ديزريلي وقناة السويس
ولما تم وصل البحرين الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، أصبحت قناة السويس التي توصل بينهما من أهم المجاري المائية البحرية في العالم، ولو أنها فصلت بين قارتين، آسيا وأفريقية، إلا أنها ربطت بين الشرق والغرب، وأحكمت الصلة بينهما، وأصبحت أقصر وأقرب طريق بين الدول الأوربية الإمبراطورية ومستعمراتها الشرقية.
وقدرت إنجلترا حق القدر قيمة مشروع القناة بالنسبة لها ولإمبراطوريتها وتجارتها وحياتها كأكبر دولة بحرية استعمارية ظهرت في العالم، فلقد قُيِّضَ لها رجلٌ من أنبغ أبناء فرنسا، جاهد طوال حياته ليخدم بطريقة غير مباشرة مصالحها المادية.
وتمتاز هذه الطريق الجديدة بأن بريطانيا تستطيع ببحريتها المتفوقة حماية تجارتها وسفنها، ومن الوقت الذي افتتحت فيه هذه الطريق أصبحت إلى حد كبير تحت رحمة القوة البحرية، تحت رحمة قوة بريطانيا البحرية، وخاصةً بعد الكارثة السياسية والحربية الكبرى التي حلت بفرنسا في الحرب الفرنسية الألمانية سنة ١٨٧٠.
وستصبح إنجلترا أولى الدول في المرور في القناة الجديدة، ولم تعد أهمية القناة في نظرها قاصرة على وقت السلم، بل كذلك في وقت الحرب، إذ أصبحت القناة الطريق الرئيسية لمرور السفن والقوات والمعدات الحربية البريطانية إلى شرقيِّ أفريقية والشرقَيْنِ الأوسط والأقصى وأستراليا ونيوزيلند. أصبحت القناة الطريق الرئيسية لمَدِّ نفوذ بريطانيا وسلطانها في شرقيِّ العالم وفي آسيا، وخاصةً في وقت بدأ يطغى فيه الإمبريالزم والاستعمار على عقول الناس في إنجلترا وفي غرب أوروبا.
ولذا ستهتم كل الحكومات البريطانية مهما تعددت ألوانها الحزبية أو اختلفت برامجها السياسية لا بحياد القناة؛ وإنما بحُرِّيَّة المرور فيها لكل السفن التجارية والحربية في وقت السلم والحرب.
وتبعًا لاهتمام إنجلترا بحرية المرور في القناة وسلامة القناة في كل الأوقات، ستزداد في نظرها أهمية مصر التي تخترق القناة أجزاءها الشرقية، لقد ربطت السياسة الإنجليزية مصير مصر ومستقبلها بمصير القناة، وأصبحت مشكلة القناة إلى حد كبير مشكلة مصر.
ونشأت الفكرة التي تقول: إن من الواجب على الحكومة الإنجليزية بعد أن تبيَّنت أهمية القناة الحيوية لها، شراء الشركة جميعها والإشراف إشرافًا تامًّا على إدارة القناة، وربما ظن بعض الناس أن الخديو إسماعيل كان يفضل أن تستولي شركة إنجليزية على إدارة القناة، ولقد ثارت فعلًا في سنة ١٨٧٤ الإشاعة التي تقول: إن الخديو والباب العالي كانا يفكران جِدِّيًّا في بيع القناة لبريطانيا؛ لأن بريطانيا أكثر الدول اهتمامًا بالقناة بعد فتحها، ويقال: إن هذا كان من رأي الجنرال ستانتون قنصل إنجلترا العام في مصر أيضًا، فهو الذي خاطب حكومته في هذا الشأن، وأيده بعض أعضاء الوزارة الإنجليزية، ولكن جلادستون رئيس الوزارة ومعه لورد جرانفل وجَّها لهذه الفكرة أذنًا صماء، إذ رفضا أن تقوم إنجلترا بتعويض حمَلَة أسهم القناة عما لحق بهم من خسارة مادية، ويقال أيضًا: إن فردنند دي لسبس ذهب إلى لندن لهذا الغرض، ولكن وزير الخارجية جرانفل رفض المناقشة مع أي فرد أو هيئة في شروط بيع القناة، ولو تحققت هذه الفكرة لتناقضت مع المبدأ الأساسي الذي قامت عليه الشركة العالمية لقناة السويس، فإن وَضْع هذه القناة تحت إشراف دولة واحدة يتناقض تمامًا مع الفكرة العالمية التي قام عليها الامتياز الذي مُنح للشركة.
