تمهيد
الخطابة ضرب من الكلام يُراد به التأثير في الجمهور من طريق السمع والبصر معًا، وهي فطرية في الإنسان كالغناء والنطق؛ ولهذا تجد آثارها عند الأقدمين في كتب الهند المقدسة وكتب مصر وفارس والصين. ولا ريب أن الأعمال العظيمة التي خُطَّت على جبين الدهر من بطولة وكرم ومجد، كان الدافع إليها خطب الأفراد الذين امتازوا بسرعة الخاطر وقوة العارضة وجرأة الفكرة وذلاقة اللسان، فمن أبطال أوميروس إلى الإسكندر وقيصر، إلى بطرس الناسك وتوما الأكويني، إلى لوثر وكلفن إلى ميرابو ودانتون وروبسبير، إلى دزرئيلي وغلادستون وتيارس وغامبتا، إلى جوريس بالأمس وموسوليني اليوم. لا تزال البلاغة أداة الإقناع والعامل الأكبر في إنهاض الهمم وتنبيه العزائم وإذكاء الشعور، بها أثار سولون حماسة الأثينيين فخاضوا غمرات الموت لاسترجاع «سلامين»، وبها كان شيشرون يقود الشعب الروماني المعلق بشفتيه من دار القضاء إلى السوق ومن السوق إلى دار القضاء.
وبها أسكت أبو بكر أهل المدينة وأخمد هياجهم بعد موت النبيِّ، وبها اندلعت نيران الثورة الفرنسية فغيرت شكل الاجتماع، ولولاها لما سحرت الأديان عقول البشر، ولا كان لها أبطال وشهداء في بدو ولا حضر.
والذي يتبادر إلى الذهن أن قوة كهذه لا بد أن تكون قد أشغلت القرائح والعقول، وكانت موضوع الدرس العميق والبحث المستطيل، على أن الواقع بخلاف ذلك، ومن بواعث العجب والأسف قلة الكتب التي خُصَّت بها، وندرة المحفوظ منها بين أيدينا ولا سيما عند العرب وهم كما نعلم من أخطب الأمم.
ولم تبلغ حاجة الإنسان إلى التكلم في الأندية والجماهير مبلغها اليوم؛ فإن الرقي يسير بالإنسان نحو التوسع في الاشتراك بالحكم، وقد أصبحت المعاملات الاجتماعية أكثر تشعبًا وتداخلًا بعضها في بعض، تداخلًا لم يسبق به عهد، واتسع نطاق التعليم وانتشرت أنوار الثقافة، مما جعل كل طبقة من الناس على كثَب دائم من المؤثرات الخطابية.
وكثير من الناس لم تؤهلهم المدارس إلى تعلم الخطابة أو التمرن عليها، وهم مع ذلك في افتقار شديد إلى هذا السلاح لتعدد الفرص الداعية إلى حمله من حفلات سياسية أو عمرانية أو غير ذلك.
فضلًا عن هذا فإن المحاماة التي هي من أعظم المهن وأوسعها خدمة للمجتمع تتطلب البلاغة قبل كل شيء، وليس في برنامج الدروس التي يتلقاها طلبة الحقوق ما يختص بتعليم الخطابة، فإذا لم يتسنَ للطالب أن يستوفي حظه من هذا القبيل فإنه يختم دروسه ويحمل شهادته وهو لا يزال فقيرَ المادة في الكلام قصير الحجة في الجدل، لا يستطيع مع كل ما درس ووعى أن يجاري زملاءه القادرين في الدفاع عن الأرملة واليتيم والمظلوم، ولا أن يسمع في ندوة القضاء — كما يقول هنري روبير: «صوت الرحمة البشرية والعدل الإنساني.»
ثم إن الحكم الدستوري الذي تتمشى نحوه كل الأمم يحتاج إلى سلاح البلاغة، والناخب يؤْثِر المتكلم الفصيح على سواه؛ ولهذا تجد كثيرًا من المحامين على مقاعد النيابة في كل البلدان. وليس الوزير إن حققت سوى محام يدافع أمام المجلس عن واجباته، وعن معاونيه وشركائه في المسئولية. ما الفائدة من انتخاب مزارع مثلًا لوزارة الزراعة أو جندي للحربية أو تاجر للأشغال؟ حسْبُ الوزير أن يأخذ من كل علم بطرف على شرط أن يكون فصيح اللسان عذب البيان.
ليست الحاجة إلى البلاغة مقصورة في الحياة السياسية على الحكم الدستوري، بل تمتد إلى الدكتاتورية، وربما كانت الواسطة الأولى التي تمهد لصاحبها طريق الرآسة، فإن موسوليني أو مصطفى كمال أو لينين لم يستطيعوا الانتصار على الحكم السابق إلا بالكلام أولًا.
وعلى الجملة فإن فوائد الخطابة أكثر من أن تحصى، وهي تعم الكاتبَ والتاجر والسياسي والقائد والعالم والمربي وكلَّ من كُتب له أن ينزل إلى ميدان الحياة ويدخل معترك الاجتماع.
ذلك ما حدا بي إلى تأليف هذا الكتاب واضعًا فيه كلَّ ما وقفت عليه في كتب القوم على ندرتها أو عرفته بالاختبار، ولا أدعي به القدرة على أن أخلق ديموستينًا أو شيشرونًا غير أني واثق أنه يساعد القارئ على تحقيق رغبته في أن يكون يومًا من أبطال المنابر.
وقد أردت به على الخصوص خدمة المدارس على أنه لا يخلو من اللذة والفائدة للمحامي والخطيب، والله من وراء كل علم.