شو ومصر
هناك كلمة واجبة في كل ترجمة لبرنارد شو تكتب في مصر باللغة العربية، وهي الكلمة التي ينبغي أن يشار بها إلى موقفه الكريم من الأمة المصرية بعد حادث دنشواي المشهور.
وقد يحتاج القارئ العصري إلى تلخيص وجيز لهذا الحادث؛ لأنه حدث في سنة ١٩٠٦ قبل أن يُولَد أبناء الأربعين في الجيل الحاضر، فهم لا يعرفونه إلا من طريق السماع أو الاطلاع.
وخلاصة الحادث بغاية الإيجاز أن ثلة من جيش الاحتلال خرجت للصيد على مقربة من قرية دنشواي منتصف الصيف سنة ١٩٠٦ (١٣ يونيو) فاحترق بعض الأجران، وقُتِلت زوجة أحد الفلاحين من طلقة نارية، واشتبك الفلاحون بالضباط فتفاهم هؤلاء على اللياذ بأقرب موقع لطلب النجدة، ومات أحدهم بضربة الشمس بعد أن عدا مسافة طويلة في ذلك القيظ الشديد، كما ثبت من تقرير الطبيب.
وما وصل الخبر إلى القاهرة حتى صدر الأمر العاجل بعقد المحكمة المخصوصة، ونقل المشنقة إلى القرية، ثم صدر الحكم بالشنق على أربعة وبالسجن المؤبد على اثنين، وبالسجن خمس عشرة سنة على واحد، وبالسجن سبع سنوات على سبعة، وبالسجن سنة وخمسين جلدة على ثلاثة، وبخمسين جلدة على خمسة. وتم تنفيذ الحكم في ساحة تطل عليها مساكن المشنوقين والمجلودين.
هذه خلاصة الحادث الذي جرد له برنارد شو حملة من أقوى حملاته، وكتب عنه في مقدمة روايته «جزيرة جون بول الأخرى» فصلًا مسهبًا في ست عشرة صفحة، لم يكتب أحد عن قضية دنشواي ما يضارعها في صدق الدفاع ومضاء الحجة وشدة الغيرة على المظلومين في الحادث المشئوم.
ومما قاله في تلك المقدمة: إن الفلاحين المصريين لم يتصرفوا في الحادث غير التصرف الذي كان منتظرًا من جمهرة الفلاحين الإنجليز لو أنهم أُصِيبوا بمثل مصابهم في المال والحرمات، وإن الضباط لم يكونوا في الخدمة يوم وقوع الحادث، بل كانوا لاعبين عابثين أساءوا اللعب وأساءوا المعاملة، وإن الفلاح الإنجليزي ربما احتمل عبثًا كهذا؛ لأنه على ثقة من التعويض، ولكن القرويين في دنشواي لم تكن لهم هذه الثقة بالتعويض ولا بالإنصاف. وأن أحد المشنوقين — حسن محفوظ — كان شيخًا في الستين يبدو من الضعف كابن السبعين، فلو لم يُشنَق لجاز أن يموت في السجن قبل انقضاء خمس سنوات.
وأجمل شو تاريخ المحكمة المخصوصة التي أُنشِئت لمحاكمة مَن يعتدون على جنود الاحتلال، وأجمل وقائع المحاكمة وأقوال الشهود، وما جوزي به بعضهم على الصراحة في أداء الشهادة، وأشبع لورد كرومر ووكيله مستر فندلي تقريعًا وسخرية على ما كتباه عن القضية إلى وزارة الخارجية. ومنه قول مستر فندلي في تسويغ عقوبة الجَلْد بمصر: «إن المصريين قدريون لا يهمهم الموت كما تهمهم العقوبة البدنية» … فكان تعقيب شو على هذا التعليل العجيب أن العجب إذن في أمر الأربعة المشنوقين … أليسوا من المصريين القدريين.
وقد شملت حملته الوزارة البريطانية والبرلمان الإنجليزي؛ لأنهم لم يمنعوا تنفيذ الحكم بعد تبليغه، وقال إن الإفراج عن السجناء من أهل القرية أقل تكفير منتظر عن هذه الكارثة البربرية.
ولم يَزَلْ شو يتابع القضية بعد إقالة لورد كرومر، وأعلن اغتباطه بعد سنة حين أثمرت حملته ثمرتها المشكورة، وأبلغوه أن العفو عن السجناء قريب.
والتعريف بهذه الناحية الإنسانية لازم فيما يكتب عن برنارد شو حيثما كان كاتبوه، غير أنه ألزم ما يكون في كتاب يُنشَر في مصر لقرَّاء اللغة العربية.
•••
على أن مصر شغلت «شو» لمناسبة أخرى غير هذه المناسبة المحزنة، ولعلها أقرب إلى الفكاهة التي يجد فيها صاحبنا متاعًا لقلمه ولسانه.
فقد تقرَّر في سنة من السنين الدراسية (١٩٢٧–١٩٢٨) تدريس روايته «جان دارك» في الجامعة المصرية، فأثار القرار اعتراضًا شديدًا ممَّن سمعوا الرواية ولم يطَّلِعوا عليها؛ لأن النبي عليه السلام يُذكَر فيها باسم راعي الإبل.
وصلت الحملة على الرواية إلى مجلس النواب، وتصدَّى أربعة من النواب لاستجواب الحكومة في هذه المسألة، وكان كاتب هذه السطور عضوًا فيه فاشتركتُ في المناقشة لبيان الحقيقة، وذكَّرتُ المجلس بموقف الرجل في قضية دنشواي، وقلتُ إن العبارة المشار إليها قد وردت على لسان شخص من شخوص الرواية لا على لسان المؤلف، وإن المؤلف وضع على لسان شخص آخَر ردَّه المفحم عليها، فقال إن أتباع محمد عليه السلام أوفر أدبًا من هذا في كلامهم عن السيد المسيح، وإنهم يوقرون الحواريين، ولا يقولون عن واحد منهم إنه «صياد أسماك».
ونمى الخبر في أثناء ذلك إلى برنارد شو، فقال لمندوب صحيفة «نيوز كرونيكل» الذي قصد إليه لمحادثته في شأنه: «إن ما جاء في الرواية لم يكن رأيي أنا، بل هو رأي الكنيسة في القرون الوسطى.»
وكان ناقلو الخبر قد أساءوا نقله، وأفهموا الكاتب أن الاعتراض على الرواية قد جاء من قِبَل الأساتذة والطلبة، فقال: «إن الطلبة المصريين فاتهم على ما يظهر أن العبارة التي لم ترقهم لم تصدر مني، وإنما صدرت من كوشون الذي عاش في القرن الخامس عشر، وإنني أفهم أن تسيء هذه العبارة وأمثالها إلى جماعة من الأميين، بَيْدَ أنني لا أدري كيف يأتي سوء الفهم من هيئة علمية كالجامعة المصرية. ألم يستطع أولئك الجامعيون أن يروا ما في المقارنة من المدح والثناء على النبي؟ … ولماذا لم يقرءوا ما قال إيرل وأرديك من الإشادة بالإسلام على حساب المسيحية؟»
ثم ختم الحديث بشطحة من شطحاته فقال: «إن آخِر كلمة أقولها في هذه القصة: إن الأساتذة يستحقون العزل العاجل جزاءً لهم، أما الطلبة فقد يستحقون الصفح والإغضاء.»
وعزاء الأساتذة الذين عناهم شو أن العقوبة التي اختارها لهم أخف عقوباته لمَن يتهمهم بالجمود والتضييق على الحرية الفكرية … فهي رحمة وغفران منه حيث لا يقبل الرحمة والغفران.