وربما كان فردنند دي لسبس نفسه يفكر، أمام الصعوبات المادية والخسارة التي لاقتها شركة القناة في سِنِيها الأولى، في أن تُباع الشركة للدول البحرية الأوربية، وذلك حتى يضمن تمامًا دوليتها وحيادها. ولكن الحكومة البريطانية لم توافق على هذه الفكرة، وكذلك الحكومة العثمانية ما كانت لتنصت أبدًا لمثل هذه المشاريع التي تتعارض بطبيعة الحال مع حقوق سيادتها، فشركة القناة شركة مصرية خاضعة للقوانين والتقاليد العثمانية.
وربما كانت إنجلترا تظن في بعض الأوقات أن مصلحتها تقضي بأن تدير القناة شركة دولية لا فرنسية، ولقد أعلن لورد داربي وزير الخارجية البريطانية في سنة ١٨٧٤ أنه لا يمانع في ذلك، وكرر هذا الرأي في سنة ١٨٧٥، على أساس أن وجود هذه الطريق العالمية العظيمة في يد شركة خاصة قد يثير كثيرًا من الصعوبات والتعقيدات، ولكن مثل هذه الأفكار لم تخرج إلى حيز التنفيذ، وظلت شركة القناة كما هي.
وبينما كان ديزريلي زعيم المحافظين في إنجلترا، ورئيس الحكومة الإنجليزية، موجهًا نظره إلى تطور المسألة الشرقية في سنة ١٨٧٥ إذ وصل إلى علمه وجود مفاوضات في باريس بين الحكومة المصرية وشركة فرنسية لرهن أسهم الخديو إسماعيل في قناة السويس، ولقد اتصل فردريك جرينورد أحد البارزين من رجال الصحافة الإنجليزية والمحرر في مجلة اﻟ «پال مال» بلورد داربي وزير الخارجية البريطانية، وأكد نبأ هذه المفاوضات، وبيَّن أن مصلحة إنجلترا تقتضي أن تسرع الحكومة البريطانية فتشتري هذه الأسهم، والسبب في تقديم الخديو إسماعيل هذه الأسهم للرهن أو البيع هو ما أصاب ميزانية مصر من عجز عن سداد أقساط الديون المتراكمة أو فوائدها الفادحة، وكان عليه أن يجد في شهر نوفمبر في خلال إسبوعين مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات.
وكان أمام الخديو إسماعيل إما رهن هذه الأسهم أو تقديمها للبيع، ووضعت الشركة الفرنسية التي كانت تُجرى معها هذه المفاوضات شروطًا قاسية لإقراض الخديو المبلغ المطلوب، جعلته يتردد كثيرًا في التصديق النهائي على شروطها.
وحين عُرضت الفكرة على الحكومة الإنجليزية لم يرحب بها داربي كثيرًا، ولم يكن ذلك عن قناعة أو تفكير صحيح، ولكن أفق خياله كان ضيقًا، وتنقصه الجرأة في كثير من الأمور.
إن خديو مصر على وشك الإفلاس المالي، وإنه يرغب في بيع أسهمه في قناة السويس، واتصل لذلك الغرض بالجنرال ستانتون … إنها مسألة ملايين أربعة على الأقل، ولكنها تعطي لمالكها نفوذًا عظيمًا إن لم يكن متفوقًا في إدارة القناة، وإنه حيوي لسلطة جلالتك ومركزك في هذا الوقت العصيب أن تصبح القناة ملكًا لإنجلترا … ولقد حاولت أن أقنع داربي، ونجحت في إقناعه بأهمية تحول مصالح الخديو إلينا.
