إنجلترا والقناة (١٨٨٨–١٩٣٥)
لقد أمضت إنجلترا اتفاقية سنة ١٨٨٨ الخاصة بالقناة كما أمضتها بقية الدول، ولكنا وجدنا أن إنجلترا تمتعت من الناحية الفعلية بحكم احتلالها العسكري وإشرافها على الحكومة المصرية بمركز ممتاز فيما يختص بقناة السويس، ثم ذلك التحفظ الذي وضعته كان معناه انفرادها بحقوق ليست للدول الأخرى.
واستمر الموقف على ذلك إلى أن وجد كل من إنجلترا وفرنسا تسوية المسائل المعلقة بينهما، فلقد كان النزاع الذي اشتد أواره بينهما في غير صالحهما، فلقد حَمِيَ النزاع بين الدولتين بخصوص مسألة مصر إلى درجة كادت الحرب أن تقع بينهما في أزمة فاشودة سنة ١٨٩٨.
وجدت فرنسا أثناء هذه الأزمة العنيفة أنه لا يمكنها الاعتماد على التحالف الروسي، ولا يمكنها مناضلة إنجلترا، فلقد ثبت لدى الحكومة الفرنسية أن البحرية الإنجليزية في البحر المتوسط متفوقة تفوقًا تامًّا على البحرية الفرنسية.
ووجدت إنجلترا أن من مصلحتها إصلاح علاقاتها بفرنسا لتأمين مركزها في مصر وقناة السويس نهائيًّا، فلقد كانت فرنسا وحليفتها الروسيا هما الدولتان الوحيدتان اللتان ناوأتا بكل شدة استمرار الاحتلال البريطاني في مصر وسيطرة البريطانيين على قناة السويس، والأعضاء الفرنسيون في مجلس إدارة شركة القناة هم الذين أثاروا ما استطاعوا من عقبات في وجه العمليات الحربية البريطانية في سنة ١٨٨٢، وأما بقية الدول فلم تثر معارضة حقيقية؛ ولذا حاول الإنجليز تسوية علاقاتهم مع فرنسا نهائيًّا، إذ ما قيمة مصر وقناة السويس من الناحية الاستراتيجية، إذا استطاع الفرنسيون بمعاونة حلف خارجي قطع الطريق البحرية في الجزء الغربي للبحر الأبيض المتوسط، فهم مسيطرون على تونس والجزائر ونفوذهم كبير في مراكش.
ولو حدث ذلك واستمر مدة لتزعزع مركز إنجلترا في البحر المتوسط، ولساءت حالتها التجارية، ولذلك أصبحت إنجلترا تعتقد أن مستقبل المواصلات الإمبراطورية كلها متعلق إلى حد كبير بالشاطئ الأفريقي الشمالي، ورأت أن تطمئن إلى أن الدولة التي سيصير لها النفوذ في مراكش دولة صديقة لها، وخاصةً وأن قوة ألمانيا البحرية قد أخذت تنمو بسرعة كبيرة، وهذا من شأنه حجز جانب كبير من الأسطول البريطاني في المحيط الأطلنطي وبحر الشمال.
فلو حدث واتفقت ألمانيا وحليفتها إيطاليا مع فرنسا، لكانت الكارثة على إنجلترا وعلى مركزها في البحر الأبيض المتوسط والعالم، ولقد حدث أن اتفقت فرنسا وألمانيا في سنة ١٨٨٥ فتزعزع مركز إنجلترا في مصر، وأخذت تفكر في الجلاء، واضطرت إلى أن تسلم بمطالب الألمان والفرنسيين فيما يختص بالمستعمرات وراء البحار، واضطرت إلى أن تسوي المسألة المالية في مصر تسوية ترضي فرنسا، فإذا تكرر نفس الاتفاق في سنة ١٨٩٨ أو سنة ١٩٠٠، وكانت فرنسا تفكر جديًّا في الانضمام إلى المعسكر الألماني، فماذا يكون مركز إنجلترا في مصر وقناة السويس وبقية أجزاء العالم؟
فلكي تطمئن إنجلترا تمامًا إلى مركزها في مصر وإشرافها على قناة السويس وقواعدها في جبل طارق ومالطة، لا بد من الوصول إلى اتفاق تام مع فرنسا وتسوية كل المسائل المتنازع عليها بينهما، وخاصةً مسألة مصر والقناة، وتم ذلك في الاتفاقية «لانزدون كامبون» في ربيع سنة ١٩٠٤.
