مصر طريق للتجارة بين الشرق والغرب
أشرفت مصر على طريق التجارة بين الشرق والغرب حينًا مذكورًا من الدهر منذ أواخر العصور القديمة، وظلت تشرف على هذه الطريق خلال العصور الوسطى إلى أن انتصف تقريبًا القرن الخامس عشر الميلادي.
وكان جانب كبير من تجارة الشرق في العصور الوسطي؛ نفائسه وكنوزه وتوابله وعطوره ومنسوجاته الحريرية والصوفية ومعادنه تأتي من الشرقين الأوسط والأقصى إلى البحر الأحمر لتنتقل عبر الأراضي المصرية في خليج السويس ثم في طريق مائية أو برية إلى النيل، ومنها إلى ثغور مصر على البحر الأبيض المتوسط، ثم تنتقل في ذلك البحر وهو الطريق العالمية المهمة للمواصلات، حيث ترسو على ثغور إيطاليا، ومن أهمها البندقية وجنوه، ومن هاتين المدينتين اللتين أصبحتا دولتين قويتين غنيتين، توزع في بقية أجزاء أوروبا الغربية والوسطى.
وجنت مصر من هذه التجارة الغنية — وكانت تجارة كماليات في الغالب — أرباحًا طائلة، وكذلك كل الأمم المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، التي كانت تقوم بنقل أو توزيع هذه التجارة أو الإشراف عليها، فلقد أصبحت الضرائب المفروضة على هذه التجارة موردًا مهمًّا من موارد الإيراد المصرية.
كانت مصر إذن حلقة مهمة في سلسلة المواصلات بين الشرق والغرب، وكان المصريون في مختلف العصور هم الذين يشرفون بالفعل على انتقال هذه التجارة داخل حدود بلادهم، ولم يكن هناك عنصر أجنبي له حق التدخل أو الهيمنة على الطريق التي تمر فيها هذه التجارة، وكانت حكومة مصر في كثير من العصور تمتع بالسيطرة التامة على البحر الأحمر وعلى شرقي البحر الأبيض المتوسط، وكانت لها الحرية المطلقة في التصرف بما تمليه مصالحها الخاصة ومصالح المصريين.
وترتب على ذلك أن أصبح البحر الأبيض المتوسط أهم طريق للتجارة العالمية بين الشرق والغرب. وأصبح للأمم التي تتصل بها مياهه التفوق في المضمارين التجاري والمالي.
وظلت الحال على ذلك إلى أن كاد ينتهي القرن الخامس عشر الميلادي، فشاهد العالم تغيرًا هامًّا لا في وسائل النقل المختلفة، وإنما في الطرق التي تسير فيها تجارة العالم، شاهد تحولًا واضحًا عن البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلنطي.
وذلك بعد أن كشف البرتغاليون، وهم أُولى الدول البحرية ظهورًا في العصور الحديثة تلك الطريق البحرية الجديدة الطويلة حول رأس الرجاء الصالح، وكان الدافع الرئيسي لهذه الدولة هو الاستحواذ على تجارة الشرق الغنية، والوصول إلى مواطن الثروة فيه عن طريق لا يشرف عليه المسلمون ولا يسيطر عليه الأتراك العثمانيون، ولا تهيمن عليه مصر التي كانت حتى أواخر العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة مركز الإسلام وقلبه النابض وقوته المتفوقة وحصنه الحصين.
فتح إذن المحيط الأطلنطي لأول مرة في تاريخ البشرية للتجارة العالمية، بعد أن كان بحر الظلمات، بحرًا مغلقًا يكتنفه الغموض والأسرار والمخاطر، وتحول إليه نشاط الدول القومية الأوربية التي نشأت في غرب أوروبا، لقد استيقظت هذه الدول للوحدة والنمو والاستعمار والتوسع والاستحواذ على تجارة الشرق التي تجلب الثروة والغنى والقوة، استيقظت هذه الدول لاستغلال شعوب الشرق التي حل بها الضعف والوهن، وتمزقت وحدتها، وتدهورت حكوماتها.