ولقد حاول ديزريلي بالفعل أن يقنع زملاءه في الوزارة بأهمية الصفقة لإنجلترا، ونال في آخر الأمر موافقتهم جميعًا على مبدأ شراء الحكومة الإنجليزية لأسهم الخديو إسماعيل في قناة السويس، بعد أن تمسك عدد منهم بمعارضة الفكرة إلى آخر لحظة، ولقد استصوبوا جميعًا في آخر الأمر رأي رئيسهم؛ لأن الحوادث — كما اعترفوا هم بذلك — قد أيدت وجهته، وأثبتت بُعد نظره.
رأى ديزريلي أنه يجب على الحكومة الإنجليزية ألا تتأخر يومًا واحدًا، حيث إن حالة مصر المالية سائرة في طريق الانهيار السريع، والخديو إسماعيل في أشد الحاجة إلى المال، والمنافسون للحكومة الإنجليزية متيقظون، ولقد ظل الخديو إسماعيل فترة كارهًا لأن يضع نفسه بين يدي الحكومة الإنجليزية وتحت تصرفها، إذ كان يفهم تمامًا معنى شراء إنجلترا لهذه الأسهم من الناحية السياسية. ولكن كان من الصعب إن لم يكن من المستحيل إيجاد المبلغ اللازم له في فرنسا أمام المعارضة الشديدة التي قامت بها الحكومة الإنجليزية.
ولقد خشي الدوق ديكاز وزير الخارجية الفرنسية في ذلك الوقت، وكان شديد الحرص على صداقة إنجلترا، فهي التي وقفت إلى جانب فرنسا في أزمة ربيع سنة ١٨٧٥ الشديدة، وأنقذتها من أظفار ألمانيا، خشي ديكاز أن يتدخل لتأييد الشركة الفرنسية إذ كان يعرف ما سيكون لذلك التدخل من أثر على موقف الحكومة الإنجليزية بالنسبة لفرنسا، إذن لتزعزع مركز فرنسا في أوروبا، ولتخاذلت قوتها وتضعضعت أمام الخطر الألماني الذي كان يتهدد دائمًا حكومة المحافظين في فرنسا؛ ولذا فلا عجب إذا وجد ألا يقدم للشركة الفرنسية أية معونة، وعلى ذلك انتهى الأمر بفشل مسألة الرهن ومعها مشروع الشركة الفرنسية.
كانت هذه الشركة قد طلبت في الواقع ربحًا فاحشًا على رأس المال، ١٨٪ فائدة للمبلغ الذي تقدمه للخديو إسماعيل، فإذا عجز حاكم مصر عن أن يدفع لها ذلك المال في وقت معلوم يضيع حقه في ١٥٪ من الأرباح السنوية لشركة قناة السويس، وتصبح الأسهم ملكًا للشركة، واتفق بين الفريقين على جعل يوم ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٧٥ الموعد النهائي للموافقة على هذه الشروط.
وكان فردنند دي لسبس مدير شركة قناة السويس يؤيد هذه الشركة التي ستقرض الخديو إسماعيل، وكان يحاول إقناع الرأسماليين الفرنسيين بجمع المال اللازم لها، ولقد طلب بالفعل من الحكومة الفرنسية — وكانت حكومة المحافظين — التدخل لصالح الشركة وتأييدها سياسيًّا، وإزالة العقبات المالية الموجودة أمامها.
ولكن الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت كانت ضعيفة مترددة، تهتم أولًا وقبل كل شيء بمركزها في أوروبا ومراقبة الخطر الألماني وكسب الأصدقاء، هذا من الناحية الخارجية، وأما من الناحية الداخلية، فكان مركزها مزعزعًا لانقسام الملكيين على أنفسهم، يهددها الحزب الجمهوري باستمرار؛ ولذا كانت في حاجة شديدة إلى تأييد إنجلترا السياسي لها وإلى عدم إثارة مشاكل خارجية قد تودي بحكم المحافظين في فرنسا وبمركز فرنسا في أوروبا.