وبهذه الاتفاقية زالت المعارضة الحقيقية للاحتلال الإنجليزي لمصر، وضمنت إنجلترا نهائيًّا وإلى حين تفوق مركزها على ضفاف النيل والقناة، وبذلك لم تعد في حاجة إلى التحفظ الذي ألحقته باتفاقية سنة ١٨٨٨.
فنصت الاتفاقية الجديدة في المادة السادسة على زوال ذلك التحفظ، وأعلنت الدولتان تمسكهما بحرية المرور في القناة وبشروط معاهدة سنة ١٨٨٨.
وبهذه الاتفاقية بين إنجلترا وفرنسا زالت كذلك معارضة الروسيا للاحتلال الإنجليزي لمصر، وستنضم الروسيا إلى الوفاق الفرنسي الإنجليزي بعد ثلاث سنوات من هذه الاتفاقية، بقيت الدول الكبرى مثل ألمانيا والنمسا والمجر وإيطاليا، فإلي قيام الحرب الكبرى الأولى لم تكن لهذه الدول مصالح مباشرة ومهمة تدعوها إلى معارضة الاحتلال معارضة جدية أو مناقشة مركز إنجلترا الممتاز في القناة.
ولكن هناك مسألة تستوقف النظر بالنسبة للقناة، وهي محاولة ألمانيا إنشاء طريق آخر للمواصلات بين الشرق والغرب، وهو طريق ب. ب. ب. (برلين، بيزنطة، بغداد). أخذت ألمانيا تستغل مركزها الممتاز في الدولة العثمانية من بعد سنة ١٩٠٠ لإنشاء سكة حديدية تخترق الأناضول والجزيرة والعراق إلى بغداد، ومنها تكمل السكة الحديدية إلى البصرة على مدخل الخليج الفارسي، وبذلك هُيئ لألمانيا إمكان تحويل جانب كبير من تجارة الشرق عن طريق قناة السويس إلى الطريق الجديدة.
وأخذ الألمان في تنفيذ مشروعهم، ففي سنة ١٩٠٣ استطاعت ألمانيا أن تأخذ امتياز سكة حديد بغداد، وكان الألمان يرون في ذلك الوقت أنه يمكن إلحاق الضرر الجسيم بإنجلترا في نقطة واحدة هي مصر، وإن فقدان إنجلترا لمصر ليس معناه انتهاء إشرافها على قناة السويس والطريق إلى الهند، ولكن معناه أيضًا ضياع ممتلكاتها في أواسط وشرق أفريقيا، اعتبر الألمان قناة السويس شريانًا حيويًّا من شرايين الإمبراطورية، فأي عطب يلحق به يصيب إنجلترا بخسارة جسيمة.
وعلى أي حال لم تلحظ الحكومة البريطانية ذلك الخطر الجديد من أول الأمر، بل وساهمت في تمويل المشروع الألماني، ولكنها حين تنبهت لخطر المشروع أسرعت بالسيطرة على الخليج الفارسي، وعقدت حلفًا مع روسيا لتشل حركة الألمان والأتراك معًا، ثم قامت الحرب العالمية الكبرى الأولى، فلم يكمل تنفيذ المشروع كما كان يبغي الألمان، وظلت طريق قناة السويس بغير منافس، إذ إنه بعد انتهاء هذه الحرب سيطرت إنجلترا على العراق سيطرة كاملة من الناحية السياسية لمدة، ثم عقدت معه معاهدة تحالف تضمن عدم انضمامه إلى جانب أعدائها، ومع ذلك فلم تعمل إنجلترا على إحياء طريق الخليج الفارسي — العراق — البحر الأبيض؛ بحيث ينافس طريق قناة السويس.
وقبل قيام الحرب الكبرى الأولى، قامت حربان؛ الحرب الأولى بين روسيا واليابان، وكانت إنجلترا صديقة لليابان وحليفة لها، ويهمها بطبيعة الحال ألا تخرج الروسيا من هذه الحرب منتصرة، وكان على إنجلترا كما تنص اتفاقية سنة ١٨٨٨ أن توافق على مرور الأسطول الروسي في القناة إلى الشرق الأقصى، وترددت الحكومة الإنجليزية في أول الأمر، ولكنها لم تحاول منعه من المرور، فمر ليلقى حتفه في المياه اليابانية.