وكان أهم هذه الدول الناشئة: البرتغال وإنجلترا وفرنسا والأراضي المنخفضة — هولندا.
سارعت هذه الدول يدفعها نشاطها وحبها للكسب والمغامرة إلى الهند والشرق الأقصى، بلد العجائب الذي تجمعت حوله الأسرار والأساطير، ونسجت حوله القصص الغريبة، تنشئ المحطات التجارية والمستعمرات والقواعد البحرية، وتكونت في الهند وفي الشرق الأقصى بصفة خاصة الإمبراطوريات الاستعمارية القوية الإنجليزية والفرنسية والهولندية.
وقام النزاع عنيفًا وحادًا لا يُبقِي ولا يَذَر بين الإنجليز والفرنسيين، وانتهى أخيرًا بتفوق الإنجليز في ذلك الميدان.
وفي هذا الوقت الذي كانت فيه هذه الدول — دول غرب أوروبا — تشرئب للحياة والتوسع والاستعمار، كانت دول البحر الأبيض المتوسط التي ازدهرت على تجارة الشرق، وخاصةً مصر، تزداد ضعفًا على ضعف وتضمحل بالتدريج، وانتهى الأمر باحتلال الأتراك الحربي لمصر في أوائل القرن السادس عشر الميلادي.
ولكن احتلال الأتراك لمصر لم يعمل على تحسن الأحوال في وادي النيل، بل ازدادت الحال خلال عهد الأتراك الطويل سُوءًا على سُوء من كل النواحي؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم أخذ الأتراك أنفسهم منذ النصف الثاني للقرن السابع عشر في الضعف والانحلال، وانتهى بهم الأمر إلى أن أصبحوا هم ودولتهم التي امتدت في شرقي البحر الأبيض المتوسط مطمعًا للدول الأوربية الغربية.
ولم يأت القرن الثامن عشر إلا وقد أخذت الدول الكبرى الأوربية تفكر جديًّا في كيفية تقسيم ممتلكات الأتراك وفي إحياء الطريق القديمة للتجارة؛ طريق مصر؛ فإن نظرة واحدة إلى خريطة العالم تكفي لأن ترى أن مصر تقع في منطقة هي ملتقى القارات الثلاث؛ أوروبا وآسيا وأفريقيا، وأنها بموقعها الجغرافي هي أقرب وأيسر طريق بين الشرق والغرب، وأنه ليس من المستحيل وصل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، إما بطريق برية أو بطريق مائية، فلقد وجدت الطريقان في القديم وفي العصور الوسطى.
ومن أهم الدول التي اهتمت بفتح هذه الطريق فرنسا، فحكومتها تحاول منذ القرن السابع عشر أن تقنع العثمانيين بقيمة فتح هذه الطريق للتجارة الشرقية، وبذلت في ذلك جملة محاولات، ولكن جهود فرنسا في هذه الناحية أثارت حسد إنجلترا، وخاصةً في وقت كان التنازع الاستعماري بين الدولتين على أشده، ووجد بعض مواطني إنجلترا في الشرق الأدني أنه ربما كان من الخير لوطنهم أن يشارك في فتح هذه الطريق التي ربما تحولت إليها تجارة الهند والشرق، فإعادة فتح هذه الطريق قد تعود على إنجلترا بالخير العميم، وربما عملت على نمو التجارة البريطانية.
وما إن تبوَّأ علي بك الكبير الحكم في مصر، وسيطر على بلاد العرب، وأعاد لمصر بعض مركزها القديم؛ حتى زاد اهتمام الفرنسيين والإنجليز ببذل جهودهما في ذلك السبيل، فالإنجليز من ناحيتهم يودون لو فتح طريق البحر الأحمر إلى السويس لسفنهم الآتية من الهند والمحيط الهندي، والفرنسيون يودون لو استطاعوا الاستيلاء على تجارة الشرق عن طريق تحويلها إلى طريق مصر.
