احتلال الإنجليز لقناة السويس في سنة ١٨٨٢
في أول الأسبوع الأخير من شهر يونيو سنة ١٨٨٢ اجتمع مؤتمر الدول الكبرى في مدينة الأستانة للنظر في المسألة المصرية التي تفاقمت في نظرهم بسيطرة عرابي باشا التامة على الجيش وعلى الحكومة المصرية.
وبدأ أعضاء المؤتمر أعمالهم بإعلان سخطهم واستيائهم من تطور الأمور في مصر وأخذ الثورة ومن أيقظها بالشدة، وانتقلوا بعد ذلك إلى إعلان أنه لا يجوز لأية دولة اشتركت في المؤتمر أن تستأثر لنفسها بحقوق في وادي النيل لا تكون للدول الأخرى، وسجل أعضاء المؤتمر في نفس الوقت أن مسألة مصر مسألة دولية عالمية، وأنه غير خليق بأية دولة واحدة أن تنفرد بتقرير مصير هذه البلاد دون سواها من الدول الكبرى.
اشتركت إنجلترا في ذلك المؤتمر، كما اشتركت فيه فرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا والمجر وإيطاليا، وكانت الدولتان اللتان تهتمان حقيقةً بالمسألة المصرية هما إنجلترا وفرنسا، وأما مندوبو الدول الأخرى فلم يكونوا على علم بتطور الحوادث في مصر، على أن إنجلترا كانت الدولة الوحيدة التي قررت ألا تتقيد بمناقشات المؤتمر، أو بما يسفر عنه جدله النظري، أو تفكيره السطحي، أو بما ينفضُّ عنه من قرارات قد تختلف مع المصالح الإنجليزية، وأن تعمل بنشاط وهدوء على تنفيذ خطتها ورعاية مصالحها في الوقت المناسب إذا ما واتت الفرصة.
كان على رأس الحكومة الإنجليزية — وهي حكومة الأحرار — جلادستون الذي سبق أن أعلن نفسه عدو الإمبريالزم والاستعمار ومن دعاة إنجلترا الصغيرة، ونصير الشعوب المغلوبة على أمرها، أعلن جلادستون هذه الآراء وهو خارج الحكم، ولكنه لما تولى الحكم آمن بما يدعيه رجال الإمبراطورية، بمهمة إنجلترا الحضارية ورسالتها الثقافية، آمن جلادستون بكل ما يؤمن به رجال الاستعمار، ونفذ السياسة الخارجية الإنجليزية بحذافيرها.
ولذا فبالرغم من انتقاده لسياسة ديزريلي التوسعية الإمبراطورية، فوزارته كانت جادة في استعدادتها الحربية، سائرة في تقوية أسطولها في البحر الأبيض المتوسط، هذا في الوقت الذي انهمك فيه أعضاء المؤتمر في مناقشاتهم النظرية واجتماعاتهم الشكلية واستفساراتهم العقيمة، فضلًا عما كان المؤتمر يعانيه من عثرات في طريقه بعد أن رفضت الدولة صاحبة السيادة على مصر الاشتراك فيه.
كانت إنجلترا تراقب تطور الأمور في مصر بكل عناية واهتمام، وأرسلت إلى قائدها البحري الذي كان يرابط بقطع من الأسطول في مياه الإسكندرية، وهو بوشومب سيمور، بألا يدع فرصة تفلت من يديه، وأن يراقب ما تقوم به السلطات الحربية المصرية في هذه المدينة، فإذا لاحظ أن هناك تحصينات تقام أو محاولات تبذل لسد مدخل الميناء أو حركات عسكرية خطيرة، فعليه أن ينذر هذه السلطات ويطلب منها تسليم قلاع المدينة في مدى أربعة وعشرين ساعة، بعد إنقضائها لا يتردد في ضرب الإسكندرية وهدم حصونها وإسكات دفاعها واحتلالها.
اعتبرت إنجلترا عمل المصريين لتحصين بلادهم عملا عدائيًّا موجهًا ضدها! ولم تكن الحكومة الإنجليزية لتتخذ هذه الخطة في الخفاء، بل صارحت بها الدول، وأرسلت بما قررته إلى مندوبي الدول المجتمعين في الأستانة.
لقد كانت الحكومة البريطانية ترى ضرورة القضاء على ما اعتبرته سيطرة الجيش في مصر قبل شهر أغسطس سنة ١٨٨٢ ونفذت خطتها بالفعل، وضربت مدينة الإسكندرية واحتلتها بعد أن دافع أهلها دفاعًا مشهودًا، واضطر العرابيون إلى اتخاذ قاعدة جديدة في كفر الدوَّار والدفاع عن البلاد إلى النهاية.
على أن احتلال الإنجليز لمدينة الإسكندرية لم يكن معناه احتلال مصر جميعها أو حل المسألة المصرية بأكملها، وإن كان سفير إنجلترا في رومه قد أعلن، حين وجد شيئًا من الضيق والقلق يسود إيطاليا بأنه يجب على دول أوروبا أن تشكر هذه الظروف، وأن تحمد الحكومة الإنجليزية على اتخاذ خطوات من شأنها رفعة مركز أوروبا في الشرق الأدنى!
