موقف إنجلترا إزاء القناة من بعد ١٩٣٥
تغير الجو السياسي الذي اعتادته إنجلترا طوال الخمسة عشر عامًا التي تلت الحرب الكبرى الأولى.
فالظروف الدولية لم تعد مواتية لإنجلترا كما كانت في القديم، وهُددت إنجلترا في قوتها البحرية وفي مركزها في البحر الأبيض المتوسط، فظهرت قوة إيطاليا الموسولينية جارفة، وأيدتها ألمانيا الهتلرية، وقبعت الروسيا في دورها تنظم شئونها الداخلية وتنتظر الفرصة لتنال من الرأسمالية الأوربية.
وأخذت النظم الدولية التي كانت إنجلترا قد ركنت إليها بعض الشيء في الانهيار، فعصبة الأمم لم يعد لها احترام كبير بعد أن نفضت الولايات المتحدة الأمريكية يديها منها ومن الأمور الأوربية، ونمت قوة اليابان في شرقي آسيا، وهددت تفوق إنجلترا ونفوذها في الصين وفي جنوب شرقي آسيا، وأصبحت الهند في ثورة دائمة على الحكم البريطاني مطالبة بالاستقلال، ونادت الشعوب المهضومة بحقها في تقرير مصيرها وثابرت في كفاحها، فانتهى عهد التهديد باستخدام القوة بالنسبة لإنجلترا، ووجدت أن مصلحتها تقتضي النظر إلى مصالح الشعوب بجانب الاهتمام بالمصالح الإنجليزية، وكانت إنجلترا قبل ذلك تنظر إلى مصالحها وحدها وتضعها فوق كل اعتبار.
وأهم العوامل التي كان لها الأثر الأكبر في توجيه سياسة إنجلترا نحو مصر موقف إيطاليا الفاشستية من أثيوبيا، فتبينت كل من إنجلترا ومصر ضرورة الوصول إلى تسوية الأمور المتنازع عليها بينهما ووضع علاقتهما على أساس جديد.
أما من حيث مصر فلقد تركت الأزمة الحبشية فيها أثرًا بليغًا، فلقد كانت ميول مصر وعواطفها إلى جانب الأحباش الذين كانوا يناضلون عن حريتهم، وكان على مصر أن تقرر موقفها في هذا النزاع المحتوم بين جارتيها، فإيطاليا جارة لمصر من الناحية الغربية، والحبشة جارتها من ناحية السودان، والطريق التي تصل بين الجارتين تمر في أراضي مصر، وهي قناة السويس.
وجدت مصر نفسها في مركز محفوف بالخطر، من ناحية حدودها الغربية ومن ناحية الحدود الجنوبية الشرقية، وزاد الموقف ارتباكًا أن موقف مصر بالنسبة لبريطانيا كان غير واضح وغير محدود.
فالموقف الدولي الجديد، والخطر المحدق بحدود مصر، بعث موضوع العلاقات المصرية البريطانية من جديد، وازداد الخطر على مصر وعلى مركز بريطانيا في الشرق الأدنى، بعد تفكير عصبة الأمم في فرض عقوبات على إيطاليا.
ولم تقف إيطاليا جامدة، ولم تقتصر مساعيها على تنمية نفوذها وقوتها في أثيوبيا، بل طلبت أن يعمل لمركزها في البحر الأبيض ومصر وقناة السويس حساب آخر، فلقد عزرت حامياتها في ليبيا، ووصل الأسطول الإيطالي في القوة إلى مركزٍ مساوٍ للأسطول البريطاني في البحر الأبيض المتوسط، إذ وصلت حمولته إلى ٣٥٪ من مجموع حمولة الأسطول البريطاني كله، وكان الأسطول الإيطالي أحدث في نشأته، تعزره قوة جوية تجعل مركز الأسطول البريطاني وقواعده في مالطة والإسكندرية والقناة في خطر شديد، إذا قامت حرب بين بريطانيا، وكانت هذه الحرب محتملة الوقوع، لا سيما وأن إنجلترا لم تكن واثقة تمامًا من تأييد فرنسا البحري لها إذا تحرجت الأمور بينها وبين إيطاليا، وتخشى في نفس الوقت أن تنتهز اليابان هذه الفرصة لتسطو على ممتلكات إنجلترا في الشرق الأقصى، وتقضي على ما لإنجلترا من نفوذ في هذا الجزء من العالم.
ولقد كان اتجاه الرأي العام المصري مساعدًا للحكومة المصرية في مسايرتها لسياسة إنجلترا بإزاء إيطاليا، فلقد كانت مصر الدولة الوحيدة خارج عصبة الأمم التي عملت على تنفيذ العقوبات التي فرضتها عصبة الأمم على إيطاليا، وكان احتجاج إيطاليا الشديد على تنفيذ مصر لهذه العقوبات، من العوامل التي عادت فأشعرت مصر بالخطر الإيطالي الداهم، لا سيما وأنه اقترح في بعض الأوساط السياسية أن يكون ضمن العقوبات إغلاق السويس في وجه السفن والمعدات الإيطالية.
وكان الإيطاليون مستعدين لاعتداء جديد إذا تحدت دولة مركزهم الجديد في شرق إفريقية، ورأى المصريون أنه أفضل لهم أن يصلوا إلى اتفاق مع إنجلترا، هذا خير لهم من الوقوع فريسة لغزو إيطالي محتمل الوقوع.
وشعرت إنجلترا من ناحيتها، بالرغم من وجود قوات الاحتلال، بضعف مركزها في مصر، فمركزها كان قائمًا على القوة والتهديد باستخدام القوة، هذا في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا — برلمانها وصحفها، وحكومتها في الظاهر — تعيب على إيطاليا الالتجاء إلى القوة كوسيلة لفض منازعاتها مع الشعوب الأخرى ولقمع حرياتها.
وكانت الدعاية الإيطالية ضد إنجلترا قائمة على قدم وساق تحض مصر على التقرب من إيطاليا، وتندد بسياسة إنجلترا الإمبراطورية في مصر، وتطالب بنصيب في إدارة شركة قناة السويس، وظنت إيطاليا أن مطلبها الأخير ليس فيه إساءة للمصريين وإنما فيه كيد لفرنسا التي كان لها نصيب الأسد في إدارة القناة، فكانت إيطاليا تخشى دائمًا أن تغلق القناة في وجه سفنها وفي طريق مواصلاتها الإمبراطورية، وكما طالبت إيطاليا بنصيب في إدارة القناة طالبت بتخفيض الرسوم التي تفرضها الشركة على حركة المرور في القناة.
فالأزمة البريطانية الإيطالية في خريف سنة ١٩٣٥ وجدت إنجلترا لا تزال لها الحرية المطلقة في استخدام الموانئ والأراضي المصرية بما فيها القناة بحريًّا وبريًّا وجويًّا، ولقد أثار تركيز القوات البريطانية في مصر لدى المصريين الفكرة القائلة بأن إنجلترا قد حولت مصر إلى معسكرٍ معادٍ لإيطاليا، وهذا من شأنه أن يبرر اعتداء الدول المعادية للإنجليز على مصر.
ولذا فالأزمة الإيطالية الحبشية أثارت مسألة إعادة النظر في العلاقات المصرية البريطانية التي ظلت متوترة منذ صيف سنة ١٨٨٢، ووجدت إنجلترا نفسها مضطرة إلى تعزيز قواتها في مصر لمقابلة الخطر الإيطالي.
ولكن الشعب المصري لم يكن يرضى عن ذلك الموقف الجديد، فالسكوت على ذلك قد يؤدي إلى سابقة خطيرة يستند عليها الإنجليز في المستقبل، وقد يؤدي في نفس الوقت إلى اعتداء إيطاليا على مصر، ثم فيه ما فيه من استهتار الإنجليز بالشعور الوطني في البلاد، لا سيما بعد أن أعلن مستر رنسيمان في خطاب انتخابي له في ١٨ أكتوبر سنة ١٩٣٥ أن إنجلترا قد جعلت قاعدتها البحرية المهمة في الإسكندرية بدلًا من مالطة.
ظهرت الحاجة في مصر لتوضيح علاقة البلاد بإنجلترا، ظهر في الخطب التي ألقاها زعماء الأحزاب المختلفة في البلاد أن مركز إنجلترا في مصر سيجلب على مصر ضررًا وبيلًا، دون أن تستفيد منه البلاد أقل فائدة، وطالب الرأي العام بتكوين جبهة متحدة، واضطرت إنجلترا في الواقع أن تبين سياستها نحو مصر، وفي خطابين ألقاهما سير سميول هور في ٩ نوفمبر، و٥ ديسمبر سنة ١٩٣٥ أعلن فيهما أن إنجلترا لم تسع إلى استغلال الموقف الحاضر لخدمة مصالحها على حساب المصالح المصرية، وأن بريطانيا تعطف على الأماني المصرية.
ولكن الخطابين لم يجدا قبولًا في مصر لموقف الحكومة الإنجليزية بإزاء دستور سنة ١٩٢٣ بأنه غير مناسب، ولإعلان سميول هور بأن الوقت لم يحن بعد للمفاوضات الفعلية لتحديد علاقة إنجلترا بمصر.
فثارت في مصر احتجاجات عنيفة؛ لأن معنى التصريح البريطاني أولًا: أن إنجلترا لا زالت مصرة على التدخل في الأمور الداخلية للبلاد، وثانيًّا: أن مسألة حيوية لمصر، هي مسألة حياة أو موت لها تضعها إنجلترا في المرتبة الثانية بعد العلاقات الإيطالية الإنجليزية، وتذكر المصريون رفض إنجلترا لمناقشة المسألة المصرية مع وفد مصر في سنة ١٩١٩.
ولكن في سنة ١٩١٩ كان مركز إنجلترا أقوى بكثير من مركزها في سنة ١٩٣٥، فلقد خرجت إنجلترا من الحرب العالمية الأولى منتصرة تعنو لها الوجوه، بينما في سنة ١٩٣٥ كانت إنجلترا مهددة بحرب لا تعرف منتهاها.
وعلى أي حال، دعا موقف إنجلترا هذا إلى تآلف الجهود في مصر وتكوين جبهة متحدة، عند ذلك، بينت إنجلترا أنها لا تمانع في رجوع دستور سنة ١٩٢٣، وعاد الدستور، وجاءت حكومة الوفد. وكانت الحكومة المصرية الجديدة تريد أن تقيد بريطانيا بما وصل إليه اتفاق سنة ١٩٣٠، وخاصة الاتفاق على المسائل الحربية، وأن تتركز المفاوضات الجديدة في المسائل التي اختلفت عليها، وهي مسألة السودان.