ولكن الإنجليز والفرنسيين لم يظفروا في آخر الأمر بنجاح؛ فقد وجدوا عقبات كأْداء في طريقهم لا بد من تذليلها، فالدولة العثمانية وإن تظاهرت بالإصغاء إلى آرائهم؛ إلا أنها كانت أحرص من أن تأذن بفتح هذه الطريق التي تجعل ممتلكات الدولة العثمانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط ميدانًا جديدًا للتنافس والتوسع الأوربي.
ولقد بررت الدولة العثمانية مسلكها هذا لدى الدولتين الكبيرتين بأن الملاحة الأوربية محرمة في البحر الأحمر، فضروري للدولة العثمانية احترام مركزها بين المسلمين، ولا يكون ذلك إلا بالمحافظة على حرمة الأماكن المقدسة الإسلامية من أن ترسوا على شواطئها سفن مسيحية أوربية.
والدولة العثمانية، وإن كانت ضعيفة من الوجهة الحربية، ولكن ساستها برعوا حقيقةً في فن السياسة، فكان لهم من بُعْد النظر السياسي والمهارة في الانتفاع بما بين الدول من أحقاد ومنافسة ما مكنهم من المحافظة على الدولة وسط التيارات الدولية العنيفة، وكان هؤلاء الساسة يخشون أن يعمل إحياء طريق مصر على زيادة موارد بكوات المماليك الذي استقلوا بأمور مصر، واحتقروا من الناحية العملية سلطة السلطان، وعملوا على الانفصال عن الدولة العثمانية.
ولقد حاول الإنجليز والفرنسيون أن يلِجُوا بابًا آخر للوصول إلى أغراضهم المادية، فحاولوا عقد معاهدات مع بكوات المماليك أنفسهم أصحاب السلطة الفعلية والنفوذ في مصر، ولكن هذه المعاهدات لم تسفر عن نتيجة، فأمور مصر السياسية لم تكن مستقرة، وأحوال الأمن الداخلي مضطربة، وعهود بكوات المماليك لا يوثق بها ولا تربط أحدًا، على أن ما يهمنا في هذا المكان هو أن إنجلترا وفرنسا اهتمتا بأمور مصر ومستقبلها نتيجةً لاهتمامها بفتح الطريق القديمة، ففرنسا ترى أن فتح هذه الطريق سيجلب لها متاجر الشرق، وسيلحق بتجارة أعدائها الإنجليز الضرر البليغ. والإنجليز من ناحيتهم يرون في فتح هذه الطريق غُنْمًا كبيرًا لتجارتهم واقتصادًا كبيرًا في الوقت والنفقات.
وأتى الفرنسيون إلى مصر في السنتين الأخيرتين للقرن الثامن عشر فاتحين، وقد جعلوا من أهدافهم الأولى استعمار مصر واتخاذها مركزًا للتوسع في الشرق الأدنى، وفتح الطريق المائية التي تصل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر.
وما إن استقرت أقدامهم في أرض مصر حتى أخذوا في دراسة مشروع توصيل البحرين دراسة جدية. ولكنه لم يهيأ لهم النجاح، فبقاؤهم في مصر كان قصير المدى، شُغلوا في أثنائه بالدفاع عن مركزهم في هذه البلاد أمام الأهالي المصريين وأمام الأتراك وأمام الإنجليز، فضلًا عن أنهم في دراستهم للمشروع قد ظنوا أن مستوى أحد البحرين أعلى من مستوى الآخر.
وخرج الفرنسيون من هذه البلاد، بعد أن وجهوا — وهم لا يريدون — نظر السياسة الإنجليزية إلى أهمية هذه البلاد من الناحية الاستراتيجية والحربية، ومن ناحية المواصلات العالمية.
وأصبحت لإنجلترا سياسة خاصة نحو مصر وضعت أسسها في مطلع القرن التاسع عشر، اتبعتها مدة طويلة، فإنجلترا لن تسمح لدولة أوربية بالاستيلاء على مصر، ولن تسمح بقيام حكومة قوية في مصر تهدد مصالح إنجلترا.