وجدت إنجلترا أن حل مسألة مصر هو في قناة السويس، فهي النقطة الضعيفة التي تستطيع أن تنفذ منها إلى مصر مباشرةً، حقيقةً لقد عارضت إنجلترا — كما رأينا — في حفر هذه القناة، وعرقلت محاولة تنفيذ مشروعها، ولكنها أصبحت أكثر الدول استفادة من فتحها، لتجارتها ولمرور أساطيلها الحربية، وأصبحت القناة مصلحة حيوية مهمة من مصالح إنجلترا، ولذا شغلت مسألة حماية القناة أذهان الساسة الإنجليز بعد ضرب الإسكندرية، فبعثت حكومة لندن إلى الدول الكبرى تبدي قلقها على مصير القناة.
ومنذ الوقت الذي استفحلت فيه الحركة العرابية، تساءلت إدارة شركة قناة السويس في شيء من الخوف عن الموقف الذي ستتخذه إنجلترا إزاء القناة، وهل تنوي احتلالها؟ ولقد بيَّن مدير الشركة أنه لا يمكن لأية دولة احتلال القناة أو جزء من القناة، أو إنزال جنود على سواحلها.
ولتفادي الأخطار التي قد تلحق بقناة السويس أرسل فردنند دي لسبس برقية إلى ممثلي الدول الكبرى في باريس ينصح فيها كل دولة تهتم بحرية المرور في القناة أن ترسل سفينة حربية للمراقبة عند بورسعيد، وبيَّن أنه محرم القيام بأي عمل حربي أو بأية مظاهرة حربية عند مدخل القناة أو على شواطئها، وأن حَيْدة هذه القناة العالمية قُرِّرت في الامتياز الممنوح للشركة، وأن هذه الحيدة قد لوحظت من الناحية العملية في الحرب الفرنسية الألمانية سنة ١٨٧٠، والحرب الروسية التركية سنة ١٨٧٧.
اتخذ فردنند دي لسبس هذا الموقف حين طلب القائد البحري الإنجليزي المرابط في مياه بورسعيد إرسال سفينة حربية للمراقبة في قناة السويس، ولم يجد مدير الشركة أن يجيب ذلك الطلب خوفًا من العواقب التي قد تترتب عليه من انفراد إنجلترا بحقوق في القناة لا تكون للدول الأخرى. ولقد وافق مجلس إدارة الشركة على ما قام به مديرها على أساس أن الشركة مشروع مصري تجاري قبل كل شيء؛ ولذا لا يجب أن تربك نفسها في عمليات سياسية أو حربية.
ولقد استشار الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة حكومتهم في لندن فيما يجب أن يكون عليه موقفهم، ويظهر أنهم كانوا يفهمون أو يريدون استغلال شركة القناة لخدمة مصالح إنجلترا السياسية؛ ولذا فهم خلال هذه الأزمة لا يهتمون بمصلحة القناة بقدر ما يستلهمون مصالح إنجلترا السياسية والحربية التي وضعوها فوق كل اعتبار، والواقع أنهم كانوا أكثر حماسة لاحتلال إنجلترا للقناة من رجال البحرية ورجال الحرب الإنجليز، ويرون في ذلك خير وسيلة لتفوق نفوذ الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة؛ ولذا فهم في هذه الأزمة قد أخذوا على عاتقهم محاربة كل اقتراح أو مشروع أو احتجاج مهما كان قانونيًّا أو مشروعًا من شأنه عرقلة سياسة إنجلترا أو وضع العقبات أمام حركات جنودها أو سفنها في القناة، وفسروا الامتياز الممنوح لشركة القناة وكل السوابق العملية التي مرت بتاريخ القناة في الظروف الحربية المختلفة تفسيرًا يتلاءم ومصالح إنجلترا، كما اهتموا بتنفيذ التعليمات التي ترد إليهم من حكومتهم بشأن القناة خلال هذه الأزمة التي انتهت باحتلال الإنجليز للقناة ولمصر.
وكانت الحكومة الإنجليزية تخشى من جانبها — كما تدعي — أن يقوم العرابيون بردم القناة أو احتلالها أو إتلافها، وكانت تقارير ممثلي إنجلترا ممتلئة بالتشاؤم، وتنذر كما يقول الإنجليز بالخطر الشديد على هذه الطريق البحرية المهمة، وتواترت الإشاعات التي تقول بأن البدو المجاورين للقناة يعملون على مهاجمة السفن المارة بالقناة؛ أي أن سلامة المرور في القناة لم تعد مكفولة ولا مضمونة.
وفي ١٦ يوليو سنة ١٨٨٢ أرسلت الحكومة الإنجليزية تعليمات لقائدها البحري في بورسعيد الرير أدميرال هوسكنز بأن يتعاون مع قائد الأسطول الفرنسي في أمر حماية القناة، وأن يعمل بغير تردد في حالة حدوث خطر مباغت.
ولما عين عرابي باشا، علي باشا فهمي على منطقة القناة، أعلن الإنجليز أن الدولة البريطانية في حالة حرب مع عرابي باشا وأتباعه وأنها لا تحترم في مصر غير حقوق الخديو.