وكانت الحكومة الإنجليزية قد بينت موقفها بالضبط في ذلك الموضوع، فلقد أعلن داربي وزير الخارجية الإنجليزية لجافارد ممثل فرنسا في لندن، بأن الحكومة البريطانية كانت ترى في ملْكية الخديو لجانب كبير من أسهم شركة قناة السويس وسيلة للاطمئنان بأن القناة ليست ملكًا للفرنسيين وحدهم؛ ولذا فليس أمام إنجلترا إلا أن تعارض معارضة شديدة في وقوع هذه الأسهم في يد شركة فرنسية؛ فالخديو إذا تم الرهن لن تسمح حالته المالية بسداد المبلغ ولا فوائده، فسينتهي الأمر إذن بوقوع هذه الأسهم في يد الشركة الفرنسية نهائيًّا.
وإن إنجلترا، كما أضاف داربي، تعتبر موقفها هذا ضروريًّا تمليه أبسط وسائل الدفاع عن مصالحها، فقناة السويس — كما يرى وزير الخارجية البريطانية في ذلك الوقت — هي سبيل المواصلات البريطانية إلى الهند، ولبريطانيا أربعة أخماس التجارة التي تمر بها، وأنه يرى لذلك أن مصلحة بريطانيا في حماية قناة السويس وإدارتها أكبر بكثير من مصلحة أية دولة أخرى.
وأرسلت حكومة لندن تعليمات بذلك إلى ستانتون معتمدها في مصر، فعليه أن يبين للخديو إسماعيل في جلاء وقوة بأن الحكومة البريطانية لن تسمح برهن هذه الأسهم لدى شركة فرنسية، ولا بد من وقف المفاوضات بين عاهل مصر والشركة الفرنسية مدة؛ حتى تعطى الحكومة البريطانية فرصة لإبداء رأيها في الموضوع.
وعرض ديزريلي لشراء نصيب الخديو في أسهم القناة أربعة ملايين من الجنيهات، وقدم الأمر إلى مجلس الوزراء البريطاني الذي نظر في الموضوع، ووافق على الثمن في ٢٤ نوفمبر، وفي ٢٥ نوفمبر أمضى العقد في القاهرة، وأُودعت الأسهم دار قنصلية بريطانيا، لقد تم للإنجليز الاستيلاء على أسهم الخديو إسماعيل في خلال عشرة أيام.
ولما تمت موافقة الحكومة البريطانية على شراء الأسهم، كان لا بد من النظر بسرعة في كيفية تدبير المبلغ اللازم للشراء، فالبرلمان الإنجليزي لم يكن منعقدًا، ولا يمكن تدبير المبلغ بغير موافقته، ولا يمكن عقده بسرعة للنظر في هذه المسألة، ولكن الموضوع لم يكن يقبل الانتظار، وإلا ضاعت الصفقة من إنجلترا؛ ولذا تحول ذهن ديزريلي إلى أصدقائه من آل روثتشيلد الماليين المعروفين في إنجلترا، وكان ديزريلي متأكدًا من تعاون هذا المصرف معه في سياسته المصرية، ولكنه لم تكن هناك سابقة لمثل هذا العمل الخطير، فماذا يحدث لو رفض البرلمان الإنجليزي حين يجتمع اعتماد ذلك المبلغ، ولكن ديزريلي أخذ المسئولية على نفسه، ومن ناحية ثابتة كان لبيت رثتشيلد ثقة لا تنتهي بديزريلي والحكومة البريطانية التي ضمنت هذا القرض.
وافق إذن بيت رثتشيلد على إقراض الحكومة الإنجليزية مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات بفائدة مخفضة، وتم لديزريلي نهائيًّا إجراء صفقته، وبذلك أصبحت الحكومة البريطانية تملك خمسي الأسهم وأكبر مساهم في قناة السويس.