ولكن مستر إيدن وزير الخارجية البريطانية الجديد عندما وافق على فتح باب المفاوضات، صمم على أن تنظر المسائل الحربية من جديد، هذه المسائل التي كان قد اتفق عليها، فجاء هذا التصميم من الجانب الإنجليزي صدمة جديدة لمصر، ولقد برر الإنجليز ذلك الموقف على أساس أن مشروع سنة ١٩٣٠ لم تصبح له قوة المعاهدة، وأن الموقف الاستراتيجي العالمي في سنة ١٩٣٦ قد تغير كثيرًا عن الموقف في سنة ١٩٣٠، فالإيطاليون يهددون ليبيا والقناة، وعززت قواتهم في غربي مصر في ليبيا، وعلى جانب حدود مصر والسودان من ناحية الحبشة، وهذا الموقف الجديد لم يكن يتكهن به الساسة الإنجليز أو المصريون في سنة ١٩٣٠.
ولكن الصدمة الكبرى كانت عندما قدم سير مايلز لامبسون المعتمد البريطاني في مصر موافقة مستر إيدن على فتح باب المفاوضات، إذ بيَّن المعتمد البريطاني بأنه إذا فشلت المفاوضات هذه المرة، فإن بريطانيا ستعيد النظر في موقفها بإزاء مصر، فكان هذا تهديدًا صريحًا لمصر، وكان المصريون يؤملون قبل وصول ذلك التهديد بأنه إذا فرض ولم تصل المفاوضات إلى نتيجة، فتعود الحالة في مصر إلى ما كانت عليه قبل الدخول في المفاوضات.
وعلى أي حال وافق الطرفان على بدء المفاوضات، وضمت إنجلترا إلى جانب معتمدها في مصر الفنيين من كبار رجال الحرب والبحرية والطيران، وتكوَّن الجانب المصري من زعماء مصر جميعًا.
وبدأت المفاوضات في جو من التشاؤم، ولكنها نجحت، والفضل في ذلك يرجع إلى موسوليني بطريقة غير مباشرة، فلقد زادت مطامع إيطاليا، وزادت مطالبها في البحر الأبيض المتوسط، فأثارت مخاوف المصريين والإنجليز معًا.
وعندما افتتحت المفاوضات بدئ بالأمور الحربية وهي التي تهمنا في هذه الدراسة لاتصالها بمسألة قناة السويس، واصطدمت آراء الفريقين، ولم يستطيعا الاتفاق في أول الأمر، ورأى سير مايلز أن يسافر إلى لندن ليتصل بحكومته، وأنقذت هذه الزيارة الموقف حينذاك، ولقد بينت صحيفة «التيمز» في ١٠ يونيو — بتلخيص: أن السبب في تعثر المفاوضات هو غلو الهيئات العسكرية البريطانية في طلباتها، وأوضحت سخف الفكرة التي تقول بضرورة تنفيذ مطالب إنجلترا كاملة، مائة في المائة، ضد عواطف وشعور شعب ناهض اعترفت إنجلترا ذاتها باستقلاله منذ أربعة عشر عامًا، وأن أية معاهدة أريد نجاحها فيجب أن تعمل هذه المعاهدة على احترام شعور المصريين القومي، ويجب أن تقوم حرية التفاوض لا على قوة الإملاء، وإنما على الثقة المتبادلة بين الجانبين، فلا تكون عن طريق إرغام الجانب الآخر المفاوض على التنازل عن حقوقه، وأن على الحكومة البريطانية ألا تصغي لآراء العسكريين فحسب، ولكنها تشاورهم وتراعي في نفس الوقت أهمية المسائل السياسية بجانب الاعتبارات الحربية.
ولقد أيد هذا المقال وجهة نظر سير مايلز في لندن، وحين عاد بدأت المفاوضات من جديد، وفي ٢٢ يوليه وصل الفريقان إلى اتفاق على المسائل العسكرية.
ويرى الكُتَّاب الإنجليز أن سبب غلو الهيئات العسكرية البريطانية في مطالبها هو تغير وسائل الحرب ومداها، فقاعدة مالطة أصبحت محاطة بقوات إيطاليا في صقلية وليبيا، وكذلك ضَؤُلَ مركز قاعدة عَدَن بجانب إفريقية الشرقية الإيطالية، فكان أن احتج العسكريون الإنجليز على قصر مركز القوات التي كانت مشرفة على كل مصر، على قناة السويس فقط.
فكان إذن على الجانبين المتفاوضين — كما وجدا — الاحتفاظ بقوات الإنجليز في مصر في جهة غير ظاهرة؛ حتى لا يقف وجودها في سبيل نمو علاقات طيبة بين مصر وإنجلترا، واتفق على أن يزاد عدد هذه القوات قليلًا عن مشروع سنة ١٩٣٠، وكان الخبراء العسكريون الإنجليز يريدون أن يزيد عددها كثيرًا. كذلك ووفق على أن تقصر هذه القوات في وقت السلم على قناة السويس فقط، وجعلت مدة بقائها في القناة عشرين عامًا من وقت تنفيذ المعاهدة.
وعند انتهاء هذه المدة تستطيع الحكومة المصرية أن تطلب إعادة النظر في أمر بقاء القوات الإنجليزية في القناة.
ونظير المسائل الثلاث السابقة، وافق الجانب المصري على ثلاث مسائل، وهي أن يكون جو مصر كلها مباحًا للقوات البريطانية الجوية، ويسمح للبحرية البريطانية باستخدام ميناء الإسكندرية لمدة ثماني سنوات من إمضاء المعاهدة، والمسألة الثالثة: السماح للجيش البريطاني في وقت الحرب باستخدام كل أراضي مصر ومياهها ومطاراتها، وسهلت للقوات البريطانية كل وسائل التنقل بين أجزاء مصر، وذلك بأن أخذت الحكومة المصرية على عاتقها إنشاء وإصلاح طرق وسكك حديدية معينة، كذلك أعطيت الحكومة البريطانية الحق في إرسال بعثات من الضباط الإنجليز «في ثياب مدنية» إلى الصحراء الغربية لمسائل تكتيكية.
ولقد وضح مستر إيدن في حديث له في مجلس العموم البريطاني ٢٤ نوفمبر سنة ١٩٣٦ السبب الذي دعا حكومة إنجلترا إلى التنازل عن احتلال القاهرة والإسكندرية والاقتصار على منطقة قناة السويس، هو أن قوات إنجلترا أصبحت ميكانيكية، وبعد إنشاء الطرق المعبدة والسكك الحديدية التي تنص عليها المعاهدة، تستطيع الفرق الإنجليزية الانتقال خلال مصر بسرعة عظيمة وقت الخطر، ثم من ناحية ثانية سمح لقوات إنجلترا الجوية بالطيران في جو مصر جميعه، وقت الحاجة، وأعطيت لقوات مصر الجوية نفس الحقوق في بريطانيا.
ولقد ظنت إنجلترا أن رحيل الجنود الإنجليز من القاهرة والإسكندرية بعد مرور ثماني سنوات إلى منطقة القناة فيه إرضاء لشعور المصريين الذين كانوا يسوءُهم دائمًا أن يروا القوات البريطانية معسكرة في عاصمتهم وفي أكبر ميناء لهم، وخُيِّل لبعض الكُتَّاب الإنجليز أن وجود قوات أجنبية في بلاد دولة أخرى لا يحمل معه فكرة عدم وجود المساواة بين الفريقين، لا سيما بعد اتفاق الطرفين على ذلك.
مادة ٨: بما أن قناة السويس التي هي جزء لا يتجزأ من مصر، هي طريق عالمية للمواصلات، ووسيلة للمواصلات أساسية بين الأجزاء المختلفة للإمبراطورية البريطانية، فإنه إلى حين الوقت الذي يتفق فيه الطرفان المتعاقدان الساميان على أن الجيش المصري أصبح في موقف يستطيع فيه بموارده حماية القناة، وحرية الملاحة فيها، يخول صاحب الجلالة ملك مصر لصاحب الجلالة ملك إنجلترا وضع قواته في الأراضي المصرية في منطقة القناة، في المنطقة التي يحددها الملحق لهذه المعاهدة، وذلك لضمان التعاون مع القوات المصرية في الدفاع عن القناة، ووجود هذه القوات لا يكون له معنى الاحتلال ولا المساس بحقوق السيادة في مصر.
ومن المفهوم أنه في نهاية العشرين سنة المذكورة في مادة ١٦ إذا لم يتفق الطرفان المتعاقدان الساميان على أن وجود القوات البريطانية أصبح غير ضروري، نظرًا لأن الجيش المصري أصبح قادرًا بموارده على حماية القناة وسلامة الملاحة فيها، فإن هذا النزاع يعرض على مجلس عصبة الأمم ليحكم فيه على أساس مواد ميثاق العصبة المعمول به في ذلك الوقت الذي أمضيت فيه هذه المعاهدة، أو على شخص أو هيئة ليحكم فيه بالطريق التي يرتضيها الطرفان المتعاقدان الساميان.
وملحق مادة ٨ حدد عدد القوات البريطانية المسلحة البرية بعشرة آلاف جندي، والجوية بأربعمائة. وهذه الأعداد لا يدخل فيها المدنيون والكُتَّاب والصُّنَّاع والعمال.
وحددت الأماكن التي توضع فيها القوات البرية والجوية وما يلزمها من ثكنات وتسهيلات الإقامة، وتقوم الحكومة المصرية بإنشاء الثكنات وتسهيلات الإقامة على حسابها الخاص، كما تقوم بإنشاء وصيانة الطرق من الإسماعيلية إلى الإسكندرية، ومن الإسماعيلية إلى القاهرة، ومن بورسعيد إلى الإسماعيلية إلى السويس، ومن البحيرة المُرَّة إلى طريق السويس القاهرة، ووضعت مقايسات خاصة لهذه الطرق وشروط لتعبيدها، كما وافقت الحكومة على تسهيل النقل بالسكة الحديدية لمقابلة الظروف الجديدة وحاجات جيش حديث، كما وافقت على عمل تسهيلات في بورسعيد والسويس للمواد والعتاد الحربي اللازم للقوات البريطانية.
وأما المادة ١٦ فتنص على ما يأتي: «وفي أي وقت بعد انتهاء عشرين سنة على تنفيذ هذه المعاهدة، يدخل الطرفان الساميان المتعاقدان، بناءً على طلب أحدهما، في مفاوضات لإعادة النظر في شروط الاتفاق، وفي حالة عدم استطاعتهما الوصول إلى اتفاق، يعرض الخلاف على مجلس عصبة الأمم للقرار فيه، طبقًا لأحكام الميثاق الموجودة وقت إمضاء هذه المعاهدة أو إلى شخص أو هيئة يرتضيها الطرفان، ومن المفهوم أن أي تعديل لهذه المعاهدة يجب أن ينص على استمرار التحالف بين الطرفين الساميين المتعاقدين.
ويجوز للطرفين بالاتفاق بينهما، الدخول في مفاوضات عقب انتهاء عشر سنوات من هذه المعاهدة للنظر في تعديلها.»
وأمضيت المعاهدة في ٢٦ أغسطس ١٩٣٦ في دار وزارة الخارجية بلندن.