لقد كانت الحكومة الإنجليزية — حكومة جلادستون — مستعدة من الوجهة الفنية لتقبل كل التقارير الممتلئة بالتشاؤم وتصديق الشائعات التي تبالغ في وصف الخطر المحدق بالقناة، والعمل على مقتضاها، وخاصة وأن العرابيين لم يهتزُّوا كثيرًا لفقدان الإسكندرية، ولم يرجعوا عن عزمهم في الدفاع عن البلاد مهما كلفهم الأمر، وأخذوا بالفعل في تحصين مصر وإعداد وسائل الدفاع والحرب.
أخذت الحكومة الإنجليزية إذن في الاتصال بالدول لكبرى التي يهمها أمر القناة، تشير إلى الخطر الذي يتهدد القناة، وضرورة حمايتها، اتصلت الحكومة الإنجليزية بحكومة رومة، ولكن حكومة رومة لم تعط الإنجليز ما كانوا يبتغون، إذ أجاب وزير الخارجية الإيطالي مانشيتي بأن مصير القناة وحرية الملاحة فيها وفتحها في كل وقت للمرور أمر يهم الإيطاليين جميعًا، لا ريب في ذلك، ولكن إيطاليا تريد أن تتبين أولًا وبالتفصيل نوع الإجراءات التي تريد إنجلترا اتخاذها في هذه المسألة بالذات.
وأما الحكومة الفرنسية، فلقد كانت دائمًا في خشية من البرلمان، تلاحقها الأزمات الوزارية والسياسية لكبير المسائل وصغيرها؛ ولذا اقترحت الحكومة الإنجليزية أن تسعى الدولتان الكبيرتان لدى المؤتمر الذي ما زال منعقدًا في الأستانة لإقناعه بأمر انتدابهما لحماية قناة السويس من الأخطار التي تهددها — في نظر الإنجليز — والمحافظة عليها، فالدولتان — كما كانتا تعتقدان — صاحبتا المصالح الكبرى في مصر وفي القناة. وكانت الحكومة الفرنسية — حكومة دي فريسنيه — تعتقد أنه إذا وافق المؤتمر على انتدابها هي وإنجلترا لحماية القناة، والمحافظة على حرية المرور فيها؛ فإنها تستطيع أن تبرر عملها أمام البرلمان الفرنسي، وتستطيع أن تحصل على موافقته، وبغير ذلك لا تجرؤ على التدخل مع إنجلترا.
فالحكومة الفرنسية إذن لم تكن تقلُّ رغبة عن حكومة جلادستون في التدخل لما تدَّعيه من حماية القناة، وكان دي فريسنيه نفسه يود لو استطاع التدخل والتعاون مع الإنجليز، وخاصة بعد ضرب الإنجليز لمدينة الإسكندرية واحتلالهم لها، وكان زعيم الجمهوريين في فرنسا نفسه ينادي دائمًا بضرورة التعاون مع إنجلترا، في كل مسائل البحر الأبيض المتوسط، ففي البرلمان الفرنسي في جلسة ١٩ يوليو سنة ١٨٨٢ حاول ذلك الرجل أن يقنع البرلمان بضرورة التعاون مع إنجلترا للمحافظة على مصالح فرنسا، ولكن أعضاء البرلمان الفرنسي ما كانوا يوافقون أبدًا على أي تدخل حربي فرنسي في وادي النيل، ولقد شكر كلمنصو؛ أحد الأعضاء البارزين في مجلس النواب الفرنسي الحكومة الفرنسية في نفس هذه الجلسة على عدم الاشتراك مع الإنجليز في ضرب مدينة الإسكندرية، وعلى الامتناع عن كل المغامرات الحربية، وندد بسياسة السير في أذيال إنجلترا.
وحاول جرانفل وزير الخارجية البريطانية أن يتعرف على رأي الدولة الألمانية في ذلك الموضوع؛ موضوع حماية قناة السويس، فبيَّن المستشار الألماني بسمرك أنه لا زال يعتقد أن السلطان العثماني هو صاحب الحق الأول في حماية القناة والإشراف عليها، إذ هي جزء من ممتلكاته، فإذا لم يكن السلطان راغبًا في القيام بهذه المهمة، كان على الدول الأخرى أن تعمل، فإذا قامت هذه الدول بحماية مصالحها، فإن الدولة الألمانية لن تتحمل أية مسئولية عن هذا العمل أو عن الإجراءات التي قد تُتخذ، كذلك لن توافق ألمانيا على تعديل المعاهدات الموجودة، ولن توافق أبدًا على فكرة انتداب دولة أو دولتين للقيام بحماية قناة السويس، فالمستشار الألماني يرى أن تشترك في ذلك الدول جميعًا، على أن تكون حقوقهم جميعًا متساوية في اتخاذ تدابير بوليسية بحرية إذا استلزم الأمر ذلك، وقال بسمرك: إن هذا هو اتجاه الرأي العام الألماني، ووافقته على هذه الخطة روسيا والنمسا والمجر وإيطاليا.