وفي المرة الثانية كانت الحرب بين الدولة العثمانية وإيطاليا في سنة ١٩١١، بسبب مسألة طرابلس التي كانت إيطاليا ترمي إلى الاستيلاء عليها، والتي كانت جزءًا من ممتلكات الدولة العثمانية.
وطرابلس مجاورة لمصر من الناحية الغربية، ومصر من ناحية القانون الدولي لا زالت تحت السيادة العثمانية، ويحق لإيطاليا أن تهاجمها وتعتدي على قناة السويس ما دامت في حالة حرب مع الدولة العثمانية، كما هاجمت جزر الدوديكانيز التابعة للدولة العثمانية أيضًا.
كان من الممكن حدوث هذا، لو لم تقف إنجلترا في مصر موقف الحياد التام بين المتحاربين، والواقع أن إنجلترا كانت قد وافقت منذ صيف سنة ١٨٧٨ على ألا تثير معارضة إذا ذهب الإيطاليون إلى طرابلس، قبلت إنجلترا هذه الفكرة حين قررت احتلال قبرص، ولذلك طلبت إنجلترا من الحكومة المصرية ألا تساعد فريقًا من المتحاربين على الفريق الآخر، بالرغم من أن الرأي العام المصري كان يود لو استطاع مساعدة الطرابلسيين في محنتهم الشديدة، وفعلًا تم لإنجلترا ما أرادت، ولذا حين طلبت الحكومة العثمانية — بعد أن فرض الإيطاليون بالقوة الحصار البحري عليها — مرور الجنود العثمانية في مصر، لم توافق إنجلترا، وكذلك لما طلبت الحكومة العثمانية من حكومة مصر إرسال فرقة من جيشها لمساعدة الأتراك في طرابلس، احتج المعتمد البريطاني هربرت كتشنر على ذلك، وبيَّن أنه إذا أرسلت مصر جزءًا من جيشها إلى طرابلس، فستجد إنجلترا نفسها حينئذٍ مضطرة إلى زيادة عدد جنودها في مصر، الأمر الذي لا تقبله تركيا راضية، وذكَّر كتشنر الدولة العثمانية أنها كانت لا توافق أبدًا على تعزيز إنجلترا لجيوشها في مصر.
وعلى ذلك مرت الحرب الطرابلسية دون أن تقوم إيطاليا باعتداء على مصر أو القناة.
وقبل قيام الحرب الطرابلسية أثارت شركة قاة السويس في سنة ١٩٠٩ موضوع مد الامتياز الممنوح لشركة القناة، ورأت الحكومة البريطانية من جانبها ألا تتدخل في هذا الموضوع، ولذا حين أثيرت هذه المسألة في البرلمان الإنجليزي في نوفمبر سنة ١٩٠٩ لم يرد جراي وزير الخارجية البريطانية أن يدلي برأي في الموضوع، واقتصر على أن قال: إن الأمر معروض على مصر لإبداء رأيها فيه. ولكن يظهر أن المعتمد البريطاني في مصر سير إلدن جورست كان أكثر حماسة من حكومته لمد الامتياز، فلقد اعتقد أن مد الامتياز يهم حاضر المصريين ومستقبلهم، ولكن حكومته لم تشجعه على تأييد ذلك المشروع تأييدًا عمليًّا، وعرض المشروع على مصر في ٩ فبراير سنة ١٩١٠ فرفضته.
فلم تتخذ الحكومة البريطانية موقفًا معينًا، بل بالعكس فإنها لم تحزن لرفض مصر له، إذ لمَّا أثير ذلك الموضوع في مجلس العموم البريطاني، ذكر بعض النواب الإنجليز أن مستقبل القناة يهم إنجلترا كما يهم مصر، وسأل بعض النواب الآخرين عن التدابير التي اتخذتها الحكومة البريطانية لحماية مصالح البريطانيين المالية والتجارية في قناة السويس بعد أن رفضت مصر مشروع المد، أجاب لورد جراي بأن هذا أمر يتعلق بالحكومة المصرية وبشركة القناة، وأن بريطانيا لا يجب أن تؤيد المد قبل أن تستشير مصالحها الخاصة، فيجب أن تعرف أولًا رأي الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة، وتعرف رأي الخزانة البريطانية ورأي وزارة التجارة.