أمضى هذه المعاهدة من الجانب المصري: مصطفى النحاس باشا، أحمد ماهر باشا، محمد محمود باشا، إسماعيل صدقي باشا، عبد الفتاح يحيى باشا، واصف غالي باشا، عثمان محرم باشا، النقراشي باشا، حمدي سيف النصر باشا، حلمي عيسى باشا، حافظ عفيفي باشا.
ومن الجانب الإنجليزي أنتوني إيدن، رمزي مكدونالد، جون سيمون، هاليفاكس، ميلز لامبسون.
وقبل إمضاء هذه المعاهدة، كانت إيطاليا قد طالبت بمطالب في القناة، سبق أن ذكرت، وهي: أن تمثل إيطاليا في شركة القناة، وأن تخفض الرسوم، وأن تؤكد دولية القناة، ولقد دخلت إنجلترا وإيطاليا في مفاوضات لتسوية المسائل المعلقة بينهما والخاصة بالقناة، ووصل الفريقان إلى اتفاق في أبريل سنة ١٩٣٨، سجل فيه احترام الطرفين لمعاهدة سنة ١٨٨٨، واعترفت الحكومة المصرية بهذه الاتفاقية بين الدولتين؛ لأن هذه الاتفاقية تقوي مركز الدولة المصرية في القناة.
وحين قامت الحرب الكبرى العالمية الثانية، اصطلت قناة السويس بنارها، فبالرغم من أن البحر الأبيض المتوسط قد أغلق إلى حد كبير أمام الملاحة بين الشرق والغرب، وخاصةً بعد استيلاء الألمان على بلاد اليونان وكريت وإمطارهم مالطة نارًا حامية، إلا أن القناة رأت جانبًا لا يستهان به من نشاط الألمان وحلفائهم، فهاجمها الألمان بطائراتهم، وحاولوا إتلافها وتعطيل الملاحة فيها، ولكنها لم تتعرض لغزو بري أو بحري كما تعرضت أجزاء مصر الغربية.
وعلى العموم فلقد انتهزت مصر هذه الفرصة لإثبات حقوقها عمليًّا في القناة، فقامت بحماية القناة، والدفاع عنها من الناحية الجوية، ولكن إنجلترا استفادت استفادة تامة هي وحلفاؤها بطبيعة الحال من معاهدة سنة ١٩٣٦، وخاصة بعد أن اعتُدِيَ جويًّا على القناة، فأغلقت القناة أمام سفن الأعداء، وحين سقطت باريس في يد الألمان أشرف الإنجليز على إدارة القناة.
•••
وبعد انتهاء الحرب وجدت الحكومة المصرية أن المعاهدة استنفذت أغراضها، وأنها أصبحت حجر عثرة في سبيل السلام العالمي، فميثاق الأمم المتحدة فيه ضمان لحقوق الشعوب المحبة للسلام، وإن وجود القوات البريطانية في منطقة القناة أصبح لا مبرر له، فمصر هي التي دافعت عن القناة من الناحية الجوية إبان حرب سنة ١٩٣٩، وكذلك أخذ الجيش المصري في النمو والقوة والتسلح، وقطع في سبيل ذلك شوطًا بعيدًا، وإن وجود قوات أجنبية في بلاد دولة صديقة بغير رضاها أصبح لا يتفق أبدًا والمواثيق التي أعلنها الحلفاء في أكثر من موقف.
لقد اعترفت الحكومة البريطانية نفسها بضرورة تحديد العلاقات بين الدولتين من جديد وفقًا للظروف العالمية التي جدت بعد الحرب، وخاصةً بعد أن اعترفت الحكومة البريطانية نفسها بأن مصر أبلت في هذه الحرب ضد أعداء إنجلترا بلاءً حسنًا، إذ تعرضت أراضيها للغزو ووضعت جميع مرافقها ومواصلاتها وموانيها لخدمة الحلفاء.
قبلت الحكومة البريطانية بالفعل مبدأ الجلاء عن مصر وقناة السويس، على أساس وضع العلاقات بين البلدين على أساس مطمئن للجانبين في وقت السلم وحين نشوب الحرب أو التهديد بها، وظهرت فكرة الدفاع المشترك.
وفي مشروع صدقي باشا ومستر أرنست بيفن وافقت بريطانيا على أن يتم الجلاء عن القاهرة والإسكندرية في سنة ١٩٤٧، وعن قناة السويس في سنة ١٩٤٩، ولقد قسمت الحكومة البريطانية مشروع الاتفاق إلى أجزاء: الجزء الأول خاص بمعاهدة جديدة، والثاني خاص بالجلاء، والثالث بالسودان، ونبه مستر بيفن إلى أنه يصح التصديق على الجزأين الأولين في حالة حدوث خلاف على الجزء الثالث، وعندئذٍ يترك هذا الجزء للوصول إلى تسوية له فيما بعد عن طريق المفاوضات أيضًا، ولكن العقبة الكأداء في نجاح المشروع لم تكن مسألة السودان فحسب، بل أيضًا مسألة الدفاع المشترك أو التعاون المتبادل.
لقد وجدت مصر في ذلك الدفاع المشترك بالشكل الذي رسمته بريطانيا ارتباطًا لا تجني منه مصر سوى الغرم، ويقيدها بقيود تضيق من حريتها، لقد بنت مصر آمالًا كبيرة على وزارة العمال، وظنت أن بلاءها في الحرب العالمية الماضية، وما تفوه به ساسة إنجلترا وزعماؤها إبان الحرب من ضرورة احترام حقوق الشعوب في الحياة والكرامة والاستقلال، وما نعَوْه على الألمان من احتلال لبلاد الشعوب التي لا تدانيهم في القوة، كل هذا أوجد عند كثير من المصريين بعض الأمل في انتهاء عهد القوة والإرهاب والتهديد، وبزوغ فجر عهد جديد فيه تحترم حقوق الشعوب ومطالبها العادلة، وخاصةً بعد إنشاء نظام هيئة الأمم المتحدة ووضع ميثاق له يتفق وكرامة الأمم.
ولكن هذه الآمال لم تعمر طويلًا بعد الحرب، فلقد أظهرت وزارة العمال، بالرغم من أنها اعترفت بتضحيات مصر الجسيمة وبلائها خلال الحرب الماضية، وبالرغم من أنها وافقت على فتح باب المفاوضات للنظر في تعديل المعاهدة، وبالرغم من أنها أعلنت أنها لا تتمسك باستعمارية القرن التاسع عشر، إلا أنها لم تنحرف عن سياسة إنجلترا الخارجية التقليدية في القرن العشرين فيما يختص بالشرق الأدنى وقناة السويس والبحر المتوسط، وإن كانت تجارب الحرب الماضية قد أثبتت بشكل لا يقبل الشك أن قيمة قناة السويس كحلقة مهمة في المواصلات بين الشرق والغرب، وخاصةً بين بريطانيا وإمبراطوريتها الشرقية، تكاد تنعدم إذا كانت الدولة التي تسيطر على وسط البحر المتوسط، في إيطاليا أو تونس، دولة معادية لإنجلترا، لا سيما بعد التطور الهائل الذي شمل وسائل الحرب وخططها، وبعد أن أصبحت القوة البحرية أساسية في الحرب لا تقل أهمية عن القوة البرية أو الجوية، فأهمية قناة السويس قائمة على أن البحر المتوسط مفتوح للمواصلات العالمية، فإذا استطاعت دولة أو دول تطل على البحر المتوسط معادية لإنجلترا إغلاقه، تضاءلت قيمة قناة السويس، وتضاءلت الحركة خلالها، ومع ذلك فأية قوة جوية معادية من قاعدة قريبة تستطيع تعطيل حركة المرور في القناة وعرقلة الملاحة فيها.
فهمت حكومة العمال في أول الأمر هذه الحقيقة، فهي إذن لم تتمسك ببقاء جنود الاحتلال في قناة السويس، ولم يكن هناك من داعٍ جوهري بعد أن تضاءلت المصالح والإمبراطورية الإنجليزية الشرقية باستقلال الهند والباكستان ودخولهما ضمن نظام الكومنولث، ولكن أرنست بيفن أراد نظير ذلك أن يربط مصر بتحالف أو تعاون مشترك في وقتي السلم والحرب يخدم سياسة إنجلترا العامة في الشرق الأدنى أو الأوسط — كما أصبح يطلق عليه — فينص مشروع صدقي باشا-مستر بيفن في المادة ٢ على: أن الطرفين المتعاقدين الساميين متفقان على أنه في حالة اعتداء مسلح على مصر أو في حالة دخول المملكة المتحدة في حرب نتيجة لاعتداء مسلح على بلاد جارة — ملاصقة — لمصر، يتخذان متعاونين ومتشاورين الإجراءات التي يريانها لازمة إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير الضرورية لإعادة السلام. وتنص مادة ٣ على أنه: لضمان التعاون المتبادل والمساعدة بين الطرفين المتعاقدين الساميين، ولإيجاد التنسيق في الإجراءات التي تتخذ للدفاع المتبادل، يتفق الطرفان المتعاقدان على إنشاء لجنة للدفاع مشتركة تتكون من الهيئات الحربية للدولتين يساعدها مَن ترى الدولتان تعيينه، واللجنة استشارية، وظيفتها … دراسة مشاكل الدفاع المتبادل للطرفين … في البر والبحر والجو، وخاصةً ما يستلزمه ذلك التعاون والخطوات اللازمة لقوى الطرفين … المسلحة لمقاومة الاعتداء بنجاح.
فكأن إنجلترا في هذا المشروع استعاضت عن احتلال قناة السويس والدفاع عنها برأي جديد هو التعاون المشترك، وهذا — بلا ريب — تطور في وجهة النظر الإنجليزية، وإن كانت هذه الفكرة الجديدة لم تستمر طويلًا، إذ — كما سنجد — عادت بريطانيا في سنة ١٩٥٠ فأعلنت أن سياستها هي تأكيد روابط التحالف بينها وبين مصر كدولتين متساويتين لهما مصالح مشتركة … وأن حكومة المملكة المتحدة تقترح على ذلك سحب كل قواتها البحرية والجوية من الأراضي المصرية، وأن تسوى بالمفاوضات مراحل وتاريخ ذلك الجلاء والتنظيمات التي من شأنها تسهيل التعاون بين الدولتين في حالة الحرب أو التهديد بالحرب.
فكأن الحكومة البريطانية — كما قال رئيس الحكومة المصرية في ليك سكسس — قد جعلت الجلاء عن مصر مشروطًا، وقدمت على هذا الأساس مشروعًا لمعاهدة تحالف ومشروعًا لمعاهدة حربية يشتملان تقريبًا على الشروط الحربية البغيضة التي كانت تنطوي عليها معاهدة سنة ١٩٣٦، وتبع هذا اقتراحات من كل من الجانبين، إلى أن سافر صدقي باشا إلى لندن ليتصل بمستر بيفن وزير الخارجية البريطانية، ووصل الطرفان إلى مشروع لاتفاق، ظهر فيه فيما بعد اختلاف وجهات النظر، وذلك بعد أن رجع صدقي باشا إلى مصر.