ولقد حاول وزير الخارجية البريطانية جرانفل إقناع ممثل ألمانيا بأن الموقف في القناة غريب، فالحكومة الشرعية، وهي حكومة الخديو، ليست في مركز تستطيع معه حماية قناة السويس أو الدفاع عنها، والحكومة الفعلية التي تمتع بالسلطة هي القائمة بالثورة، وهي التي يخشى خطرها على كيان القناة وسلامتها، والسلطان العثماني صاحب حقوق السيادة في مصر لم يتخذ إلى الآن أية إجراءات تكفل سلامة القناة، وضرب مثلًا لذلك بأنه إذا اشتعلت النيران في منزل، فيجب ألا يتردد سكان ذلك المنزل في العمل على إخماد النيران انتظارًا لمجيء صاحب المنزل والحصول على إذن منه، فهذا — كما يرى جرانفل — هو موقف إنجلترا بالنسبة لقناة السويس، وأضافت الحكومة الإنجليزية إلى ذلك بأن الحماية البحرية للقناة بغير إنزال جنود على ضفتيها لا تغني كثيرًا.
لم يقتنع المستشار الألماني بسمرك برأي الحكومة الإنجليزية ولم يتحول عن رأيه، ولكن الحكومة الإنجليزية لم تقف عند هذا الحد، فهي قد وطنت العزم على حماية مصالحها، ولو أدى الأمر استعمال القوة وتجاهل حقوق المصريين والأتراك على السواء؛ ولذا قررت أن ترسل للباب العالي إنذارًا بأنه إذا لم يُجب دعوة الدول الكبرى في مدى أربعة وعشرين ساعة لوقف عرابي عن حده والقضاء على الثورة المصرية، ستعتبر الحكومة البريطانية إجابته سلبًا، وتتخذ حينئذٍ ما تراه ضروريًّا لحماية مصالحها في القناة، واتصلت بالدول الكبرى تنبئهم بعزمها على اتخاذ تدابير فعلية في حماية القناة، مما جعل الحكومة الإيطالية تعتقد أن الحكومة البريطانية لا تبغي جادة تدخل الحكومة العثمانية؛ لأن مثل هذا الإنذار إذا قُدِّم للسلطان سيُحدث بلا ريب أثرًا سيئًا ورد فعل شديد لديه، إذ معناه أن السلطان أصبح في مركز ذليل يتلقى فيه الأوامر من إنجلترا في مسألة تختص بحقوق سيادته في أمر بلاد اعترفت كل الدول بأنها تابعة له، ولما وجدت الحكومة الإنجليزية أن الدول الأخرى لا تقر مثل هذه الخطوة العنيفة لم تبعث بذلك الإنذار.
ولكنها استمرت بنشاط في تجهزها للطوارئ، وأرسلت بقوات جديدة إلى قبرص ومالطة لتكون على تمام الأهبة والاستعداد، وأرسلت وزارة البحرية إلى قائد البحر بوشومب سيمور بأن يطلب من الحكومة المصرية في الإسكندرية تصريحًا مكتوبًا لأمير البحر هوسكنز قائد القطع البحرية البريطانية في مياه بورسعيد ليعمل باسم حكومة الخديو في منطقة قناة السويس، وأن يستولي على الإسماعيلية، وأن يحرم عرابي باشا وأتباعه من استخدام السكة الحديدية بين الإسماعيلية والسويس.
ولقد احتج فردنند دي لسبس على انتهاك الحكومة الإنجليزية لحياد القناة، بإنزال قوات عسكرية في الإسماعيلية، وأعلن أن للسفن جميعًا حربية وغير حربية حرية المرور في القناة، دون القيام بأعمال عدوانية في مياهها أو أراضيها، وكرر فكرته بأن هذا الحياد قد احتُرِم بالفعل إبان الحرب الفرنسية الألمانية والحرب الروسية التركية، فلم تعتدِ الروسيا على القناة ولو أنها جزء من ممتلكات الدولة التركية التي هي في حالة حرب معها، وذكر دي لسبس أن السفن المتعادية قد تقابلت في القناة دون أن تتبادل إطلاق النار.
فأعمال الإنجليز الآن — كما وضح — تكون سابقة خطيرة للمستقبل، قد تأسف لها بريطانيا نفسها، إذ إنه في أية أزمة سياسية في المستقبل تستطيع أية دولة معادية لبريطانيا، على أساس هذه السابقة، احتلال إحدى ضفتي القناة وإطلاق النيران على السفن الإنجليزية أثناء مرورها.
ولكن إذا احتُرم حياد القناة الآن فلن يقوم مثل ذلك العمل.
ولذا، كرَّر دي لسبس أنه لا يجب استخدام قناة السويس كقاعدة للعمليات الحربية أو تحويلها إلى ميدان حرب، وبيَّن دي لسبس في احتجاجه هذا، أن عرابي باشا نفسه «الذي أعلن عليه الإنجليز الحرب» قد احترم بالفعل حياد القناة، فلم يحشد قوات في منطقتها، ولم يمس حرية المرور في القناة نفسها، وأنه سائر في هذه الخطة طالما لم تستخدم القناة قوة معادية للقيام بأعمالها الحربية.