ويظهر أن أصحاب السفن في بريطانيا لم يكونوا يهتمون كثيرًا بمسألة مد الامتياز الممنوح لشركة القناة، وكذلك الحكومة البريطانية، وحين قامت الحرب الكبري الأولى، وانضمت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا والدول الوسطى الأوربية، أعلنت الحكومة البريطانية في أواخر سنة ١٩١٤ زوال السيادة التركية وقيام الحماية البريطانية، وأصبح بذلك إشرافها تامًّا على القناة بالرغم من أن هذا الإعلان جاء من جانب واحد لم توافق عليه بطبيعة الحال تركيا ولا أصدقاؤها، ولا مصر.
وراعت إنجلترا مصالح البريطانيين، هم وحلفاؤهم قبل كل شيء، ولم يعد لمعاهدة سنة ١٨٨٨ خلال أزمة الحرب الكبرى الأولى وجود حقيقي، فلم ينفذ من قراراتها إلا ما كان في صالح الحلفاء، فلم تراع إنجلترا فيها حرية المرور، وقبضت على السفن المعادية في مياهها بحجة أن هذه السفن تنوي القيام بأعمال عدوانية في القناة أو تعمل على عرقلة حرية الملاحة فيها.
وقررت الحكومة البريطانية كذلك اتخاذ القناة خط دفاع من الناحية الشرقية، فتحولت بذلك القناة إلى منطقة عسكرية وموضع عمليات حربية، ومنع مرور السفن المعادية فيها، ووضع نظام خاص للقناة يكفل مصالح الحلفاء، قسمت القناة إلى ثلاثة أجزاء لتنظيم الدفاع عنها، وجعل مركز القوات المدافعة في الإسماعيلية، ووضعت في القناة سفن حربية بريطانية وفرنسية لتساهم في الدفاع، ووضعت شركة القناة ما لديها من سفن ومعدات وأدوات ومهندسين وعمال في خدمة الدفاع، وعاونت الحكومة المصرية بكل ما تستطيع من قوة وموارد، وقامت باتخاذ الاحتياطات لمنع أي تلف يلحق بالقناة، وقامت قوات الهجانة بحراسة شواطئ القناة.
ولقد قام الأتراك والألمان بقيادة جمال باشا بمهاجمة القناة، ونشبت بالفعل معارك بينهم وبين الإنجليز والفرنسيين انتهت بانهزام الأتراك وانسحابهم من منطقة القناة، وكان يظن أن الأتراك سيعودون إلى الهجوم على القناة، إذا خف الضغط عليهم، بعد أن فشل الحلفاء فشلًا تامًّا في الاستيلاء على الدردنيل، على أن الأتراك لم يقوموا بذلك الهجوم، ومع ذلك ظلت القناة مركز العمليات الحربية في شرقي مصر، وظلت كذلك إلى أن عيِّن الجنرال أللنبي في يونيو سنة ١٩١٧ وتقدم الإنجليز إلى العريش وقاموا هم بالهجوم، وطهروا شبه جزيرة سينا، فحينئذٍ انتهى الخطر التركي على القناة.
وحين انتهت الحرب نصت مادة ١٥٢ في معاهدة فرساي على تحويل سلطة الأتراك في حماية القناة إلى إنجلترا، وأكدت نصوص معاهدة سنة ١٨٨٨، وعادت إلى السريان من جديد.
خرجت بريطانيا من هذه الحرب قوية المركز مهيبة الجانب في الشرق الأدنى جميعه، فلقد سيطرت على كل المناطق المشرفة على القناة والمحيطة بها، واعترفت بحمايتها على مصر الدول المنتصرة والدول المنهزمة على السواء، وانتدبت لفلسطين، وشرق الأردن.
وفي تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢ أعلنت إنجلترا من جانبها انتهاء الحماية البريطانية على مصر، واعترفت باستقلال مصر مقيدًا بالتحفظات الأربعة، ويهمنا في هذا المكان التحفظ الخاص بالمواصلات البريطانية، وكانت الحكومة الإنجليزية على اختلاف ألوانها ترى أن القناة هي الحلقة المهمة في هذه المواصلات الإمبراطورية، فكأن إنجلترا في هذا التحفظ قد احتفظت لنفسها بحق حماية قناة السويس وحرية المرور فيها، والدفاع عنها، إذا قام عليها اعتداء من أية ناحية، على أنه يجب ألا ننسى هنا أن إنجلترا كانت تربط مسألة القناة دائمًا بمسألة مصر، ففي ذلك الوقت كانت إنجلترا تعتقد أن مصر كلها بما فيها قناة السويس حلقة في خطوط المواصلات الإمبراطورية يجب على إنجلترا حمايتها والدفاع عنها ضد كل اعتداء، ولذلك احتفظت لنفسها بحق الدفاع عن مصر.