ولقد أحس زعيم المحافظين بإنجلترا بعظم الصفقة التي قام بها، فلقد كانت نجاحًا لا نظير له، وكتب في ٢٤ نوفمبر للملكة فكتوريا يقول بأنها قد نالت الصفقة، وأن الفرنسيين قد غلبوا على أمرهم بعد أن بذلوا جهودهم … ولقد سلك بيت روثتشيلد مسلكًا بديعًا، فقدم المال اللازم بفائدة قليلة … ولقد قدم دي لسبس في آخر لحظة عرضًا مغريًّا للخديو، ولو نجح لأصبحت القناة ملكًا لفرنسا ولأغلقتها أمام إنجلترا.
وفرحت الملكة فكتوريا فرحًا عظيمًا بإنجاز هذا العمل، وجاءتها التهاني من دول أوروبا باستثناء روسيا التي أرادت أن تجامل فرنسا، واعتبر ليوبولد ملك البلجيك هذا العمل كأعظم حادث في السياسة الحديثة، ولقد قابل الرأي العام الإنجليزي هذه الصفقة بحماس كبير، وطرب المعارضون للحكومة من الأحرار لهذه الصفقة، إذ سرهم أن تنال بريطانيا هذا النصيب المهم من أسهم شركة قناة السويس، ولم يهتم الرأي العام البريطاني كثيرًا بانتقاد جلادستون زعيم المعارضين للحكومة لهذه الصفقة، فرأيه في هذه المسألة كان شخصيًّا لا يمثل حزب الأحرار، ودافعه الأول كان الغيرة من ديزريلي والحسد له؛ ولذا فانتقاده لم ينظر إليه.
لقد خطب نورثكوت في البرلمان الإنجليزي قائلًا — ما ملخصه: إن شراء هذه الأسهم كما نعتقد في مصلحة إنجلترا ومصلحة مصر، ومصلحة الشركة التي أصبحنا شركاءها، وإنا لنشعر بالود نحو هذه الشركة العظيمة ونحو مؤسسها ومتبنيها، ولدينا الرغبة في المساهمة في هذا المشروع الخطير، وإني أعتقد أن إنجلترا ارتكبت خطأً كبيرًا في عدم الاعتقاد بقيمة المشروع في أول الأمر، وأؤمل أننا لسنا متأخرين كثيرًا في المساهمة في هذا المشروع الآن بعد أن نضج وأثمر … وسيقدر لهذا المشروع أن يكون ملك البشرية جميعًا على مدى الدهر، وإنه من دواعي الاغتباط الكبير أن نرى أن إنجلترا قامت بمهمتها في تأمين مستقبل ذلك المشروع العظيم.
وأبدى لورد هارتنجتن — وهو من زعماء الأحرار — رأيه بأن على إنجلترا أن تغتبط اليوم إذ «انتقلت إليها حقوق سيادة الخديو على القناة»! هكذا فهم بعض الساسة الإنجليز صفقة شراء أسهم الخديو في القناة، وكانت نتيجة لهذه الصفقة أن اضطرت شركة القناة إلى قبول ثلاثة أعضاء إنجليز في مجلس إدارتها.
وكان لهذه الصفقة دَوِيٌّ كبير في كل أرجاء أوروبا، وكانت دليلًا ساطعًا على أن إنجلترا غادرت نهائيًّا السياسة السلبية التي استنها مستر جلادستون في وزارته الأولى، وأنها أصبحت الآن تتبع سياسة خارجية نشيطة، وبدأ ديزريلي سياسة الإمبريالزم «التسلط الاستعماري» التي ستبلغ أوجها في نهاية ذلك القرن «التاسع عشر» باحتلال مصر والتصميم على البقاء فيها وتقسيم أفريقيا والإشراف على مناطق كبيرة في آسيا.