ولم يرق احتجاج دي لسبس هذا الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة، فهؤلاء الأعضاء لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام حجج دي لسبس التي برر بها موقفه من ضرورة احترام إنجلترا لحياد القناة، فأعلنوا أنهم لا يستطيعون الثقة في نيات عرابي باشا، ولا في احترامه لحياد القناة، وأنه قد اتصل بهم أن عرابي باشا ينوي الإضرار بالتجارة الإنجليزية، بوقف حركة المرور في القناة ومهاجمة السفن البريطانية فيها، وكذلك لا يمكن الاعتماد على وعوده فيما يختص بالمستقبل.
وبينوا كذلك أن دخول قوات بريطانيا البحرية في القناة ليس إلا لدرء ذلك الخطر، وأن من الخير القيام بذلك الإجراء الآن، لا الانتظار حتى يتفاقم الخطر وتعطل القناة، وأضاف الأعضاء الإنجليز إلى ذلك أن حكومتهم قد اضطرت اضطرارًا للقيام بهذه التدابير، وأنها قد قامت بها باسم الخديو وباسم حكومته الشرعية ضد الجيش الثائر، وأن غرض إنجلترا هو حماية الأمن والنظام في مصر وحماية السلطة الشرعية في البلاد، وأن خطة الحكومة الإنجليزية التي اتخذتها هي في صالح القناة لا اعتداء على حيادها.
ولكن مثل ذلك القول لم يقنع مدير شركة القناة ولا الأعضاء الآخرين، وأشار دي لسبس بأن المحافظة على حياد القناة هو في صالح إنجلترا أكثر من أية دولة غيرها.
ولقد عمل موقف دي لسبس وشركة القناة على أن ترسل الحكومة البريطانية إلى حكومة فرنسا تحذرها من كل عمل يقوم به دي لسبس ضد إنزال القوات الإنجليزية، وإلا اضطرت الحكومة الإنجليزية إلى اتخاذ تدابير ضد شركة القناة نفسها.
وفي نفس الوقت كانت إدارة الشركة لا تزال تكافح في سبيل إقناع الإنجليز باحترام هذه القناة. وخاصةً بعد أن احتلت قوات هيويت البحرية السويس، فاجتمع مجلس إدارة الشركة، وقرر بأغلبية الآراء القرار الآتي: أنه باتفاق أصحاب مشروع القناة أعلن حياد القناة، وأن هذا الحياد أساس الامتياز الذي منح للشركة، وهذا الامتياز نفسه يحرم القيام بأي عمل حربي في القناة؛ ولذا فالشركة في موقف لا يسمح لها أبدًا بالموافقة على أي اعتداء على حياد القناة، الذي يتضمن بلا ريب حرية المرور لكل الشعوب، وعلى هذا لن تستطيع أية حكومة إقناع إدارة الشركة بقبول مسئولية الاعتداء على حقوق كل الشعوب التي تهتم بحرية الملاحة في القناة، ولما كانت صبغة الشركة قبل كل شيء تجارية، فليس لها أن تدخل في اعتبارها المسائل السياسية.
ولكن هذا لم يؤثر في موقف الحكومة الإنجليزية ولم يزحزحها عن رأيها قِيدَ أنملة.
وفي الوقت الذي كانت فيه حكومة لندن تأخذ أهبتها للطوارئ، كانت حكومة إيطاليا تنصح بالتريث والصبر، وحكومة فرنسا تزداد كل يوم وهنًا على وهن، ولا تجد من نفسها القوة لتتمشى مع رغباتها ورغبات الحكومة الإنجليزية، ولذا عادت تستفسر من الحكومة الإنجليزية: هل تفهم فرنسا من دعوة الإنجليز لها للاشتراك في حماية قناة السويس الاقتصار على القيام ببعض مناورات حربية بحرية واحتلال بعض النقط على ضفتي القناة، أو القيام بحملة عسكرية داخل البلاد ترمي إلى احتلال مصر جميعها احتلالًا عسكريًّا؟
على أن هذا التردد من جانب الحكومة الفرنسية لم يمنع وزير الخارجية الإنجليزية جرانفل من مواصلة جهوده مع فرنسا بالرغم من رفض المستشار الألماني لفكرة الانتداب، ولذا رأت الحكومة الفرنسية أن تحدد نوع تدخلها — إذا حدث وتدخلت — فهي تفكر في التدخل فيما يختص بحماية قناة السويس والمحافظة على حرية المرور فيها فقط، أما إذا أرادت الحكومة الإنجليزية إرسال حملة بعد ذلك للقضاء على الثورة العرابية واحتلال العاصمة المصرية، فالحكومة الفرنسية غير مستعدة للاشتراك فيها أو التعاون معها، ولكنها لن تقوم من جانبها بإثارة أي معارضة لإنجلترا إذا حاولت تنفيذ برنامجها.
ولهذا أراد وزير الخارجية البريطانية أن يوضح فكرته لفرنسا فيما يختص بالتعاون بين الدولتين، ووضع التفصيلات الخاصة بتوزيع الإشراف على القناة بين الإنجليز والفرنسيين؛ فيشرف الفرنسيون على الجزء الشمالي للقناة، على المنطقة ما بين الإسماعيلية وبورسعيد، ويشرف الإنجليز على بقية أجزاء القناة، ويحتل الفرنسيون بورسعيد والقنطرة، ويحتل الإنجليز الإسماعيلية والسويس. وبهذا يرضى الطرفان ويتعاونان، ويطمئنان تمامًا فيما يختص بسلامة القناة، وفي هذا الحل تناسى جرانفل تمامًا حقوق المصريين، أصحاب القناة الأصليين، وحقوق السلطان صاحب السيادة، ونصوص الامتياز الممنوح لشركة القناة، ولم يبين جرانفل في برنامجه هذا هل هذا التعاون وذلك الاحتلال مؤقت أم نهائي.