على أن مشروع وصل البحرين لم ينته بخروج الفرنسيين، فلقد ظل حيًّا في أذهان بعض الفرنسيين، ولم يكن الإنجليز في أول الأمر معارضين له، بل كانوا مرحبين به، وحاول الفرنسيون والإنجليز دراسة المشروع دراسة قائمة على أسس علمية صحيحة، وحاول الفرنسيون جاهدين تحقيقه في عهد محمد علي الكبير، ولكن عاهل مصر العظيم كان له من بُعد النظر السياسي وفهم الموقف الدولي ما جعله يغض النظر عن تنفيذه، وإن كان قد وجه عناية كبرى إلى فتح الطريق البرية التي تمر خلال مصر من الإسكندرية إلى القاهرة ومن القاهرة إلى السويس، هذه الطريق اقتنعت الحكومة الإنجليزية بأفضليتها على القناة من الناحية السياسية، إذ إنها اعتقدت أن تنفيذ مشروع القناة سيؤدي إلى فتح بوسفور جديد وربما يضطرها إلى احتلال مصر.
ولقد عمل حكم محمد على المستنير على استتباب الأمن والطمأنينة في كل ربوع البلاد، وأعدت الطريق البرية إعدادًا تامًّا لتكون صلة مهمة بين الشرق والغرب، وما خشيه محمد علي الكبير من المشروع الفرنسي هو ما كان يخشاه على مستقبل هذه البلاد من إنشاء بوسفور جديد، كان يخشى عواقب إنشاء قناة بحرية تصل ما بين البحرين وتُغيِّر من مركز مصر الجغرافي وتجعل منها ميدانًا للتنافس الأوربي، كان محمد علي يرى أن إنشاء القناة سيجعل من مسألة مصر مشكلة دولية يهم الدول البحرية جميعًا التدخل في تحديد مصيرها.
ثم يأتي عباس باشا الأول ليتولى حكم مصر، ويرتسم لنفسه خطة محمد علي الكبير فيما يختص بموضوع القناة، فلما اشتبكت إنجلترا وفرنسا في نضال شديد، وأيدت إنجلترا إحياء الطريق البرية تأييدًا كاملًا بوضع مشروع للسكة الحديدية بين الإسكندرية والقاهرة والسويس، عارضت فرنسا ذلك المشروع معارضة شديدة، واستغلت في سبيل ذلك ما لها من نفوذ في مصر وتركيا، ولكن المشروع الإنجليزي كتب له النجاح ودخل في دور التنفيذ، وفي أثناء إنشاء السكة الحديدية بين مصر والإسكندرية مات عباس باشا الأول، واعتلى سعيد باشا منصة الحكم في مصر.
وشاء الله أن ينجح المشروع الفرنسي — مشروع إنشاء القناة — كما نجح المشروع الإنجليزي من قبلُ، وكان لشخصية فردنند دي لسبس صاحب المشروع، وصبره ومثابرته وجرأته، ثم لصلته الوثيقة بوالي مصر الجديد أثر كبير في إخراج المشروع الفرنسي إلى حيز الحياة والتحقيق.
ومنح سعيد باشا دي لسبس امتياز قناة السويس بشروط مُجْحِفة بحقوق مصر وصالِح المصريين، فلقد نص في الامتياز الممنوح للشركة العالمية لقناة السويس على تسخير عدد كبير من الفلاحين المصريين لخدمة الشركة وتنفيذ أغراضها، كما أعطاها فرمان الامتياز من امتيازات الملكية ومن حيازة مساحات شاسعة من الأراضي في منطقة القناة ما لم يسمع له نظير، وليس هنا المجال لشرح نصوص ذلك الامتياز أو التعليق عليه، ولكن يكفي أن نقول: إن وجهة نظر سعيد باشا كانت عالمية، فهو يرمي إلى خدمة العالم والحضارة قبل كل شيء؛ ولذا فهو يقدم كل التسهيلات ويبذل كل شيء في سبيل تدعيم مركز شركة القناة وفي سبيل تحقيق المشروع.