وجدت الملكة فكتوريا في هذه الصفقة ضربة موجهة ضد بسمرك المستشار الألماني الذي سبق أن أعلن أن إنجلترا لم تعد قوة سياسية كبيرة يخشى خطرها، والواقع أن المستشار الألماني بسمرك سُرَّ كثيرًا لهذه الصفقة؛ ففيها — من ناحية — إذلال جديد لعدوته فرنسا وهزيمة لسياستها، وفيها — من ناحية ثانية — تمهيد لتدخل الإنجليز في مصر، ومن ذلك الحين أخذ ينصح الحكومة الإنجليزية بضرورة أخذ مصر، فهو يعتقد أنه إذا فعل الإنجليز ذلك، فلن يغفر لهم الفرنسيون أبدًا.
ولقد نظرت الحكومة الفرنسية إلى هذه الحركة من جانب الحكومة الإنجليزية كخطوة أولى تمهيدية لاحتلال الإنجليز لمصر، أو على الأقل للتدخل في أمورها المالية، ورأت أن هذا العمل ليس إلا استغلالًا لسوء حالة مصر المالية، فالمبلغ الذي دفعته إنجلترا كان أقل من ثمن السوق وليس فيه إنصاف لمصر.
قوت هذه الصفقة من مركز ديزريلي في الحكومة الإنجليزية ومن مركز المحافظين في إنجلترا، ومن مركز إنجلترا في أوروبا والعالم، كما زادت من نفوذ إنجلترا في مصر، حرمت هذه الصفقة مصر من كل فائدة من قناة السويس، فأصبح المصريون يرون أن هذه القناة التي تسير في أرض مصر، وقسمت بين أجزاء مصر، وقامت على تسخير العمال والفلاحين المصريين وإهدار حقوقهم ودمائهم، وحرمان الزراعة منهم مدة طويلة، لم تجن مصر منها فائدة تذكر، بل أصبحت كارثة على حياتها ومستقبلها طيلة خمسة وسبعين عامًا، لقد جعلت القناة لمصر مركزًا استراتيجيًّا خاصًا في الشرق الأدنى زاد اهتمام الأمم الإمبريالية الاستعمارية به إلى حد أن ضحت هذه الدول بمصالح مصر ونموها واستقلالها ومستقبلها في سبيل الإشراف عليه والتحكم فيه.
على أنه يظهر أن ديزريلي لم يفهم تمامًا إلى سنة ١٨٨٠ عظم أهمية القناة في المواصلات الإمبراطورية إلى الشرق، فكان يرى أن الأستانة هي التي تشرف على الطريق إلى الهند لا مصر ولا قناة السويس.
ولذا كان يفضل دائمًا الاستيلاء على آسيا الصغرى ذاتها، ويرى أن احتلال إنجلترا لمصر وقناة السويس في الوقت الحاضر لن يفيدها كثيرًا، بل سيفسد إلى حد كبير علاقاتها مع فرنسا.
ولذا لم تعد الحكومة الإنجليزية في عهده توجه انتباهًا كبيرًا لعروض بسمرك، كان المستشار الألماني في ذلك الوقت يرى أن تستولي إنجلترا على مصر وتشرف على قناة السويس كنصيبها من ممتلكات الدولة العثمانية التي أخذت في الضعف والتدهور، ففي مصر والقناة — كما يرى — تعويض كبير لإنجلترا إذا سيطرت الدولة الروسية، وهي صديقته الشرقية، على شرقي البلقان وعلى مداخل البحر الأسود، ولقد حرص بسمرك حرصًا شديدًا على توجيه نظر الحكومة البريطانية لانتهاز فرصة المسألة الشرقية واقتناص مصر.