وكانت حكومة فريسنيه راغبة في التعاون مع الحكومة الإنجليزية في حماية القناة، ففريسنيه لا يريد ترك إنجلترا تتدخل وحدها وتنفرد بالنفوذ في القناة، ففي جلسة ٢٤ يوليو في البرلمان الفرنسي طلب رئيس الحكومة اعتمادًا لحماية القناة وعلى الأكثر لاحتلال الزقازيق لضمان المياه العذبة. وناقش مجلس النواب الفرنسي ذلك الطلب في جلسة ٢٩ يوليو، فبيَّن فريسنيه للمجلس أن ليس لفرنسا نية في التدخل الفعلي، وإنما غايتها حماية القناة، وأن لا دخل للسياسة في ذلك، فكل الدول لها نفس المصالح في حماية القناة، ووضح أن حماية القناة لا تؤدي إلى التدخل الحربي، وأن غاية فرنسا من ذلك هو مشاركة إنجلترا وعدم ظهور فرنسا بمظهر الضعف أمام الشعوب الإسلامية. وأجاب كلمنصو على ذلك بأنه لا يمكن فصل مسألة مصر عن مسألة القناة، وأن حماية القناة لا تكون باحتلال القناة، وإنما باحتلال القاهرة، وهذا هو سر تدخل إنجلترا، ولا يمكن لفرنسا أن تتعقب آثار إنجلترا، وليس من داعٍ لأن تقوم فرنسا بحماية القناة لتحمي ظهر الإنجليز.
ورفض البرلمان الفرنسي طلب الحكومة الفرنسية بأغلبية واضحة، بعد أن ندد المعارضون برأي الحكومة، ورفضوا الموافقة على القيام بأي عمل حربي أو مغامرة خارجية، وانتصرت الفكرة التي تقول: إن على فرنسا أن تحتفظ بكل قواتها في أوروبا لحماية مصالحها المهمة والحيوية، وأن ترفض كل رأي يرمي إلى التوسع الخارجي أو الاستعمار.
وأما من حيث أمر تعاون إيطاليا مع الإنجليز في حماية قناة السويس، وفي إرسال حملة مشتركة إلى داخل البلاد المصرية، فلقد حاول السفير الإنجليزي في رومه إقناع مانشيني وزير الخارجية الإيطالية بوجهة النظر البريطانية، ووضح له فائدة التعاون مع بريطانيا في مسائل البحر الأبيض المتوسط، وخاصةً في هذه المسألة بالذات، وبيَّن له في جلاء لا مزيد عليه أن موافقة الباب العالي التي جاءت متأخرة في الاشتراك في مؤتمر الأستانة وعلى إرسال جنوده إلى مصر لن تجعل الحكومة البريطانية تعدل عن خطتها التي استنتها لنفسها، ولن تمنع الحكومة البريطانية من الاستمرار في استعداداتها الحربية، ومن المضي قدمًا في احتلال المراكز التي تراها في منطقة القناة وفي قمع الثورة العرابية وفي المحافظة على سلطة الخديو.
ولكن محاولات السفير البريطاني في رومه، وجرانفل في لندن مع السفير الإيطالي لم تجد نفعًا كبيرًا، فلقد كانت إجابة وزير الخارجية الإيطالية مانشيني تنطوي على عدم اقتناعه بوجهة النظر الإنجليزية، فلقد بيَّن في أدب أنه لا يفهم معنى مناقشة مسألة مصر وقناة السويس في مكانين مختلفين في وقت واحد، فمسألة مصر والقناة معروضة الآن، باتفاق كل الدول الكبرى، أمام المؤتمر المنعقد في الأستانة، يتبادل أعضاؤه الآراء في شأنها، ويحاولون أن يجدوا لها علاجًا حاسمًا.
ولذا فمانشيني يفضل العمل الجمعي الذي تشترك فيه كل الدول الكبرى، لا تعاون إنجلترا وإيطاليا وحدهما، وفي الواقع أن مانشيني كان يرى أن الظروف الحاضرة لا تبرر تدخل إيطاليا الحربي في بلاد ناشئة تسعى إلى تحقيق آمالها القومية، وأيده في موقفه بعض أعضاء البرلمان الإيطالي الذين ما فتئوا يؤيدون حق الشعوب في الوحدة والحرية.
وعند ذلك لاحظ السفير الإنجليزي لدى البلاط الإيطالي، وكان مغرمًا بإلقاء المحاضرات السياسية على الدولة الإيطالية الناشئة بأنه ينبغي ألا تنسى الحكومة الإيطالية ذلك العرض حتى لا تتهم الحكومة البريطانية في المستقبل بأنها اتبعت سياسة خاصة أنانية، كما ذكر أن بريطانيا غير محتاجة إلى معاونة أية دولة في حماية القناة أو القضاء على ثورة الجيش في مصر.