ولم يستطع الطرفان — المصري والإنجليزي كما نص خطاب رئيس الحكومة المصرية — الوصول إلى نتيجة حاسمة فيما اختلفا عليه؛ ولذا لم يبقَ أمام مصر إلا أن تتقدم لمجلس الأمن، تؤكد قيمة القناة الاستراتيجية وأهميتها للملاحة الدولية، ولم يكن الرأي العام المصري بمستعدٍّ أن يقبل هذا الرأي أو أن يستبدل بالدفاع المشترك كما أرادته إنجلترا الجلاء عن القناة.
فهذا كان من أسباب فشل مشروع صدقي-بيفن، وفشل المفاوضات التي تلته، بل وقطعها، فأعلن رئيس الحكومة النقراشي باشا في أواخر يناير سنة ١٩٤٧ أن معاهدة سنة ١٩٣٦ غير قائمة، وأعلن مستر بيفن من جانبه في مجلس العموم تمسكه بأحكام معاهدة سنة ١٩٣٦، واشتدت الأزمة من جديد، وأصبح لا مَعْدَى لمصر من التقدم إلى مجلس الأمن، وهو الهيئة الدولية القائمة المعترف بها.
لذلك لم تجد الحكومة المصرية بدًّا من أن تتقدم في ٨ نوفمبر سنة ١٩٤٧ بشكوى إلى مجلس الأمن، معلنة أن وجود قوات أجنبية في وقت السلم في مصر التي اشتركت في هيئة الأمم المتحدة، وبغير رضا المصريين، فيه استهتار بوجودها كدولة مستقلة، وفيه اعتداء على كرامتها، وجرح لشعورها، وتناقض صريح مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة وقرارها الذي صدر في ١٤ ديسمبر سنة ١٩٤٦، بل إن وجود الجنود الإنجليز في القناة ومنطقتها يحمل في طياته خطرًا كبيرًا على السلام العالمي، ويتعارض مع نمو مصر كدولة مستقلة، ووجود هؤلاء المحتلين لم يجعل المفاوضات حرة في الماضي، ولن يجعلها حرة في المستقبل، وأعلنت الحكومة المصرية أن معاهدة سنة ١٩٣٦ لم تعد تربط مصر، لتعارضها مع ميثاق أعم وأوسع هو ميثاق هيئة الأمم المتحدة؛ ولذلك تطالب مصر بالجلاء التام للقوات البريطانية عن مصر وعن السودان أيضًا.
وذهب النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية إذ ذاك إلى ليك سكسس، وفي خطاب طويل وصف العلاقات المصرية الإنجليزية من بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد أن أعلن ثقته التامة في عدالة ميثاق هيئة الأمم والمبادئ التي تضمنها ميثاق الأطلنطي، أبان أن مسألة النزاع بين مصر وبريطانيا لم تعد مسألة محلية تمس دولتين فحسب، بل هي مسألة ذات خطر كبير تمس السلام في كل الشرق الأوسط، وأن مصر قد تريثت وطال تريثها، انتظرت إلى انتهاء الحرب العالمية الأخيرة لتناقش بريطانيا في أمر علاقاتهما، والرأي العام المصري مجمع على جلاء الإنجليز عن كل المناطق التي يحتلونها، ولهذا لم تجد الحكومة المصرية بُدًّا من أن تتقدم بمطالب الشعب المصري إلى الحكومة الإنجليزية مبينة أن معاهدة سنة ١٩٣٦ قد عقدت في ظروف دولية خاصة تختلف تمامًا عن الظروف الحاضرة، وأن موادها وضعت لمعالجة مسائل خاصة مؤقتة، ولكن إنجلترا أصرت في أول الأمر على بقاء قواعدها الحربية في مصر، ولكنها عادت تطلب إنصافها بأن يحكم هذا المجلس بجلاء الإنجليز مباشرة عن مصر؛ عن قناة السويس والسودان بغير شروط، فمعاهدة سنة ١٩٣٦ لم تقم في جو من الحرية يكفل للجانب المصري حقوقه، فلقد عقدت وجنود الاحتلال قائمون في مصر، عقدت تحت التهديد، بأنه إذا لم تسفر المفاوضات عن نتيجة فستتخذ إنجلترا لنفسها موقفًا جديدًا.
وبعد ذلك، فهذه المعاهدة متعارضة مع المعاهدة الدولية التي عقدت في سنة ١٨٨٨ الخاصة بقناة السويس، والتي نصت على أن القناة مفتوحة لكل السفن وقتي السلم والحرب، وأن الدفاع عنها موكول للحكومة المصرية، فبريطانيا قد نقضت هذه المعاهدة الدولية، إذ أعطت لنفسها في معاهدة ١٩٣٦ من الناحية الفعلية حماية القناة.
وبعد ذلك، فمعاهدة ١٩٣٦ متناقضة مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة، فهي تنص على تحالف أبدي، في الوقت الذي ليست فيه لبريطانيا حدود مع مصر ولا روابط مشتركة، فكل ما تريده بريطانيا هو أن تربط مصر بعجلة الاستعمار البريطاني، وهذا في ذاته يخالف كل المخالفة مبدأ المساواة الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة، فالميثاق قد نص على احترام مبدأ المساواة في حقوق السيادة لكل الشعوب المشتركة في هيئة الأمم؛ ولذا فلن تستطيع مصر أبدًا قبول وجود قوات أجنبية في بلادها بغير رضاها، وخاصةً في وقت يسود فيه السلم، وإن مصر التي قبلت الدخول في نظام فيه التعاون الجماعي لَمُستعدَّةٌ لتحمُّل نصيبها من المسئولية.
كانت هذه حجج الجانب المصري، وأما الجانب البريطاني الذي كان يمثله في مجلس الأمن سير ألكسندر كادوجان، فلقد ذكر أن المعاهدة موجودة ولم تنته بعد، ولذا فقوات إنجلترا باقية في قناة السويس.
وأن الحكومة البريطانية قد وافقت في مشروع صدقي باشا-بيفن على أن يتم الجلاء عن مصر وقناة السويس في أول سبتمبر سنة ١٩٤٩، وأن الإنجليز قد نفذوا ما وعدوا به إذ انسحبوا من القاهرة والإسكندرية في ٣١ مارس سنة ١٩٤٧، ولكن المشروع الذي ووفق عليه في أول أكتوبر سنة ١٩٤٦ رفضته مصر، ولو أن مصر وافقت على بروتوكول الجلاء ومعاهدة التعاون المتبادل لتم جلاء القوات الإنجليزية في الموعد المضروب، ولكن المشروع كله رفض لعدم الاتفاق على مسألة السودان، ولذا فالبنسبة لمسألة الجلاء عن القناة ليس لمصر قضية تقدمها لمجلس الأمن.
وأضاف سير ألكسندر كادوجان بأنه لما رفضت مصر ذلك المشروع ظلت معاهدة سنة ١٩٣٦ باقية، وتبقى إلى سنة ١٩٥٦، وشرع مندوب إنجلترا يدلي بوجهة نظر الحكومة الإنجليزية بأن معاهدة سنة ١٩٣٦ معاهدة قانونية.
ثم أخذ بعد ذلك يدلل على أن وجود القوات البريطانية في القناة لا يتنافى وميثاق هيئة الأمم المتحدة، فطالما وجود هذه القوات قد نصت عليه المعاهدة، هذا يجعله غير متناقض مع الميثاق، ثم عرج على مسألة الرضا والاختيار في إمضاء المعاهدة، وذكر أنه منذ سنة ١٩٢٢ ومصر ترفض بالفعل مشاريع معاهدات مع إنجلترا، فهل كان ممثلو مصر في سنة ١٩٣٦ — كما يقول — أقل حرية من النحاس باشا في ١٩٣٠ أو ثروت باشا في ١٩٢٧ أو محمد محمود باشا في ١٩٢٩؟ ثم ذكر أن هذه المعاهدة عرضت على البرلمان المصري ووافق عليها بأغلبية ٢٠٣ إلى ١١ صوتًا، واستشهد ببعض تصريحات لرجال السياسة المصريين في ذلك الوقت مؤيدة لهذه المعاهدة، واستمر يعدد فيما رآه محاسن لهذه المعاهدة.
وذكر سير ألكسندر كادوجان أن وجود القوات الإنجليزية في القناة بمعاهدة لا ينقص من حقوق مصر في السيادة، دلل على ذلك بضرب أمثلة لمعاهدات من هذا النوع، تنص على وضع قوات أجنبية في بلاد دولة محالفة؛ ففي اتفاقية ١٩٤١ — كما يقول — تتمتع الولايات المتحدة بوضع قوات في جملة قواعد على أرض بريطانيا … والاتحاد السوفييتي بمعاهدة أغسطس ١٩٤٥ مع الصين أصبح له الحق في استخدام ثغر بورت آرثر لقواته الحربية والبحرية والجوية لمدة ثلاثين عامًا …
وقال في آخر خطابه أنه لا يهم بعد ما ذكر أن يرضى الشعب المصري الآن أو لا يرضى عن وجود الإنجليز في القناة.
وصرح الجانب المصري عن دهشته لهذه النغمة المتكررة التي تبرر استعمارية القرن التاسع عشر، والتي ظن أنها انتهت نهائيًّا بالقضاء على الفاشية والنازية، أخذ الجانب المصري يردد مساوئ الاحتلال البريطاني في مصر مستعرضًا تاريخ الحكم الإنجليزي في وادي النيل منذ سنة ١٨٨٢، وذكَّر مجلس الأمن بأن مسألة معاهدة سنة ١٩٣٦ ليست مسألة قانونية فحسب، «فمهمتكم — يخاطب أعضاء مجلس الأمن — ليست الحكم في حقوق الطرفين المتخاصمين القانونية، إن مهمتكم الأولى هي المحافظة على السلام والأمن، هي إيجاد الظروف التي تنمو فيها العلاقات الودية والسلمية بين الشعوب … وكثيرًا ما أدت المعاهدات الفاسدة إلى اضطراب السلام.»
ثم استعرض الجانب المصري معاهدة سنة ١٩٣٦ نصًّا نصًّا، وبيَّن أن قيمة أي تحالف ليس في الشروط التي تكتب أو النصوص التي تسطر، وإنما في روح الصداقة الذي يربط بين الشعوب … فهو بلا شك خير وأبقى.
قارع الجانب المصري بريطانيا الحجة، ووضح وجهة نظره في مسألة السودان، وأبان أن نظام عصبة الأمم الذي نصت المعاهدة على الاحتكام إليه في حالة الاختلاف قد زال من الوجود، وأن مصر قد لجأت الآن إلى الهيئة الدولية الموجودة، وهي هيئة الأمم المتحدة، ترجو الإنصاف وتحقيق مطالبها.
ولكن احتكام مصر إلى مجلس الأمن لم يؤد إلى نتيجة في تحقيق المطالب المصرية والجلاء عن قناة السويس والسودان، على أن مصر بالرغم من ذلك أسمعت العالم أجمع شكواها، وأفصحت حكومتها رسميًّا على مشهد من جميع الدول عن رأيها في العلاقات المصرية الإنجليزية.