ففي مذكرات مطولة له بيَّن أنه إذا استشير فيما يجب أن تكون عليه سياسة إنجلترا الخارجية، فإنه يقترح أن تنتهج بريطانيا العظمى نفس السنن الذي تنتهجه روسيا، فإذا كانت روسيا تريد أن تستحوذ على النقط الاستراتيجية اللازمة لها بالسيطرة على المضايق؛ البوسفور والدردنيل، والإشراف على الأستانة، فعلى الحكومة الإنجليزية أن تقابل ذلك بالسيطرة على مصر وقناة السويس، وكما يقول: «إنه من الخير لبريطانيا أن تأخذ قناة السويس والإسكندرية بدلًا من أن تعلن الحرب على روسيا، وبذلك وحده تتوثق عرى السلم في أوروبا.»
وهو يرى أنه إذا خشيت الحكومة البريطانية من اتباع مثل هذه السياسة، عداء فرنسا ومناوأتها، فما عليها إلا أن تبحث مع الفرنسيين أمر تقسيم الشرق الأدنى إلى مناطق نفوذ، فتوافق فرنسا على تفوق النفوذ الإنجليزي في مصر وقناة السويس، نظير موافقة الإنجليز على تفوق النفوذ الفرنسي في سوريا.
ولكن الحكومة الإنجليزية — حكومة المحافظين — ما كانت تقبل بسهولة مثل هذه الاقتراحات، فرئيسها ديزريلي «لورد بيكونزفيلد» بالرغم من أنه هو الذي عقد صفقة قناة السويس، فاشترى أسهم الخديو إسماعيل فيها، وبالرغم من تعلقه الكبير بمصر وحضارتها وآثارها، إلا أنه كان في ذلك الوقت لا يرى في احتلال الإنجليز لمصر وسيلة لدرء الخطر الروسي عن الشرق الأدنى؛ فالأستانة لا مصر ولا قناة السويس هي مفتاح الطريق إلى الهند.
ولقد أبدى بيكونزفيلد عجبه والشك الذي خالج نفسه من كثرة عروض بسمرك، فإنجلترا كانت تظن أن غرضه هو إتلاف العلاقات الإنجليزية الفرنسية الطيبة، وضرب عصفورين بحجر واحد، إرضاء إنجلترا وإذلال فرنسا.
كذلك لم يصغ الوزراء الإنجليز لنوبار باشا حين ذهب إلى لندن في سنة ١٨٧٧ ليعرض عليهم قبول فكرة بسط الحماية البريطانية على مصر، وأهملوه إهمالًا شديدًا إلى حد أن نعى عليهم جهلهم بأمور السياسة، وصرح لسفير ألمانيا في لندن بأن الأسد البريطاني مستغرق في نومه، وأن أظفاره ستسرق منه دون أن يستيقظ.
على أنه حين تعقدت المسألة الشرقية في سنة ١٨٧٧، وقامت الحرب بين روسيا وتركيا، وضَّحت الحكومة البريطانية موقفها للدولة الروسية فيما يختص بمصر وقناة السويس، فهي لن تقبل أبدًا امتداد الحرب إلى مصر والقناة، وتعتبر الاعتداء عليها عملًا عدوانيًّا موجهًا إلى إنجلترا ذاتها، صرح بذلك وزير الخارجية الإنجليزية للسفير الروسي في لندن.
كانت إنجلترا تخشى أن تمتد أعمال الروس العسكرية إلى قناة السويس ومصر بصفتهما جزءًا من الدولة العثمانية التي أصبحت في حالة حرب مع روسيا، ولكن رد روسيا جاء مطمئنًا: «فبالنسبة لقناة السويس ومصر، فنحن لن نمسهما، فليست لدينا المصلحة ولا الرغبة ولا الوسائل للقيام بمثل ذلك العمل … ونحن على استعداد للاتفاق مع حكومة لندن على كل المسائل … وليست لنا مصلحة في معاكسة إنجلترا في ممتلكاتها في الهند أو في مواصلاتها، فالحرب الحالية لا تتطلب ذلك.» لم تكن روسيا تريد إفساد علاقاتها مع إنجلترا في الوقت الذي تصطلي فيه الجيوش الروسية بنار الحرب مع تركيا.