وعلى هذا الأساس بررت إنجلترا بقاء الاحتلال في كل جهات مصر التي تراها لازمة للدفاع ولحماية المواصلات البريطانية بين الشرق والغرب.
ولذا كان تاريخ مصر السياسي من بعد سنة ١٩٢٢ هو تاريخ جهاد مصر للتخلص من القيود التي فرضها تصريح ٢٨ فبراير، الواحد تلو الآخر.
فمصر ظلت متمسكة بفكرتها ومطلبها العادل، وهو وجوب جلاء الإنجليز عن كل أراضي مصر. وإنجلترا من ناحيتها متمسكة بما تراه حقوقًا لها، ومنها الحق الذي تدعيه لنفسها من ضمان حرية مرور سفنها التجارية والحربية في كل أوقات السلم والحرب لحماية مصالحها في الشرقين الأوسط والأقصى، ولم تكن على استعداد لتترك حراسة هذه الطريق التي تعتبرها حيوية لها لغيرها.
وظل تصريح ٢٨ فبراير مدة هو الذي يحدد علاقات بريطانيا بمصر بالرغم من أن الجانب المصري لم يعترف به، وجرت مفاوضات في العهود المختلفة للوصول إلى حل للمسألة المصرية يرضي الطرفين.
وكانت أهم هذه المحادثات أو المفاوضات ما قامت بين سعد زغلول باشا ومستر رمزي مكدونالد، فاقترح الجانب المصري فيما يختص بالموضوع الذي نبحثه أن تتنازل إنجلترا عن حماية قناة السويس لعصبة الأمم، وأعلن رئيس الوزارة البريطانية أنه لا يستطيع قبول هذه الفكرة، وأكد أهمية قناة السويس للمواصلات البريطانية الإمبراطورية، وذكر أنه لا تستطيع حكومةٌ بريطانيةٌ إعطاء هذا الحق لغيرها حتى ولو كان حليفًا لها، ويظهر أن إنجلترا وإن كانت قد اشتركت في بناء نظام عصبة الأمم إلا أنها لم تكن تؤمن تمامًا بقدرتها على حماية مصالحها.
وفي المفاوضات التي جرت بين سير أوستن تشمبرلن وزير الخارجية البريطانية وثروت باشا رئيس مجلس الوزراء في سنة ١٩٢٧ وانتهت إلى وضع مشروع معاهدة، لم تذكر مسألة القناة كمسألة منفصلة عن المسألة المصرية، وإنما ذكرت خطوط المواصلات البريطانية كأنها تشمل الأراضي المصرية جميعًا، فيذكر ذلك المشروع: «يسمح جلالة ملك مصر لجلالة ملك بريطانيا ضمانًا لحماية خطوط المواصلات الإمبراطورية البريطانية، وانتظارًا لعقد اتفاقية في تاريخ قريب، بأن تكون له القوات اللازمة لذلك الغرض، ووجود هذه القوات ليس معناه احتلالًا ولا يمس حقوق سيادة مصر، وبعد مرور عشر سنوات ينظر الطرفان المتعاقدان في ضوء تجاربهما مسألة الأماكن التي توضع فيها هذه القوات، فإذا لم يصلا إلى اتفاق يعرض الأمر على عصبة الأمم، فإن حكم مجلس عصبة الأمم في غير صالح مصر، يعاد النظر فيه بناءً على طلب الحكومة المصرية بعد انقضاء خمس سنوات من قرار العصبة.»
وفي الملحقات المتصلة بذلك المشروع تحرم الحكومة المصرية الطيران الأجنبي على منطقة القناة، ولا ينطبق هذا التحريم بطبيعة الحال على بريطانيا.
ورجع ثروت باشا إلى مصر ومعه الحد الأقصى لما تستطيع الحكومة البريطانية أن توافق عليه، فرفضت مصر ذلك المشروع.