•••
وظلت الأزمة السياسية بين مصر وإنجلترا مستحكمة، تتقدم خطوة وتتأخر خطوات، وفي الوقت الذي كانت فيه مصر تزداد إيمانًا بقضيتها، وبعدالة حقوقها، استمر الإنجليز مشرفين على القناة محتلين لها لا يتزحزحون عنها، ثم شغلت مصر فترة من الوقت بالدفاع عن فلسطين وحقوق العرب؛ حتى إذا وقعت الهدنة، عادت مسألة تحديد العلاقات المصرية الإنجليزية إلى الظهور مرة ثانية تستلزم حلًّا حاسمًا.
فعادت الحكومة المصرية إلى الاتصال من جديد بالحكومة الإنجليزية، وأرادت وزارة الوفد منذ توليها في أول سنة ١٩٥٠ العمل على تصفية الجو بينها وبين بريطانيا وفي الشرق الأوسط، وتقدمت إلى الحكومة البريطانية مبينة أن مطالبها هي «جلاء القوات البريطانية جلاءً ناجزًا، وصيانة وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري»، وعلى أساس تحقيق هذين المطلبين تستطيع مصر تأدية واجبها في سبيل السلام العالمي.
وفي أوائل صيف سنة ١٩٥٠ رحب مستر أرنست بيفن بفتح باب المفاوضات، واقترح أن يجرى أولًا بين رئيس أركان حرب الإمبراطورية فيلد مارشال سير وليام سليم وبين الحكومة المصرية بحث صريح رسمي للنواحي العسكرية للمسألة التي تواجهنا في الشرق الأوسط، وأضاف إلى أن ثمة نواحي أخرى لهذه المسألة غير النواحي العسكرية، ورأى أن تسير هذه المباحثات بأقل ما يمكن من العلانية.
وأسرعت الحكومة المصرية إلى إجابة الحكومة البريطانية إلى رأيها على أساس الموافقة على مبدأَيْ جلاء القوات البريطانية، ووحدة مصر والسودان، كما بينت رغبتها في الاتصال بالسفير البريطاني الجديد لدى وصوله.
وجاء المارشال سليم إلى مصر، وكان الوقت صيفًا ٥ يونيو ١٩٥٠، واتصل بولاة الأمور في مصر، وبيَّن لهم في جلاء أولًا: أنه لا يمكن فصل المسألة السياسية عن العسكرية، وأكد وجود الخطر الروسي الداهم وأنه لا يمكن لدولة واحدة مقاومته، وأن الحل الوحيد هو تكتل الدول ذات المصلحة في مقاومته من الوجهتين العسكرية والصناعية، والتنازل عن بعض سيادتها وتقاليدها الماضية، وقد تنازلت إنجلترا نفسها وغيرها عن بعض السيادة وقبلت وجود قوات أجنبية في بلادها. وتركت الولايات المتحدة سياسة العزلة القديمة، واشتركت اشتراكًا فعليًّا في الدفاع عن العالم الغربي.
ولا يتسنى لمصر أن تقف بمنجاة ببقائها على الحياد؛ إذ لا تستطيع الحياد إلا إحدى دولتين؛ إما قوية وليست مصر هذه الدولة، أو صغيرة لا مطمع فيها …
وإذا لم تستطع مصر الحياد، ففي نظره ليس أمامها إلا الدفاع، والدفاع يستلزم حلفاء، وبريطانيا هي الحليف، والدفاع يستلزم الحرب، والحرب تستلزم الإسراع بالإعداد لها، ثم انتقل المارشال سليم إلى هدف بريطانيا الحقيقي وهو: «إننا نريد الوصول إلى اتفاق عسكري معكم وسيكون اتفاقًا دفاعيًّا محضًا.» وذكر أن بريطانيا لا تريد في هذا التحالف أن تقف موقف «المعلم» بل موقف «الشريك»، وأنه يتطلع إلى نظام للدفاع يظهر بجلاء أن وجود الجيوش البريطانية في قناة السويس ليس له معنى الاحتلال بأية حال، ولكنه يرمي إلى الدفاع لمواجهة الموقف الدولي، وأن السلطات العسكرية المصرية تستطيع أن تجد نظامًا لمصلحة بلدينا المشتركة.
ووجد رئيس الوزارة المصرية رفعة النحاس باشا أن يبين عن رأي الحكومة المصرية، فيقول بأن الشعب المصري «لا يمكن أبدًا أن يركن لوعود جديدة أو يقبل نظريات مستحدثة ترمي في النهاية إلى بقاء قوات أجنبية في مصر تحت أي اسم أو بأية صفة.»
«… ولقد وقفت إلى جانبكم ووجهت الشعب إلى أن يبذل لكم معاونة مادية ومعنوية في الحرب الأخيرة، ولم أفعل ذلك طبقًا لمعاهدة ١٩٣٦ فحسب، وإنما فعلته إيمانًا بقضية الحرية … ولا أستطيع قطع الصلة بين الماضي والحاضر، فإن الماضي ماثل أمامنا لا يمكن تجاهله أو نسيانه، ويتلخص في الاحتلال الطويل والوعود التي لم تتحقق، إن ثقة الشعب المصري قد ضعفت في وعودكم ونظرياتكم، وكذلك الدول الكبرى المسيطرة على العالم، لماذا نقف إلى جانبكم ونعرض أنفسنا للقتل، وأراضينا للخراب، ونفقد مواردنا ومرافقنا إذا لم نكن نعرف يقينًا أن مطالبنا ستحقق في هذه المرة الثالثة …»
«يجب أن نبحث عن طريقة أخرى في تعاون من نوع جديد يحقق الجلاء عن قناة السويس ويكفل المصالح المشتركة، وأحب أن تعرف أنه ليس في العالم قوة تستطيع إقناع الشعب المصري بأن مصر ستكون مقصودة لذاتها بالهجوم أو بالاعتداء، فإنما يسبب ذلك وجود جيش أجنبي في بلادنا هو الذي يوجه إليه العدوان الروسي. وطالب رئيس الحكومة بمعاونة إنجلترا مخلصة في تسليح الجيش المصري، فالجيش المصري سيتمتع بروح معنوية عالية كلما شعر باستقلاله، إن جلاءكم عن أرض الوطن سيزيد من قوة هذه الروح ويجعل الجيش يتفانى في خدمة قضية السلام المشترك.»
وختم كلامه بهذه العبارة: «لماذا تبقون قواتكم في القناة وليس في فلسطين أو غزة، مع أن هذه القوات الثقيلة منها والخفيفة يمكن أن تصل إلينا في مدى أسبوع، وتكون عندنا وقت الحرب؟»
وعندئذٍ دافع المارشال سليم عن الفكرة التي تقول بأن وجود الجيوش لا يحمل معنى الاحتلال، وإنما هو نظام دفاع مشترك فحسب قائم على المساواة، وأنه لا يستطيع أن يوصي حكومته بالجلاء التام عن القناة، وأن إنجلترا تتقدم في أفكارها بشأن الدفاع؛ ولذا فهي لا تقبل الآن ما قبلته في مشروع صدقي-بيفن من الجلاء التام عن الأراضي المصرية وقناة السويس.
- (أ)
حق مصر الطبيعي …
- (ب)
وعود بريطانيا بالجلاء قد جاوزت الستين وعدًا كان آخرها ما قبلته الحكومة البريطانية في مشروع بيفن-صدقي … ولا يصح الادعاء بتغير الظروف عما كانت عليه في سنة ١٩٤٦، فالظروف الدولية لم تتغير منذ انتهاء الحرب، فإن توقع الخطر الروسي قائم منذ ذلك الحين.
- (جـ)
أحكام الميثاق وقرارات هيئة الأمم المتحدة.
- (د)
تقدم الفنون العسكرية والأسلحة يجعل الاحتفاظ بهذا العدد المحدود في منطقة القنال عديم الجدوى من الناحية العسكرية.
- (هـ)
من الميسور أن تستبدل مصر قوات مصرية أكثر عددًا بهذا العدد المحدود، مصر تستطيع سد هذا الفراغ بقواتها الوطنية.
- (و)
ومن مصلحة إنجلترا كسب ثقة الشعب المصري.
- (ز)
بأن القول بأن حالة التهديد بالحرب في الوقت الحاضر يبرر الاحتفاظ بقوات بريطانية في قناة السويس معناه تأييد الاحتلال؛ لأن هذا الخطر لا يرجى له زوال، وسيكون من الميسور دائمًا التعلل بوجود خطر الحرب.
- (ﺣ)
أن الدول المجاورة لروسيا نفسها مثل تركيا وإيران والمعرضة لخطر الغزو المباشر لا توجد فيها قوات احتلال أجنبية.
وتملك بريطانيا كثيرًا من القواعد الجوية والاستراتيجية في البلاد المحيطة بمصر، مثل مالطة وقبرص وبرقة والأردن، التي يسهل إرسال القوات منها إلى مصر زمن الحرب.
وأما المقارنة بين مصر والمملكة المتحدة — كما يقول بيان رئيس الوزارء — بالنسبة لوجود قوات أجنبية في بريطانيا فالجواب: (١) أنْ لا نزاع في أن وجود تلك القوات لا ينطوي على أي مساس بالسيادة البريطانية نظرًا لأن الدولتين على قدم المساواة. (٢) هذا الموقف طارئ ومؤقت، أما في مصر فيعتبر امتدادًا لاحتلال ظل ستين عامًا. (٣) لو أن إنجلترا طالبت أمريكا بإجلاء قواتها عن أراضيها لفعلت ذلك فورًا. (٤) تباين نظرة كل من الشعبين المصري والبريطاني إلى وجود تلك القوات الأجنبية في أراضيه …
- (أ)
جلاء القوات البريطانية عن مصر «قناة السويس» جلاءً ناجزًا.
- (ب)
لما كانت مصر شديدة العناية بتقوية جيشها وتزويده بأحدث الأسلحة والعتاد، وإتمام التجهيزات المدنية والعسكرية اللازمة، ووسائل المواصلات، كل ذلك يقتضي أن تبادر بريطانيا ببذل معونتها لإجابة مطالب مصر في هذا السبيل.
- (جـ)
عند قيام حالة تهدد الأمن في الشرق الأوسط فإن الحكومتين تتبادلان الرأي فيما يتصل بالموقف.
- (د)
إذا وقع اعتداء مسلح على مصر أو إذا دخلت بريطانيا الحرب كنتيجة لوقوع اعتداء مسلح على إحدى الدول المتاخمة لمصر، فإن مصر تتعاون عسكريًّا في داخل حدودها وفي نطاق إمكانيتها مع بريطانيا العظمى للدفاع عن مصر، وتفصيلات هذا التعاون يجري الاتفاق عليها فيما بعد.