ولم تكن سياسة لورد سولبري الذي خلف داربي في وزارة الخارجية البريطانية، حين زاد تعقد المسألة الشرقية، التمسك بأهداب السياسة البريطانية القديمة، وهي تأييد الدولة العثمانية والمحافظة عليها، وإنما كما يقول: «إن سياستنا الخارجية تنقصها الخطة الموضوعة.» ولذا فالسياسة العملية في نظره هي الإشراف الفعلي على طرق المواصلات المائية إلى الهند، باحتلال مصر وقناة السويس وكريت، والعمل على القضاء على الدولة العثمانية.
ولذا في خلال هذه السنة ١٨٧٧ نشطت في إنجلترا الفكرة التي تقول بضرورة احتلال إنجلترا لمصر والقناة، ففي ١١ يوليو من هذه السنة تكتب إحدى بنات ملكة إنجلترا لأمها بأن كل من يحب إنجلترا يتوق إلى هذه الفرصة التي تسمح بوضع الإنجليز لأقدامهم في مصر. وفي نفس الوقت يكتب رئيس الحكومة ديزريلي إلى الملكة فكتوريا يقول بأن الباب العالي ميال لبيع سيادته على مصر، ولكن ديزريلي ظل متمسكًا بفكرته القديمة بأنه يفضل الاستيلاء على آسيا الصغرى لا مصر.
على أن ذلك لم يمنع ديزريلي من الاعتقاد بأنه سيأتي اليوم الذي تحتل فيه إنجلترا مصر وقناة السويس، وأن ذلك حتم مقضي على إنجلترا.
فكان إذن الاتجاه في إنجلترا بعد مجيء سولسبري إلى وزارة الخارجية يسير في الطريق التي رسمها بسمرك، ولقد وجد بسمرك من رجال الساسة الإنجليز من يؤيد وجهة نظره، مثل السفير الإنجليزي في برلين لورد أودورسل، ولكن أعضاء الوزارة الإنجليزية جميعهم لم يكونوا يرون أن الوقت مناسب لذلك، وذلك خشية عداوة فرنسا، فلقد كان الركن الأول في سياسة فرنسا الخارجية في سنة ١٨٧٨ هو منع إنجلترا من الاستئثار بنفوذ متفوق في وادي النيل أو القناة.
ولقد وافقت إنجلترا على اقتراح فرنسا بألا تدخل مسألة مصر في مناقشات مؤتمر برلين ١٨٧٨، ورأت استبقاء لصداقة فرنسا عدم احتلال مصر، واستعاض سولسبري عن ذلك — أي: عن احتلال مصر وقناة السويس — باحتلال جزيرة قبرص التي تشرف على آسيا الصغرى ومدخل القناة معًا.
ثم ازداد تعقد المسألة المصرية في أواخر عهد الخديو إسماعيل لتحرج المسألة المالية من ناحية، ومحاولة الدول الأوربية الكبرى من ناحية أخرى، ثم لنمو الشعور القومي المصري إلى حدٍّ أثار مخاوف إنجلترا وفرنسا، فطلبتا من الباب العالي عزل الخديو إسماعيل، وتم لهما ما أرادتا في سنة ١٨٧٩، وجاء الخديو توفيق إلى ولاية مصر.
ولم تكن مهمة الخديو الجديد بالهينة أمام سيطرة الدولتين الأوربيتين، ولا أمام الرأي العام المصري الذي ساءه تدخل الأجانب في كل مرافق الحياة المصرية، مما هدد مستقبل البلاد ونموها، ثم جاءت الثورة العرابية، فزادت الأمور تعقيدًا على تعقيد، وخشيت الدولتان الإنجليزية والفرنسية على مصالحهما في مصر، وأرسلت سفنهما الحربية إلى مياه الإسكندرية واقترحت فرنسا عقد مؤتمر من الدول الكبرى في الأستانة سنة ١٨٨٢ لإيجاد حل حاسم للمسألة المصرية والقضاء على الثورة العرابية.