لسوء الحظ — قد رُزِقت دماغًا من أدمغة القرائح، وإلا لصلحت كما صلح شكسبير للعمل في فرقة جوالة. وفي جانبي مَزِيَّة أخرى هي أنني على استعداد للعمل المشترك مع غيري، وقد كنت على الدوام قاصر الحيلة في الاقتحام والمعارك، إلا أنني — لو أبيح لي — قادر على تنقيح متن الرواية التي قد أمثلها، كما صنعت برواية سمبلين.
قال محدثه: إنني ليدهشني أن تبيح لنفسك تنقيح شكسبير وأنت لا تبيح لمخرج أفلامك أن يبدِّل كلمة واحدة من كلماتك.
فأجاب «شو»: هات لي امرأ أعظم من شو وأنا أبيح له أن يبدِّل كلامي حتى لا أميزه إذا قرأته!
•••
واستدعى الطبيب — وهو في المدينة — لشعوره بتعب يُلزِمه الفراش، فصعد الطبيب الدرج على قدميه لعطلٍ أصاب المصعد قبل دعوته، وجلس وهو يلهث ويوشك أن يتداعى في مجلسه، فوثب شو من فراشه وناول الطبيب قرصًا من الدواء يزيل التعب، وقال له: إنه يريحك على الأثر، بَيْدَ أن الآفة كلها معك هي فرط التغذية، فجرِّبْ أن تمسك عن لحم الجزار واكتفِ بالخضر والفاكهة، وأنت ترى أن عمري ضعف عمرك ولا أزال أنشط منك مائة مرة … ألَمْ تلحظ كيف وثبت من الفراش في سهولة وخفة؟ فوافقه الطبيب وأثنى على خفته ونشاطه.
فسأله شو: أترقص؟ قال الطبيب: لا. فأدار شو قرصًا موسيقيًّا وطفق يرقص على نغماته، وعاد ينصح الطبيب أن يرقص كل يوم ربع ساعة على الأقل، فإذا هو مثله في النحافة والخفة. وأضاف قائلًا: إنكم معشر الأطباء تنصحون المرضى بما لا يوافقهم؛ تقولون لساعي البريد «امشِ»، وهو يستنفد قواه سعيًا على قدميه، وتقولون لي «لا تكتب» وأنا بالكتابة أحفظ قواي، ولو انقطعت عن الكتابة كل صباح لتساقطْتُ كسفًا … والآن وقد أعطيتك مشورة خبير فهات الشلنات الخمسة المقرَّرة للعيادة.
فابتسم الطبيب وطالبه بجنيهَيْن. قال شو: ويحك! ولِمَ؟ قال الطبيب: لأنني نجحت بالحيلة في علاجك؛ فإنني حين ادَّعَيْت التعب والإعياء أنسَيْتُكَ تعبك وإعياءك وجعلتك تثب وترقص وتريني أنك ناشط وأنك خفيف.
فضحك شو، واعترف بغلبة الطبيب الباقعة له في ميدانه.
•••
وحدَّثوه عن رسم العرايا فأنكره وقال: لعمري ماذا يتعلمون من هذه التجربة؟ إن الحياة لا تفشي أسرارها بدريهمات في الساعة يدفعونها لهذه المخلوقات التي ليس لها حياة.
وقال ذلك لأنهم يطلقون على حجرة الرسم العاري عنوان «حجرة الحياة».
وحدَّثوه عن حرق الموتى فاستصوبه؛ لأن مصير القبور جميعًا مع الزمن إلى الإهمال والاندثار.
•••
وقد تتناول أحاديثه أعماق الفلسفة فلا يحجم عن الإجابة لتوِّه في معضلة من معضلاتها، قال عن الحقيقة في رأي الفلاسفة: «إنني ألقي من يدي بكل كتاب يفتتحه مؤلفه بالسؤال عن الحقيقة، موقِنًا أنه لا يعرفها وأنني لن أعرفها ولو أتيت على كتب الفلاسفة بأجمعها. إن الفيلسوف ورجل الواقع المحسوس قد يتفقان على بضعة أمور حقيقية، ويفسرها كلٌّ منهما تفسيرًا يناقض تفسير صاحبه. ومن عادة الفيلسوف أن يجعل الحقيقة والظاهر ضدين؛ حيث يعتقد رجل الواقع أن الظاهر هو الحقيقة، وأن الأمور التي لا ظاهر لها نصيبها من الصحة والثبوت أقل من نصيب هذه المحسوسات.»
وأبدى له جليسه رأيًا في المصاعب وأثرها في الارتفاع بمَن يذللونها ويتغلبون عليها، وأنه هو قد تسنم الذروة في عالم الأدب والشهرة لما تمرَّسَ به من المصاعب أيام الشباب.
فقال شو: «لغو وهذر. إن أصعب المصاعب التي عانيتها هي الفاقة، فلما «اقترنت» بالغنى تيسَّرَ لي أن أستقر وأن أكتب المسرحيات التي لا تصلح للتمثيل كالعودة إلى متوشالح. وإن غاية الفنان لهي بلوغ ما لا يُدرَك، ولن يتاح لك أن تبلغ ما لا يُدرَك إلا إذا لم تكن مضطرًّا إلى شق الطريق بكفَّيْك.»
ثم استطرد فقال: «هناك أناس على الدوام يرتضون أن يتحملوا الأذى في سبيلك، هؤلاء لا ينجحون أبدًا ولا يزال «الضحية» منهم عبئًا وتبعة وملامة لا تجد مَن يقبلها، وينتهي الأمر بالضحية أن يتعزى بفشله، بينما يمضي خادم نفسه قُدُمًا إلى النجاح.»
•••
ومن أواخر أحاديثه أيام الحرب أنه أشار إلى الألمان، فقال: إنهم فقدوا فطنتهم التي امتازوا بها، وظنوا أنهم يخرجوننا بالرعب عن صوابنا، فإذا بهم قد رَدُّونا بالرعب إلى الصواب.
•••
هذه الخواطر السريعة مثال لتفكيره كله في كتبه ورواياته وخطبه، وليست مقصورة على أحاديثه في المجالس دون غيرها.
فهو فيما يخط بالقلم أو ينطق باللسان لا يتلعثم ولا يتردد، بل يُجِيب عن سؤال السائل بما يعنُّ له، أيًّا كان السؤال وأيًّا كان الجواب.
وأنفع ما تكون هذه الخصلة له حين يريد التخلص في مآزق من الخطابة أو المساجلة، ومثلها كما رأينا مآزق الكتابة.
كان يخطب في نادٍ حافل فقاطعه مخالِف محنق، واختطف الكلام من فمه ومضى يتكلم كأنه هو خطيب النادي.
فقال له شو كأنه يعتذر: إذا سمح لي السيد بمقاطعته …
وقبل أن يُتِمَّ جملته كان السامعون قد أغرقوا الفضولي المقاطع بالضحك، فأسكتوه. واستأنف شو كلامه غير مقاطَع ولا معترض عليه.
واقترحت عليه فنانة أن يتزوج بها عسى أن يُرزَقَا طفلًا له رأس أبيه ووجه أمه، فكان جوابه أنه يرحب بالمقترح الجميل لولا خوفه من مكائد الوراثة؛ فقد يأتي الطفل وله رأس أمه ووجه أبيه.
وهذه النكتة الحاضرة يقولها ويجيب بها على الرسائل، ويكتبها في المؤلفات، فهو متحدث بالقلم وكاتب باللسان، وأسلوبه فيهما أسلوب «النكتة» التي يفهم منها السامع معنى مرادًا، ويعفيها من الإلحاف في النقد والتحليل.