وفي مثل هذه الأحوال إذا تبين أنه من الضروري استقدام قوات بريطانية إلى الأراضي المصرية، فإنها سوف تلقي جميع التسهيلات اللازمة لاستقبالها، والتي يمكن الاتفاق عليها مقدمًا، ومن المقرر أنه بمجرد انتهاء العمليات الحربية فإن القوات البريطانية تغادر الأراضي المصرية.
وأن الحكومة المصرية مستعدة لبحث أي مقترحات من الجانب البريطاني طالما أن أساسها الجلاء الناجز عن الأراضي المصرية.
ولكن ذلك البيان الذي حاول فيه رئيس الوزارة المصرية التوفيق بين وجهتي نظر مصر وإنجلترا لم يلقَ القبول عند المارشال سليم الذي أصر على ضرورة وجود القوات البريطانية وقت السلم؛ لأن دول الدومنيون لا تقبل إرسال قوات لمساعدة مصر إذا لم تكن قوات بريطانيا في مصر في القناة بالفعل.
وبعد شهر تقريبًا، في يوليو من نفس هذه السنة، حاول السفير البريطاني نفس المحاولة مع وزير الخارجية المصرية، فبيَّن أن ليس من مصلحة مصر إزالة المنشآت والقوات البريطانية من قناة السويس، ثم محاولة إعادتها بعد ذلك على أساس جديد فهذا ليس عمليًّا، وقال: «إن من الضروري على أية حال — للدفاع — وجود قاعدة عسكرية لتكون في حالة تسمح باستخدامها في وقت قصير، وأن يكون بها فنيون وموظفون إداريون، وأغلب القوات في منطقة قناة السويس الآن من الفنيين.»
وردد وزير الخارجية المصرية بيان رئيس الحكومة السابق ذكره، فبيَّن أن مصر مصممة على الدفاع عن نفسها، وهي توافق على عقد محالفة دفاعية مع بريطانيا بشرط الجلاء الناجز الكامل، وأن تكون هذه المعاهدة معاهدة الند للند على قدم المساواة، وأجاب على استشهاد الجانب الإنجليزي في مقابلات أخرى بمسألة كوريا الجنوبية واكتساح الشيوعيين لها، الأمر الذي ما كان يحدث لو أنه كان بكوريا الجنوبية قوات أمريكية من قبل، فأجاب وزير الخارجية بأن البون شاسع بين المسألتين، فمثلًا روسيا ليست ملاصقة لمصر، ورجا من الفيلد مارشال سليم الذي أثار هذه الفكرة ألا ينظر إلى الموقف على ضوء الحقائق العسكرية البحتة وحدها، وأن ينظر إلى الحالة النفسية للشعب المصري أيضًا، فمصر المتحررة من قوات الاحتلال تكون حليفًا أقوى وأخلص.
ولكن الجانب البريطاني أصر على ضرورة توفر قاعدة تكون معدة لاستقبال جميع النجدات في الحال وإقامتها، وهذه القاعدة هي قناة السويس.
وبيَّن في أغسطس سنة ١٩٥٠ بأنه لا يمكن إنشاء هذه القاعدة في غزة إلا إذا عقد صلح بين مصر وإسرائيل، ثم إن غزة بعد ذلك ليست مكانًا صالحًا فليس فيه مواصلات أو موانئ أو قوة عاملة؛ فإذن لا بد من بقاء القاعدة الحالية في القناة؛ لأن مصر لا تستطيع من وجهة النظر الفنية أن تقوم بصيانة القاعدة دون مساعدتنا، ولا بد من بقاء الدفاع المشترك.
والسبب الأساسي في تمسك بريطانيا بوجهة نظرها هذه، كما يقول السفير البريطاني في ٢٤ أغسطس ١٩٥٠: «هو موقع مصر الجغرافي، وامتلاكها لقناة السويس، وهي حلقة مواصلات حيوية تهتم بها جميع الدول البحرية … ونحن لا نطلب منكم أن تسلمونا منطقة القنال، ولكنا نطلب أن نشترك معكم في الدفاع عن منطقة القنال، وأهم جزء في الدفاع هنا هو الدفاع الجوي، ويجب على مصر أن توافق على أن يكون لها دفاع جوي مشترك إذ إنها لا تستطيع أن تدافع عن منطقة القناة بمفردها.»
وهذا التمسك من الجانب البريطاني دعا وزير الخارجية المصرية صلاح الدين باشا إلى القول — في مقابلة ١٤ أغسطس مع السفير البريطاني: «إن مصر تعتبر بحق أن وجود قوات لكم في أرضها، مهما كانت صفتها، مُخِلٌّ بسيادتها، فلها كل الحق في أن ترفض هذا الاحتلال … مهما تكن أهمية قناة السويس الاستراتيجية بالنسبة لكم … على أن قناة السويس لم تعد لها هذه الأهمية السابقة من الوجهة العسكرية، ودليل ذلك أن أكثر حركة النقل إلى الشرق الأقصى كانت في أثناء الحرب العالمية الأخيرة تمر من رأس الرجاء الصالح، فضلًا عن إمكان تعطيل الملاحة في القنال وقتًا طويلًا إذا ألقيت عليه قنبلة من القنابل الذرية؛ ومن هذا يمكن أن يقال: إن مصر نفسها هي مطلبكم الحقيقي لا قنال السويس.»
وفي مقابلة ٢٤ أغسطس ١٩٥٠، ردد السفير البريطاني مرة أخرى وجهة النظر الإنجليزية، فقال: «ليست بريطانيا أو مصر حرة التصرف، فكلانا يواجه مستقبلًا نقاتل فيه من أجل حياتنا، ولا يمكننا أن نؤمل في الحياة منعزلين، إن مصر تواجه الآن حيرة شديدة، فهي تريد من جهة أن تدافع عن نفسها، وأن تحقق من جهة أخرى مطالبها القومية، وهذان الغرضان لا يمكن بلوغهما في آن واحد، ويجب على الحكومة المصرية أن تقبل هذه الحقيقة القاسية، وهي أن الجلاء الكامل الناجز عن قناة السويس لا يتفق مع الدفاع عن البلاد، ويجب أن نجد وسيلة للتوفيق بين مطالب الدفاع العاجلة وبين كرامة مصر القومية …»
ولكن وزير الخارجية المصرية لم يقتنع بهذه الفكرة، ولم يزد إلا استمساكًا بوجهة النظر التي عبرت عنها الحكومة المصرية.
وحين زار وزير الخارجية المصرية مستر بيفن في لندن، لم يجد إلا نفس الرأي السابق، فيقول مستر بيفن في ٤ ديسمبر ١٩٥٠: إنه يشعر بأنها تكون مسئولية بالغة الخطر إذا تركت معاهدة ١٩٣٦ دون إعداد تدبير فعال ليحل محلها … وأن العبارة المصرية المعادة عن الجلاء ووحدة مصر والسودان لا تنهض أساسًا عمليًّا يمكن البناء عليه. وأشار إلى الموقف الدولي الذي يهدد بالخطر، وأنه لا داعي للإشارة إلى مناقشات ١٩٤٦ بين مصر وإنجلترا.
ولم يقدم السفير البريطاني مقترحات فعلية من حكومته إلا في يوم ١١ أبريل ١٩٥١، وذلك لحل مسألة الدفاع، موضحًا في نفس الوقت السخط الحقيقي الذي أثاره في بريطانيا استمرار القيود على ناقلات البترول التي تمر بقناة السويس.
ونص هذه المقترحات هو: إن حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة على استعداد لأن تستأنف المفاوضات لتعديل معاهدة التحالف المعقودة سنة ١٩٣٦.
تعلم حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة بالصعوبات الكبيرة التي تواجه الحكومة المصرية في هذه المسألة، على أنها لا تستطيع بالنظر إلى التزاماتها نحو حلفائها الآخرين في شمال الأطلنطي وفي الشرق الأوسط أن تقبل تبعة اتخاذ أية تدبيرات تضر بمقدرتها على المساهمة في الدفاع عن هذه المنطقة بنجاح ضد أي معتدٍ، ومثل هذا الدفاع لن يكون ممكنًا إلا إذا استمرت القاعدة المصرية في المستقبل في أداء وظيفتها بحيث تكون معدة فورًا وقت الحرب، وإلا إذا كان الدفاع الجوي عن مصر مكفولًا.
- (أ)
انسحاب الجنود البريطانيين من مصر — قناة السويس — على مراحل، ويبدأ هذا الانسحاب بعد انقضاء سنة على اتفاق بتعديل المعاهدة وينتهي في ١٩٥٦.
- (ب)
تحويل القاعدة إلى المدنيين تدريجيًّا، ويقترح أن يتم ذلك لغاية سنة ١٩٥٦، بإحلال الموظفين المدنيين الضروريين محل الموظفين العسكريين المنسحبين، ويعهد بالقاعدة بعد ذلك إلى القوات المسلحة المصرية للمحافظة عليها، على أن تدار وفقًا للسياسة العسكرية البريطانية تحت الإشراف الإداري العام لمجلس إشراف إنجليزي-مصري.
- (جـ)
إنشاء نظام إنجليزي-مصري طويل الأجل للدفاع الجوي.
- (د)
تختص بتعهد بريطانيا بإمداد الجيش المصري بالأسلحة.
- (هـ)
وفي حالة الحرب أو خطر الحرب الداهم أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، توافق مصر على عودة القوات البريطانية لمدة الخطر، وعلى أن تمنحها والقوات الحليفة لبريطانيا جميع التسهيلات والمساعدات بما في ذلك استعمال الموانئ والمطارات ووسائل المواصلات المصرية.
وأضاف السفير البريطاني أن إنجلترا لا تستطيع أن تقبل إقرار الرأي القائل بأن مسألة السودان لا يمكن فصلها عن مسألة الدفاع.
- (١)
الشروع في إجلاء القوات البريطانية عن مصر — قناة السويس — بمجرد عقد الاتفاق مباشرةً، وضرورة إتمام هذا الجلاء برًّا وبحرًّا في مدة لا تتجاوز سنة.
- (٢)
تسليم القاعدة إلى القوات المصرية المسلحة بمجرد إتمام الجلاء.
- (٣)
إعطاء أولوية خاصة لتزويد الجيش المصري بالأسلحة والمعدات اللازمة في أقرب وقت باعتبار مصر قائمة في منطقة استراتيجية.
- (٤)
وحدة مصر والسودان تحت التاج المصري.
- (٥)
خاص بالسودان.
- (٦)
عقد اتفاق بين الطرفين يمكن بمقتضاه عودة القوات البريطانية إلى الجهات التي يتفق بين الحكومتين على ضرورة عودتها إليها، للمعاونة في الدفاع عن مصر في حالة ما إذا وقع عليها اعتداء مسلح، أو في حالة اشتباك المملكة المتحدة في حرب كنتيجة لاعتداء مسلح على البلاد العربية المتاخمة لمصر.