وحين ذهب محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء إلى لندن في سنة ١٩٢٩ لغرض تعديل نظام الامتيازات ولقبول مصر في عصبة الأمم، قامت محادثات بينه وبين الإنجليز تطورت إلى مفاوضات، ولم يتردد رئيس الوزارة المصرية في انتهاز هذه الفرصة لوضع أساس لتسوية بين إنجلترا ومصر، وبدأت المناقشة بينه وبين وزير الخارجية البريطانية في ذلك الوقت مستر آرثر هندرسون في المسائل الحربية التي فشل من أجلها مشروع سنة ١٩٢٧.
ووضع لذلك نص يختص بمنطقة القناة وهو: «يسمح صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة ملك بريطانيا تسهيلًا وضمانًا لحماية خطوط مواصلات الإمبراطورية البريطانية بأن يضع في المنطقة شرقي التل الكبير القوات اللازمة لهذا الغرض.» وهذا تقدم على مادة ٧ من مشروع ثروت باشا أوستن تشمبرلن نوفمبر ١٩٢٧، فلقد ترك ذلك المشروع لبريطانيا حق وضع قواتها في القاهرة أو الإسكندرية أو أي مكان تختاره، وذلك في السنوات العشر الأولى التالية لتنفيذ المعاهدة، وبعد مرور العشر سنوات يثار موضوع تحديد أمكنة القوات البريطانية ويعرض الأمر على عصبة الأمم إذا لم يستطع الطرفان الوصول إلى اتفاق.
ولذا ففكرة هندرسون — في مشروع معاهدة هندرسون-محمد محمود باشا — هي تحديد أمكنة القوات البريطانية بمنطقة قريبة من القناة، وبعيدة في نفس الوقت عن القاهرة والإسكندرية؛ أي بعيدة عن أنظار الشعب المصري، وبذلك انتهت الفكرة القديمة التي تمسكت بها بريطانيا مدة بأن مصر كلها حلقة في سلسلة المواصلات البريطانية إلى الهند والشرق الأقصى.
وأكدت الفكرة الجديدة التي تقول بأن الغرض من بقاء القوات البريطانية في مصر إنما هو حماية قناة السويس، كما حددت أماكن هذه القوات لا كما تختار الحكومة البريطانية، ولكن في أماكن خاصة تتفق عليها الدولتان.
ولذلك نص في مشروع هذه المعاهدة على ما يأتي: «لضمان حماية قناة السويس كوسيلة أساسية للمواصلات بين أجزاء الإمبراطورية البريطانية، يسمح جلالة ملك مصر لجلالة ملك إنجلترا بأن يضع في الأراضي المصرية في جهات اتفق عليها إلى شرقي خط ٣٢ شرقًا القوات التي يراها جلالة ملك بريطانيا لازمة لهذا الغرض، ووجود هذه القوات لا يعني احتلالًا ولا يمس حقوق مصر في السيادة.»
ففي هذا المشروع — مشروع ١٣ أغسطس سنة ١٩٢٩ — أكدت إنجلترا رسميًّا أهمية قناة السويس لمواصلاتها الإمبراطورية، وأعطت لنفسها حق الدفاع عنها، ولذا قررت أن تعسكر جنودها في منطقتها، ولقد أعلن مستر هندرسون في خطاب له في البرلمان الإنجليزي في ٢٣ ديسمبر ١٩٢٩ أن هذه المفاوضات هي امتداد لمفاوضات سنة ١٩٢٧، واشترط مستر هندرسون أن يعرض ذلك المشروع على الشعب المصري، ووافق محمد محمود باشا على ذلك.
ثم جاءت وزارة الوفد إلى الحكم في أول يناير سنة ١٩٣٠، لتستمر في المفاوضات مع وزارة العمال، ووصل النحاس باشا رئيس مجلس الوزراء، ومعه وزير خارجيته واصف غالي باشا إلى لندن في ٢٦ مارس سنة ١٩٣٠ في جو صفاء وود بين الحكومتين المصرية والبريطانية، وبدأت المفاوضات في ٣١ مارس.
وتناقش الطرفان طويلًا في مسألة الدفاع عن قناة السويس، واقترح الجانب المصري وضع كل القوات البريطانية على الحافة الشرقية للقناة في بور فؤاد أو القنطرة، ولم يقبل المفاوضون الإنجليز وعلى رأسهم هندرسون ذلك الاقتراح.