ولم تحتج بريطانيا على موقف إيطاليا هذا، بل اغتبطت له، فالمهم في نظر وزير خارجية إنجلترا أن دولته قد أظهرت رغبتها في مجاملة إيطاليا، ورفض بقوة اقتراح الحكومة الإيطالية إنشاء قوة بوليسية بحرية دولية للإشراف على حرية المرور في قناة السويس دون احتلال لأي جزء من أجزائها.
وواصلت إنجلترا السير في خطتها، فصرحت لقائدها البحري في بورسعيد بأن يحتل من أجزاء القناة ما يراه ضروريًّا لاتخاذ القناة قاعدة حربية، وقررت إرسال حملة إلى مصر تسير بطريق القناة ثم تستند إلى القناة، وتتكون هذه الحملة من ١٤٧٩٤ جنديًّا بقيادة السير جارنت ولسلي، تنضم إليها قوة آتية من الهند قوامها ٤٥٨٦ جنديًّا، كما تنضم إليها الحامية البريطانية في الإسكندرية المكونة من ٦١٨٦ رجلًا، ويقوم بوشمب سيمور قائد القوات البحرية بمعاونة هذه الحملة، وأرسلت تعليمات إلى الأسطول بأن يقوم بحماية القناة، وأن تتخذ الحملة الإنجليزية القناة قاعدة لها.
وفي نهاية الأسبوع الأول من شهر أغسطس كانت إنجلترا قد أعلنت للدول أن القناة لا يمكن حمايتها تمامًا إلا باحتلال بعض النقط على ضفافها، ولا سيما وأنه قد وصل إلى علم الحكومة الإنجليزية أن عرابي باشا يجمع الجنود قريبًا من منطقة القناة.
وفي هذه الأثناء كان مستر إدوارد ستاندن في مجلس شركة قناة السويس يجيب على احتجاجات فردنند دي لسبس بضرورة احترام حياد القناة، فبيَّن أن آراء الدول الكبرى مختلفة بالنسبة لهذا الموضوع، وأن فرنسا نفسها إلى وقت قريب كانت قد أعلنت للحكومة الإنجليزية أنها لا تمانع في إنزال جنود إلى بورسعيد، وأن تحتل الجزء الشمالي من القناة، وأن ألمانيا نفسها قد وافقت على فكرة إنزال جنود في منطقة القناة، فقائد السفينة الحربية الألمانية الراسية في مياه بورسعيد قد أنزل بالفعل عددًا من بحارته لحماية الرعايا الألمان في هذه المدينة، فهاتان الدولتان اللتان يقول عنهما دي لسبس بأنهما احترمتا حياد القناة، لم تريا في مثل هذا العمل اعتداء على حياد القناة.
على أن هذا الرأي لم يجد قبولًا عند مدير الشركة الذي أرسل إلى ممثلي الدول في باريس منشورًا يكرر فيه بأن القناة محايدة على أساس امتياز ٥ يناير سنة ١٨٥٦، فالمادة ١٤ منه تقول: «نعلن نحن وحلفاؤنا — بعد تصديق صاحب الجلالة الإمبراطورية «العثمانية» — بأن القناة البحرية الكبرى من السويس إلى بلوز والموانئ القائمة عليها مفتوحة دائمًا كممر محايد لكل السفن التجارية دون تمييز أو تفضيل لشخص أو لجنسية إذا دفعت الرسوم التي تقررها شركة القناة العالمية.»
ومادة ١٥ تقول: «ونتيجة لذلك لا يجوز لشركة القناة العالمية الممنوحة الامتياز تفضيل سفينة أو شركة أو شخص بإعطائهم امتيازات لا تكون لكل السفن أو الأشخاص أو الشركات في نفس الظروف.»
ومن امتياز ٢٢ فبراير سنة ١٨٦٦ تنص المادة العاشرة على أن من حق الحكومة المصرية أن تحتل الأراضي الواقعة على القناة التي ترى أنها لازمة للدفاع عن البلاد.
شمل المنشور الذي أرسله دي لسبس إلى ممثلي الدول في باريس هذه النقط، وأكد أهمية المحافظة على حياد القناة لكل الدول التي لها تجارة تمر بالقناة، وبيَّن المنشور كذلك أن قائد البحر الإنجليزي لم يأبه لهذا، بل وأعلن أنه سيتخذ كل الوسائل لاحتلال القناة، ووضح المنشور أن المظاهرات الحربية التي يقوم بها قواد البحر الإنجليز من شأنها إثارة الأهلين، وبهذا تدخل القناة في منطقة الحرب.
ويرى دي لسبس في ذلك المنشور أن الحل الوحيد لمسألة القناة يتركز في حماية بحرية تشترك فيها كل الدول دون إنزال جنود على ضفتي القناة أو احتلال لأجزاء منها، وفي مثل هذا الإجراء — إذا اتُّخِذ — محافظة على حياد القناة الذي أقره السلطان صاحب السيادة.