- (٧)
إذا عادت القوات البريطانية إلى مصر وفقًا للبند السابق، فيتعين الشروع في إجلائها عنها بمجرد انتهاء العمليات الحربية، على أن يتم الجلاء برًّا وبحرًّا وجوًّا في أَجَلٍ أقصاه ثلاثة أشهر.
- (٨)
إلغاء معاهدة ٢٦ أغسطس ١٩٣٦ وجميع ملحقاتها، وكذلك اتفاقَيْ سنة ١٨٩٩ بمجرد سريان الاتفاق الجديد.
تمهلت الحكومة البريطانية في الرد، وأطالت التمهل، والواقع أنه لم يكن لديها شيء جديد في ذلك الوقت تقدمه، وكثرت الأقاويل والشائعات، فقيل حينًا: إن المشكلة الرئيسية في نظرها هي اهتمامها بالمحافظة على التزاماتها قبل دول الكومنولث وحلف الأطلنطي، فهي لا تستطيع البتَّ في مسألة مثل الجلاء عن قناة السويس دون معرفة رأي شركائها هؤلاء ودون استشارتهم وموافقتهم، وهي لذلك تنتظر حتى يضع وزراء الدفاع في الكومنولث تقاريرهم، وكان الغرض من اجتماعهم في لندن هو دراسة إنشاء نظام للأمن في منطقة شرق البحر المتوسط بدلًا من إقامة نظام دفاعي بين دول الشرق الأوسط، ولقد وجد ذلك المؤتمر أن اشتراك الولايات المتحدة مع إنجلترا متعاونة مع الدول العربية ضروري في إقامة سد أمام التوسع الشيوعي الذي كان يخشى خطره عقب قيام النزاع الإيراني الإنجليزي على مسألة البترول، لقد اتجهت الآراء أخيرًا في ذلك الاجتماع على اقتراح إنشاء هيئة للدفاع عن الشرق الأوسط من إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا ومن يريد من دول الكومنولث.
ولم تكن إنجلترا تثق قليلًا أو كثيرًا في ميثاق الضمان الجماعي وحده، ذلك الميثاق الذي عقدته الدول العربية باستثناء شرق الأردن، هذا الميثاق الذي ينص على وجوب التعاون المتبادل بين أعضائه وإنشاء مجلس عسكري دائم.
وكانت الحكومة الإنجليزية العمالية مضطرة أن تحسب حسابًا كبيرًا لذلك الفريق من الرأي العام الإنجليزي الذي كان يطالب بالتمسك بالبقاء في القناة، ويرى أن تركها يضير المصالح البريطانية ضررًا بليغًا، فبعض الصحف مثل صحيفة الديلي إكسبرس ترى أن الجلاء عن القناة لا يكون إلا خيانة للمصالح البريطانية الحيوية، وما قيمة أي وعد يقدمه المصريون بالسماح للبريطانيين بالعودة؟ وحمل المحافظون في البرلمان البريطاني حملة عنيفة على السياسة المتراخية لوزارة العمال بإزاء مصر، وكان المحافظون قوة لا يستهان بها ويحسب حسابها، وأضيفت إلى آراء المحافظين آراء العسكريين، وكان هؤلاء أشد الناس تمسكًا بالبقاء في قاعدة قناة السويس، ويرون أن إنجلترا أقدر من غيرها على حماية هذه القاعدة وصيانتها، ويجب ألا تترك تلك المهمة لغيرها كلية، وأنه لا مانع عندهم من إشراك مصر إذا أرادت مشاركة بريطانيا في أمر الصيانة والدفاع عن هذه القاعدة، لهذا كله لم تر حكومة العمال إجابة مصر إلى مطلبها في الجلاء عن قناة السويس، وهي وإن كانت قد اتخذت هذه الخطة، إلا أنها آثرت الصمت، وفضلت الانتظار.
ولكن ذلك الموقف لم يرق الحكومة المصرية التي ملت الانتظار ونفد صبرها، ورأت أن لا مناص من أن ترسل مذكرة قوية اللهجة إلى السفارة البريطانية في ٦ يوليو سنة ١٩٥١ تُذكِّرها بأن الحكومة الملكية المصرية تجد نفسها مضطرة لأن توجه التفات حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة إلى تعذر الاستمرار إلى غير حَدٍّ في المحادثات الجارية بين الطرفين منذ شهر يوليو سنة ١٩٥٠، وأن إنجلترا لن تخسر شيئًا من هذه المطاولة، وأن الحكومة الملكية المصرية قد أصبح من المستحيل عليها وعلى الرأي العام المصري قبول استمرار هذه الحالة فترة أخرى.
- (١)
التعاون في مشروع دفاع وافٍ قد يجنب مصر الغزو كلية.
- (٢)
أن تتعرض مصر لغزوين: أحدهما … لاحتلال البلاد، والآخر لطرد المعتدين.
والتعاون في مشروع دفاع أكثر فائدة لمصر، فضلًا عن أن ميثاق الأمم المتحدة يبيح الاتفاقات الإقليمية، وأن إنجلترا تحاول عقد اتفاق لضمان الأمن الإقليمي، واعتذر عن تأخير رد الحكومة البريطانية بأنه ناشئ من مشاغلها الكثيرة.
وأمام هذا وجد وزير الخارجية المصرية نفسه مضطرًّا لأن يلاحظ بأن مشاغل إنجلترا لن تنتهي، وأبان بأن المطالب المصرية مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، وهي مسألة مع ذلك تهم السلم العالمي، وأن الحكومة المصرية مضطرة بعد قليل إلى الإدلاء ببيان عن هذه المفاوضات للبرلمان.
وأن حكومة مصر تعتقد أن السياسة التي تتبعها بريطانيا في مصر والسودان منافية لميثاق الأمم المتحدة في نصه وروحه، فهي منافية لمبدأ المساواة في السيادة، ولمبدأ استقلال الدول الأعضاء وسيادتهم، وللمبدأ الذي يقضي بوجوب امتناع كل دولة عن المساس باستقلال غيرها من الدول الأعضاء أو بوحدة أراضيها، كما أنها تنافي قرار هيئة الأمم المتحدة بوجوب جلاء القوات الأجنبية عن أراضي الدولة المحتلة بغير رضاها، وأما المحالفات الإقليمية فهي في نظر الحكومة المصرية يجب أن تعقد بالرضى والاختيار، وأن مصر شعبًا وحكومةً لا ترغب في أي محالفة على أساس احتلال أراضيها والعبث بوحدتها.
ولقد توترت العلاقات بين إنجلترا ومصر من ناحية أخرى في صيف سنة ١٩٥١ نتيجة لإصرار مصر على عدم مرور السفن الناقلة للبترول خلال القناة إلى إسرائيل، وخاصةً بعد حادث السفينة البريطانية إمباير روش، فاحتجت إنجلترا، وأعلنت أنها ستشكو مصر إلى مجلس الأمن، وأرسلت أربعة مدمرات إلى البحر الأحمر، وطالب بعض الأعضاء في البرلمان البريطاني الحكومة الإنجليزية بضرورة إرسال سفن حربية لحراسة السفن البريطانية أثناء مرورها بالقناة حتى لا تتعرض لها مصر، ورفضت الحكومة البريطانية اتباع رأي المحافظين بحماية ناقلات البترول؛ حتى لا تشجع المصريين على المطالبة بتأميم القناة، ولكنها التجأت إلى مجلس الأمن، وأمام هذا الموقف أعلن وزير الخارجية المصرية للسفير الأمريكي بأن النزاع على الملاحة في قناة السويس يمكن فضه بالوسائل الدبلوماسية، وأن إثارته في مجلس الأمن ستحدث قطيعة بين الدول الغربية.
لم تكن إذن مسألة الملاحة في القناة من العوامل للتقريب بين إنجلترا ومصر، وربما كان لها أثرها السيِّئ على العلاقات المصرية الإنجليزية.
وبينما الأمور سائرة في بطء شديد، ومصر تنتظر إجابة مرضية من بريطانيا على المقترحات التي قدمتها، إذ بوزير الخارجية البريطانية يعلن في مجلس العموم البريطاني في ٣٠ يوليو ١٩٥١ تمسك الحكومة البريطانية بوجهة نظرها وبالدفاع المشترك بحجة الضرورات الدولية.
بسط مستر موريسون في بيانه سياسة الحكومة البريطانية تجاه الشرق الأوسط ومصر، وبيَّن بوضوح لا مزيد عليه أن بريطانيا في هذه الظروف العالمية الحالية غير مستعدة لقبول وجهة النظر المصرية فيما يختص بجلاء القوات البريطانية عن قناة السويس، وفيما يختص بالدفاع عن مصر وعن الشرق الأوسط، وكان هذا الخطاب في الواقع ردًّا حاسمًا على المقترحات المصرية، وتبريرًا لموقف إنجلترا إزاء هذه المقترحات.
فاليوم أصبحت كل الأمم أعضاء في مجموعة واحدة، ولا يمكن دعم مصالح أية دولة على حساب الحاجات والحقوق المشروعة لبقية الدول.
والصداقة القويمة والتعاون الوثيق بين مصر وبريطانيا يعدان من أحجار الزاوية في استقرار أمور الشرق الأوسط وسلامته، وقد حاولنا أن نقدر مركز مصر، ولكننا لم نجد استجابة لما أبديناه من صبر وإدراك، ولا نزال نواجه تصميمًا لا يلين على مطالب ليست لها أية علاقة بحقائق الموقف العالمي في الوقت الحاضر.
ووجود القوات البريطانية في مصر لم يعد مشكلة لا تعني إلا بريطانيا ومصر وحدهما، فنحن دولة تحمل بالنيابة عن دول الكومنولث وحلفاء الغرب مسئولية كبرى.
ومصر مفتاح الشرق الأوسط، وإنه لسراب خادع أن تتظاهر مصر بأنها تستطيع الوقوف جانبًا في أي نزاع دولي.
فمصر تحتل جسرًا هامًّا بين قارتين، وتسيطر على المواصلات البحرية بين العالمين الشرقي والغربي، وهي هدف هام جدًّا لأية دولة تعتدي على المشرق والحوض الشرقي للبحر المتوسط.
ومصير مصر وبريطانيا وحضارتيهما مرتبط برباط وثيق، وليس من الواقعية في شيء أن تدعي مصر أن في استطاعتها النجاة من الخطر برفض التحالف مع بريطانيا وعدم الاشتراك في النظام الدفاعي عن المنطقة.
وفوق ذلك ليس في استطاعة مصر أن تقف وحدها لتدافع عن أرضها، ومثلها في ذلك مثل بريطانيا ذاتها، وإني لواثق تمام الثقة من أنه إذا اضطر العالم الحر إلى خوض غمار الحرب، فإن الشعب المصري سيقف إلى جانبه كما وقف في الماضي يقاوم العدوان.
وأهم خلاف بين مصر وبريطانيا هو عدم الاتفاق على التدابير اللازمة لمواجهة أي طارئ من هذا القبيل، وبدون استعدادات واسعة النطاق في وقت السلام ستتعقد قضيتنا قبل أن تبدأ المعركة.
