تعريف البلاغة
١
إن تعريف البلاغة صعب ككل تعريف، جرب مثلًا أن تعرف الذكاء أو الجمال أو الحكمة، فقد تظن للوهلة الأولى أن ذلك سهل المنال ولا تلبث بعد الإمعان أن تتبين خطأ ظنك فترى أنه أسهل عليك أن تدرك الأشخاص أو الأشياء المطبوعة بطابع الجمال أو الذكاء أو غيرها من أن تحلل جوهر هذه الصفات عينها. كذلك البلاغة فإننا نفهم بلا تعب أن هذا الرجل أو هذا الخطاب بليغ، ولكن الفهم شيء والتحليل شيء آخر.
جاء في البيان والتبيين للجاحظ: قيل للفارسي: ما البلاغة؟ قال: معرفة الوصل من الفصل.
وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
وفي العمدة لابن رشيق: سُئل بعضهم: ما البلاغة؟ قال: قليل يفهم وكثير لا يسأم.
وقال آخر: هي إجاعة اللفظ وإشباع المعنى.
وقال آخر: معان كثيرة في ألفاظ قليلة.
وسئل بعض الأعراب: من أبلغ الناس؟ قال: أسهلهم لفظًا وأحسنهم بديهة.
وقال غيره: البلاغة هي الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل.
وقال عبد الحميد بن يحي: هي تقرير المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام.
وقال ابن المعتز: هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام.
وقال الخليل: هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه.
وأنشد المبرد في صفة خطيب:
قال أبو الحسن الرماني: أصل البلاغة الطبع. وقال غيره: هي تقصير الطويل وتطويل القصير. يعني بذلك القدرة على الكلام.
وقال أبو العيناء البليغ: من أجزأ بالقليل عن الكثير وقرب البعيد إذا شاء، وبعد القريب، وأخفى الظاهر، وأظهر الخفي.
قال البحتري في وصف بلاغة عبد الملك الزيات:
وقال بعض المحدثين: البلاغة هي إصدار المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
ومن أقوال الثعالبي: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه، وقلَّ مجازه، وكثر إعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه، وأيضًا البليغ من يحول الكلام على حسب الأماني، ويخيط الألفاظ على قدر المعاني.
وسئل الكندي عن البلاغة قال: ركنها اللفظ وهو على ثلاثة أنواع: فنوع لا تعرفه العامة ولا تتكلم به، ونوع تعرفه وتتكلم به، ونوع تعرفه ولا تتكلم به وهو أحمدها.
قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم: يا أمير المؤمنين، هؤلاء بالبُسْر والرطب أبصر منهم بالخطب. فقال له صحار: أجل والله إنا لنعلم أن الريح لتلقحه، وإن البرد ليعقده، وإن القمر ليصبغه، وإن الحر لينضجه.
وقال رجل للقباني: ما البلاغة؟ قال: كل من بلغَّك حاجته وأفهمك معناه بلا إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ. قالوا: قد فهمنا الإعادة والحبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال: أن يقول عند مقاطع كلامه: اسمع مني، وافهم عني، أو يمسح عثنونه أو يفتل أصابعه، أو يكثر التفاته من غير موجب، أو يتساعل من غير سعلة، أو ينبهر في كلامه، قال الشاعر:
وهذا كله من العي.
وفي كتب الإفرنج تعريفات شتى للبلاغة، نقتصر على بعضها.
قال لاهارب: البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حقيقية.
وقال تين: هي فن الإقناع.
وقال سورن: هي الفكرة الصائبة أولًا، والكلمة الملائمة بعد ذلك.
وقال بسكال: هي تصوير الفكر.
وقال لابرويار: هي نعمة روحانية تولينا السيطرة على قلوب الناس وعقولهم.
وقال دلامبر: هي فن إظهار الشعور.
وقال فيري: هي حدة التصور وقوة التصوير.
وقال لاكوردير: هي الروح التي تفلت من قيود المادة وتترك الصدر الذي يقلتها لترتمي في صدور الآخرين.