على أن هذا المنشور الجديد لم يثبط من عزيمة إنجلترا، فلقد طلبت الحكومة الإنجليزية من شركة القناة أن تفضل مرور السفن الحربية البريطانية على السفن الأخرى، وبينت أن إنجلترا ستلجأ حتمًا إلى القوة لتنفيذ ذلك، إذا رفضت شركة القناة الموافقة على ذلك الطلب، وأعادت تحذيرها للحكومة الفرنسية بشأن العراقيل التي يبثها دي لسبس أمام إنجلترا.
لقد أصبح من الضروري أن تعمل إنجلترا متعاونة مع الخديو والسلطان، وذلك بإنزال قوات على ضفاف القناة، وفقًا لمواد ٩، ١٠، ١١ من امتياز ٢٢ فبراير سنة ١٨٦٦ الخاص بالقناة، والذي صدق عليه السلطان في ١٩ مارس من هذه السنة ١٨٦٦ احتفظ والي مصر لنفسه بحقوق تنفيذية في القناة وكل متعلقاتها، ووفقًا لهذا الحق سمح والي مصر الحالي لقائد القوات البحرية البريطانية في بورسعيد باحتلال الأماكن الواقعة على القناة التي يراها ضرورية لحماية المرور في القناة وحماية المدن والسكان في منطقتها، والقضاء على كل قوة لا تعترف بسلطته، واستتبع هذا احتلال قوات إنجلترا البحرية لمدينة السويس التي كانت مهددة بالتدمير «وكانت إنجلترا في ذلك الوقت ترى أن هذه المدينة تقع خارج منطقة القناة»، ثم احتلال مدينة الإسماعيلية لحمايةالقناة وما حولها، ولإرجاع النظام إلى مصر، ونظرًا لوجود القوات المعادية لإنجلترا قرب القناة، فالحكومة البريطانية إذن مضطرة إلى تركيز عدد كبير من القوات في هذه المنطقة.
وطلبت الحكومة البريطانية أيضًا أن تقوم الشركة بتقديم كل التسهيلات الممكنة لمرور ناقلات الجنود، وأن تقدمها على كل السفن الأخرى، وكذلك طلبت الحكومة البريطانية من الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة أن يحذروا الشركة عواقب الوقوف أمام طلبات إنجلترا وتجاهل أوامر الخديو صاحب الحق الشرعي في البلاد.
هكذا بررت الحكومة الإنجليزية مسلكها بإزاء القناة، ولجأت إلى التهديد باستخدام القوة إذا وقفت أمامها شركة القناة.
ولم يكن أمام شركة القناة إلا أن تلتجئ إلى الحكومة الفرنسية، ولكن الحكومة الفرنسية كانت نفسها — كما رأينا — ميالة إلى التدخل مع إنجلترا لحماية القناة، لولا معارضة البرلمان الفرنسي لها، فهي من ناحية المبدأ لا تستطيع أن تنتقد مسلك إنجلترا في هذه المسألة بالذات ولا أن تؤيد شركة القناة، وبعد ذلك فالحكومة الفرنسية في مركز ضعيف لا تحسد عليه، ليست لها حرية التصرف في الأمور الخارجية والأمور التي تستلزم استخدام القوة، أما الدول الأخرى، فما كانت شركة القناة تستطيع أن تتقدم إليها طالبة المعونة أو التأييد، فهذه الدول ليست لها مصالح مهمة في القناة أو مصر تدعوها للتدخل لنجدة الشركة، فهي إذن ليست حريصة على عرقلة إنجلترا، وأما الدولة العثمانية صاحبة السيادة، فهي أضعف من أن تتحدى الحكومة البريطانية، وأما حكومة الثورة وعلى رأسها عرابي باشا، فلم تتخذ أية إجراءات لحماية القناة أو لمنع العدوان الإنجليزي على شرقي مصر، بل تركت منطقة القناة بغير دفاع.
وانتهز الإنجليز هذه الفرصة فاحتلت قواتهم البحرية منطقة القناة جميعها، وأوقفوا حركة المرور في القناة، واستطاعت الحملة الإنجليزية بقيادة سير جارنت ولسلي أن تعبر القناة آمنة مطمئنة وأن تستند إلى القناة كقاعدتها الأساسية في غزو مصر.
وفي هذه الأثناء كان مؤتمر الأستانة مستمرًا في جلساته، ثم أنهى هذه الجلسات بعد أن وافق على تعاون الإنجليز والأتراك في حل مسألة مصر، واستمرت المناقشات بين الإنجليز والأتراك على نوع وحدود التعاون بينهما، واشترط الباب العالي ألا يتعدى الجنود الإنجليز حدود مدينة الإسكندرية! وألا يلبثوا في الإسكندرية أكثر من ثلاثة شهور، وتقدمت الحكومة الإنجليزية من جانبها باقتراحات هي في الواقع أوامر بألا تزيد القوة العثمانية على خمسة آلاف رجل، وألا تتحرك في مصر إلا بموافقة قائد القوات الإنجليزية.
واستمرت المفاوضات تتعثر حينًا وتتقدم حينًا آخر، ثم انقطعت فجأة بمهاجمة الإنجليز للقناة وزحفهم على شرقي مصر ووقوع موقعة التل الكبير ودخول الإنجليز القاهرة واحتلالهم لمصر.