ثم وافق الجانب المصري على تركيز القوات الإنجليزية بقرب الإسماعيلية، وتقصير أجل بقائها هناك من خمسة وعشرين عامًا إلى عشرين عامًا، ولقد استمرت المفاوضات إلى ٥ مايو، وكاد يصل الطرفان إلى مشروع اتفاق ومعه ملحقات، ولكن هذا المشروع فشل نهائيًّا بسبب الاختلاف على مسألة السودان.
اشترط مشروع هذه الاتفاقية إنشاء تحالف بين الطرفين تأكيدًا لصداقتهما وتفاهمهما الودي وعلاقتهما الطيبة، وفيما يختص بموضوع القناة نصت المادة التاسعة من هذا المشروع على ما يلي: نظرًا لأن قناة السويس التي هي جزء لا يتجزأ من مصر، هي طريق عالمية، ووسيلة مهمة للمواصلات بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية، فإلي الوقت الذي يتفق فيه الطرفان المتعاقدان على أن الجيش المصري أصبح في مركز يستطيع فيه بموارده حماية حرية وسلامة الملاحة في القناة، فإن جلالة ملك مصر يسمح لجلالة ملك بريطانيا بأن يضع قريبًا من الإسماعيلية في المنطقة المحددة بالمذكرة الملحقة قوات لا يزيد عددها عن العدد المتفق عليه، وهدفها هو التعاون مع القوات المصرية في حماية القناة، ولنفس الغرض ينقل مركز القوات الجوية الملكية البريطانية من أبو قير إلى بور فؤاد، ووجود هذه القوات لا يعني احتلالًا ولا يمس حقوق مصر في السيادة.
ومن المفهوم أنه في نهاية مدة العشرين سنة المبينة في مادة ١٤، إذا حدث خلاف بين الطرفين المتعاقدين على مسألة عدم لزوم بقاء القوات البريطانية؛ لأن الجيش المصري أصبح في حالة تمكنه بموارده من حماية حرية الملاحة في القناة، فيعرض هذا الخلاف على عصبة الأمم.
ومع ذلك فبعد انتهاء عشر سنوات من تنفيذ المعاهدة يصح أن تبدأ بموافقتهما المفاوضات لإجراء أي تعديل في المعاهدة.
يلاحظ في هذا المشروع أن إنجلترا اعترفت لأول مرة رسميًّا بأن القناة جزء لا يتجزأ من مصر، واعترفت بأنها طريق عالمية، وأنها وسيلة مهمة للمواصلات البريطانية بين أجزاء الإمبراطورية، كما اعترفت بأن الجيش المصري له الحق الأول في الدفاع عن القناة، ولكن نظرًا لحالته الراهنة فتتعاون معه القوات الريطانية، وحددت أماكنها في الإسماعيلية، وهذا بلا شك تقدم على مشروع سنة ١٩٢٨ من هذه الناحية.
ولقد انقطعت المفاوضات بين وزارة العمال ووزارة الوفد في ٥ مايو، وظلت العلاقة بين الدولتين علاقة الضعيف بالقوي، وكانت الحكومة البريطانية مستعدة لأن تعيد الكرة في استعمال القوة كلما تحدى المصريون السياسة البريطانية، وكان وجود جيش الاحتلال رمزًا لاستذلال المصريين وقمعهم، فكانت العلاقات بين الفريقين بصفة عامة علاقة عداء والجو بينهما مسمومًا.
استخدمت بريطانيا القوة في مارس سنة ١٩١٩ لقمع الثورة، ولجأت إلى استخدام القوة والتهديد عقب مقتل السير لي ستاك في ١٩٢٤، فأرسلت إلى مصر بقوات برية وبحرية جديدة وفرضت شروطًا عنيفة، وفي ٣٠ مايو سنة ١٩٢٧ أرسلت من مالطة إلى مصر ثلاث بوارج حربية لتأييد رأي إنجلترا في مسائل خاصة بتنظيم الجيش المصري، وبعد ذلك بسنة تقريبًا ضغطت إنجلترا على حكومة القاهرة، وجاءت خمس سفن حربية بريطانية في ٣٠ أبريل سنة ١٩٢٨ لتأييد الإنذار النهائي للحكومة البريطانية، ولما قامت بعض الاضطرابات في يوليه سنة ١٩٣٠ أرسلت إنجلترا سفنًا حربية إلى الإسكندرية وبورسعيد والسويس، ثم جاءت سنة ١٩٣٥ وأذن الله لذلك الجو أن يتغير.