ومهمتنا إقناع مصر بمواجهة تلك الحقيقة التي لا مفر منها، وبالأخطار التي تترتب على إهمال هذه الاستعدادات، ومن فوق هذا المنبر أدعو مصر إلى المساهمة بنصيبها وعلى قدم المساواة في الجهود المشتركة لتأمين سلام العالم، نريد أن ننظم علاقاتنا على أساس جديد كل الجدة، ولكن إذا رفضت مصر تلك الدعوة، فلن نسمح للموقف الذي ينشأ عن هذا الرفض بعرقلة جهودنا للوفاء بالتزاماتنا الدولية.
ومع ذلك لن نيئس من إقناع مصر بالمساهمة معنا من تلقاء نفسها حتى تسهل مهمتنا.
وقرَّع مصر في آخر خطابه: «فمصر بموقعها الجغرافي الفريد يجب أن تضرب مثلًا على السلوك الدولي بدلًا من الإساءة إلى المعاهدات الدولية واتفاقية الملاحة.»
وختم حديثه بضرورة حماية مصالح بريطانيا المشروعة في الشرق الأوسط.
ولقد وجدت نغمة موريسون ترديدًا في بعض الصحف الإنجليزية، فتقول صحيفة «الأبزرفر» (عن الأهرام ٢٠ أغسطس): أوضح هربرت موريسون أنه بينما ترغب بريطانيا في الوصول إلى اتفاق مع مصر بشأن هذه القاعدة، ستحافظ بريطانيا على تلك القاعدة وتتمسك بها في فترة التوتر الراهنة رضيت مصر أو لم ترض … وهذه ضرورة مؤلمة، ولكن يجب ألا يعمينا النزاع مع مصر عن حاجتنا إلى الارتباط معها برباط الصداقة والود، ويجب علينا أن نواصل مساعينا لجعل مصر تشترك في حلف عام يضم دول الشرق الأوسط حتى تبدو القواعد الموجودة على أرضها جزءًا من نطاقها الدفاعي، وأغلب الظن أن يكتب لهذه السياسة النجاح إذا كان واضحًا أننا نزمع بتأييد الأمريكيين التمسك بمنطقة القناة، وأن الاحتجاجات مهما كانت لن تبدل هذا القرار أو تغير منه شيئًا …
وأما من ناحية الجانب المصري، فلقد وجد وزير الخارجية المصرية ضرورة الرد على تصريح موريسون الذي أحدث رجَّة كبيرة في مصر، ففي ٦ أغسطس في البرلمان المصري تحدث عن الاحتلال وآثاره السيئة، وأبان عن تواكل إنجلترا وتخاذلها في أمر تسليح الجيش المصري، ورد على فكرة موريسون بوجود خطر الحرب ماثلًا، فقال: «ومتى خلص العالم من خطر الحرب؟! … وسيكون على الدوام خلاف دولي يلبس ثوب خطر الحرب، ويجوز القول بأنه يهدد السلام، فهل يمكن أن يطالبنا منصف بأن نقبل على سيادتنا واستقلالنا عار الاحتلال أبد الآبدين؟! …» وأبان عن تمسك مصر بحقوقها ومطالبها، واستمساكها بميثاق هيئة الأمم المتحدة، وأعلن أن مستر موريسون بخطابه هذا قد أوصد باب المفاوضات.
لقد وجدت الحكومة المصرية إذن «عمق الهوة» التي تفصل بين وجهتي نظر الطرفين، وذلك كما يقول بيان رفعة النحاس باشا في ٨ أكتوبر: «لإصرار الحكومة البريطانية على سياستها الاستعمارية القديمة، سياسة ادعاء المسئوليات وانتحال التبعات ومقاومة الحقوق الوطنية بشتى الحجج والتعلات.»
اعتبرت الحكومة المصرية تصريح وزير الخارجية البريطانية إغلاقًا صريحًا لباب المفاوضات بين الدولتين، ولكن مستر موريسون تراجع، وفي خطاب خاص له إلى الحكومة المصرية ذكر أن الباب لا زال مفتوحًا، فالحكومة البريطانية تدرس مشروعًا جديدًا لعلاج وسائل الدفاع، وأجابت الحكومة المصرية بأن جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس ليس كل القضية المصرية، وإنما هو جزء منها، وأن القضية المصرية كلٌّ لا يتجزأ، واكتفت الوزارة البريطانية بالصمت، فلم تستطع أن تعين موعدًا محدودًا لإرسال مقترحاتها الجديدة.
وهكذا كانت الحكومة البريطانية تؤجل في ردودها، وإذا خرجت عن الصمت لا تعطي رأيًا واضحًا نهائيًّا، وتحاول كسب الوقت، فالانتظار لا يضيرها ولا يضعف مركزها، ويظهر أن الحكومة البريطانية لم توجه إلى علاقاتها مع مصر ما يلزمها من عناية ودراسة تتفق ونمو الوعي القومي المصري، وخضعت لآراء العسكريين ورجال الحرب، فلم تحاول فهم وجهة النظر المصرية.
والواقع أن موريسون الذي تولى وزارة الخارجية البريطانية بعد موت إرنست بيفن كان حديث عهد بأمور السياسة الخارجية، وليست لديه خبرة عملية في ذلك الميدان، وليس له العزم لتنفيذ ما يرى، فهو يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، وسرعان ما تراكمت عليه المشاكل من كل جانب، وتجمعت المصاعب أمامه بشكل خطر، فازداد الموقف الدولي تعقدًا بالنسبة لإنجلترا، لقد كان موقف الحكومة العمالية صعبًا في البرلمان، فلقد أصر المحافظون على إثارة المشاكل أمامها، وهاجموا سياستها نحو مصر، وأعلنوا عن خشيتهم من أن تضيع وزارة العمال الامتيازات التي حصلت عليها بريطانيا بمقتضى معاهدة سنة ١٩٣٦، ونعوا عليها سياسة التهدئة التي تتبعها.
وليت الأمر اقتصر على هذا الحد، فلقد ازدادت حالة المالية البريطانية سوءًا أمام حركة التسابق إلى التسلح، واختلفت إنجلترا مع الولايات المتحدة بشأن مسألة التسلح ومسألة الاعتراف بالصين الشيوعية والحرب الكورية، ثم انقسم حزب العمال على نفسه، فريق يرى الاستمرار في سياسة التسلح مهما كلف إنجلترا الأمر، وفريق يرى ألا تكلف إنجلترا نفسها في هذا الميدان ما لا تطيق، فحذَّر أنيورين بيفان، أحد الوزراء المنشقين، بريطانيا من السير في ركاب فوضى الرأسمالية الأمريكية، وتوقع انتشار البطالة وازدياد التضخم في بريطانيا، واختلفت إنجلترا أيضًا مع دول غرب أوروبا على مسألة الاشتراك في الجيش الأوربي.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تعقدت العلاقات الإيرانية الإنجليزية بشأن البترول الإيراني وتأميمه، وقائم نزاع خطير بين الدولتين ذهب بالعلاقات الطيبة بينهما، واضطر الإنجليز آسفين إلى الانسحاب من عبادان، بعد أن رفضت الولايات المتحدة تقديم أي تأييد سياسي لهم.
فكانت هذه أول ضربة سياسية قاسية تلقاها الإنجليز بعد الحرب الكبرى الثانية، أخذ نفوذ الإنجليز في الشرق الأوسط بعدها في التضاؤل والضعف، ولم يعد لسياسة إنجلترا الخارجية ولا لاسمها نفس الاحترام الذي كان لها من قبل منذ ربع قرن من الزمان.
ورأت الحكومة المصرية في أوائل أكتوبر سنة ١٩٥١ أن الوقت قد آن لإلغاء معاهدة سنة ١٩٣٦. فلقد فصَّل رئيس الحكومة في ذلك الوقت في بيانه في ٨ أكتوبر في البرلمان الأسباب التي دعت الحكومة المصرية إلى اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة (انظر الملحقات).
لم تعد مصر تعترف بمركز الإنجليز في قناة السويس، ولكن الحكومة البريطانية أعلنت أن المعاهدة لا تشتمل على حق الإلغاء من جانب واحد، وأنها ألغيت بالفعل من جانب واحد هو الجانب المصري بغير موافقة الجانب الإنجليزي، وأنها لا تستطيع أن تقر مصر على هذه الخطوة، ففي نظرها إقدام الحكومة المصرية على إلغاء المعاهدة عمل غير شرعي يتنافى مع ميثاق هيئة الأمم الذي نصت مقدمته على احترام الالتزامات الناشئة من المعاهدات والارتباطات الدولية الأخرى؛ ولذا فهي وإن كانت لا تزال راغبة في المفاوضات، إلا أنها أثناء ذلك ستظل متمسكة بهذه المعاهدة التي تبرر استمرار الإنجليز في احتلال قناة السويس إلى سنة ١٩٥٦.
ولكنه بالرغم من إعلان إنجلترا تمسكها بمعاهدة ١٩٣٦، يظهر أن الحكومة الإنجليزية لم تكن مؤمنة تمامًا بقوة حجتها، بعد أن أقرت هي قبل ذلك بخمسة أعوام مبدأ الجلاء التام عن مصر والقناة، ثم هي لا تستطيع أن تفصل نهائيًّا في مسألة مصر والشرق الأوسط بمفردها، فلقد انتهى الوقت الذي كان فيه لإنجلترا سياسة مستقلة في هذه المنطقة من العالم؛ ولذا أسرعت إلى حلفائها من الأمريكيين والفرنسيين، بل والأتراك تطلب منهم التأييد لسياستها والنجدة لحل المشكلة المصرية، فتقدمت هي وحلفاؤها بمشروع الدول الأربع. (انظر الملحقات.)
وينص ذلك المشروع على إنشاء قيادة متحالفة للشرق الأوسط، تشترك فيه الدول التي تريد وتستطيع الدفاع عن الشرق الأوسط، وتشترك مصر في هذه القيادة المتحالفة على أساس المساواة.
وعندئذٍ توافق إنجلترا على سحب القوات البريطانية التي لا تخصص للقيادة المتحالفة، وتقدم مصر في أراضيها التسهيلات الاستراتيجية والدفاعية، ويدخل في هذا في حالة الحرب استخدام الموانئ والمطارات والمواصلات المصرية، كما تكون مصر مقر القيادة العليا للمحالفة، وتسلم القاعدة البريطانية في قناة السويس بصفة رسمية إلى مصر، ولكنها تصبح قاعدة مشتركة للدول المشتركة في التحالف، ويكون لمصر نصيب في إدارتها وقتي الحرب والسلم.
وبُنِي ذلك المشروع على أساس أن الدفاع عن الشرق الأوسط ضد العدوان الخارجي أمر حيوي للعالم الحر؛ أي: المعسكر الغربي، ولن يكون هذا الدفاع عمليًّا إلا بالتعاون مع الدول التي يهمها الأمر.
ولقد وجدت الحكومة المصرية أن ترفض هذه المقترحات.