وقد سمى شيشرون البلاغة حركة الأنفس الدائمة، وأقام منها سنيك إلهًا مجهولًا في صدر الإنسان، وجعلها كانتيليان الواسطة للحصول على الحقيقة، ووضعها كنار في القلب والتصور، وعرفها مارمونتل بأنها فطرة قبل أن تكون فنًّا، ومثلها الأقدمون بهيئة إله يخرج من فيه عند الكلام سلاسل ذهبية ترتمي على السامعين فتربطهم بها.
ولابن المقفع وصف طويل للبلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الإسماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون سجعًا وخطبًا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته.
كل هذه التعريفات تنطبق على البلاغة إلا أنها لا تؤدي منفردة كل ما في البلاغة من معانٍ، ولو أردنا أن نجمع بين هذه الأقوال ونؤلف منها حدًّا يفي بتفسير البلاغة ويعرفها حسبما يراد منها في هذا العصر، وكما يجب أن يتصف بها خطيب اليوم لاضطُررنا إلى التمييز بين البلاغة الكتابية والخطابية؛ لأنه متى كان الفكر صادقًا والتعبير موافقًا فقد بلغ الكاتب ما يريد، وأما الخطيب فيحتاج إلى شروط أُخَر؛ لأن من يتكلم ليس كمن يكتب، وقد قلنا في صدر هذا المقال إن المراد من الخطابة التأثير في الجمهور من طريق السمع والبصر، فكان من الواجب إرضاء هاتين الحاستين، والدخول عليهما بما يقتضيه العطف والإيناس، وهذا ما يحملنا على إضافة معنًى آخر عند تعريف البلاغة ليس هو الإقناع كما يقول تن، بل كما يريد لاكوردير من إدخال عاطفة القائل في نفس السامع، وإذن يمكننا تعريف البلاغة هكذا: صدق التفكير وحسن التعبير وقوة التأثير.
وسيرى القارئ فيما يلي من فصول هذا الكتاب قرب هذا التعريف من الحقيقة.
٢
يقول المثل: لا تعدم الحسناء ذامًّا. وكذا البلاغة فقد وُجد من عاب بيانها وأنكر إحسانها، فقال بعضهم: إن ضرر البلاغة أكثر من نفعها؛ لأنها تسدل على الحقيقة ستارًا من الألفاظ البراقة، والمعاني الخلابة فتظهر الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق.
وقال آخر: البلاغة تفعل بالتأثير لا الإقناع؛ لأنها تخدر حاسة النقد وتقيم أمرها بالإكراه بما تسوق إليه من تهييج الأعصاب، وكلما زاد عدد السامعين زاد تهييجها، فكان سلطانها أعظم تأثيرًا وأبعد مدى.
وقالوا: هي الأصل في كل عداء، والسبب لكل بغضاء، ومن قديم الزمان إلى الآن لا تزال حرب اللسان سابقة لحرب السنان.
وقالوا أيضًا: هي أداة نفاق لرجال السياسة يحملونها في كل نادٍ، ويهيمون منها في كل وادٍ.
وهذا بعض ما قيل في ذمِّ البلاغة، ولكنه على حدِّ ما يقال في ذم الماء لأنه يغرق، والنار لأنها تحرق، أو ذم الدواء لأنه من جوهر سام ولو كان من ورائه الشفاء.
وقد قيل عن الحضارة والرقي مثلما قيل في البلاغة، فأشهروا إفلاس العلم وعجز الارتقاء؛ لأنه لا يزال على الأرض شقاء.
وإذا كانت البلاغة تُستعمل أحيانًا سلاحًا للباطل، فمن العدل أن يتخذها الحق ليحارب بها الباطل؛ ولهذا جعل الأقدمون اللسان في أعلى مقام من الشرف وأدنى مكان من الامتهان.
والحقيقة التي يجب أن تُعلم وتقال هي أن البلاغة ليست تجارة كلام بل فنًّا خطير الشأن عزيز المذهب، غايته تهذيب النفوس، وإصلاح الأخلاق، وتنوير الأذهان، وكبح جماح الشهوات، ودعم النظم والقوانين، ورد الناس إلى الصلاح، وهديهم سواء السبيل.