أنواع الخطابة
قسم اليونان قديمًا الخطابة ثلاثة أقسام تبعًا لأحوال الزمان من ماضٍ وحاضر ومستقبل، وسموها البيانية أو التثبيتية والشوروية والقضائية؛ فالأولى تختص بالزمن الحاضر لمدح فترغيب أو ذم فتنفير، والثانية تتعلق بالمستقبل لتحمل السامع على جلب النفع للجمهورية أو دفع الضرر عنها، أو للحض على الحرب أو السلم وسن هذه الشرعة أو تلك واستمالة رأي الجمهور أو التغلب عليه، وكانت تُجرى في الهواء المطلق أمام جماعات متهيجة بين الصخب والضجيج والمقاطعة والمعارضة والتكذيب، وكان على الخطيب أن يقاوم أمواج هذا العداء المتلاطمة من حوله، وكثيرًا ما خطب غير واحد في آنٍ واحد كأنما هم في ميدان قتال لا مجال كلام. ولما بطل الاجتماع في «الفورم» أي المحل العمومي أو السوق بطل هذا النوع من الكلام.
والقسم الثالث أي القضائي يختص بالماضي، والغاية منه الدفاع عن متهم أو الحكم عليه، وهو من خصائص المحامين.
هذا التقسيم وضعه أرسطو الذي جعل الخطابة أحد أقسام المنطق، وألف فيه كتابه الذي عربه بشر بن متى في القرن العاشر ولخصه ابن رشد. وقد مشى على هذا التقسيم أرباب الخطابة عشرين قرنًا، أما اليوم فقد تبدلت أحوال المعيشة المدنية والسياسية والدينية مما دعا إلى تبديله. دعك من أنه تقسيم بعيد عن الدقة والإحكام لتداخل الواحد في الآخر من هذه الأقسام، فإن الخطيب الذي يتكلم عن الماضي لا بد له من الإلمام بالحاضر والمستقبل على سبيل الاستشهاد وغيره وكذا العكس.
والمعول عليه اليوم هو تقسيم الخطابة إلى خمسة أنواع: سياسية، وقضائية، وعسكرية، ودينية، وعلمية.
الخطابة السياسية
كان لهذا النوع من الخطابة فيما مضى المكان الأول لصلته المكينة بحياة الأمة في هبوطها وصعودها، فإن الأمة كانت كل شيء وكان عليها مدار العمل في الحرب والسلم، فكان تأثير البلاغة أقرب واسطة إلى تحريكها ودفعها في طريق معينة، ولا يخفى أن المقصود بهذا القول الأمم الحرة كاليونان والرومان، وأما المستعبدة المغلوب على أمرها فلم تكن تعرف هذا الفن ولا تحلم به لضعفها وخنوعها وامتناع الكلام عليها.
وكان الخطيب السياسي مضطرًّا إلى الإلمام بأسرار الدولة الداخلية والخارجية، والتعمق في درس أحوالها المادية والعسكرية فضلًا عما يحتاج إليه من حدة خاطر وشدة عارضة وحماسة في القول. ونحن مهما نحاول اليوم أن ندرك بالتصور مقدار الأثر الذي كان لرجل مثل ديموستين، أو شيشرون في أمته لا نصل إلى الظفر بالحقيقة، نقرؤهم بعد هذا العهد العهيد فنعجب بهم أيما إعجاب، فكيف لو سمعناهم واتصلت بنا نظراتهم، وشهدنا عن كثب حركاتهم وما يتجلى فيها من روحهم الثائرة!
وقد أتى على الخطابة السياسية زمن تقلص فيه ظلها من بعد العصر الروماني، إلى أن عادت إلى الظهور في بلاد الإنكليز لعهد اللورد شاتام، ثم دزرائيلي وغلادستون، وفي فرنسا إبان الثورة وبعدها — وكانت أيام الثورة كما مر بنا — أجمل عهد للخطابة بمن لمع فيها من أشباه برناف، ودانتون، ودمولن، وميرابو وغيرهم ولم يقصر في ميدانها من أتى بعدهم من نابليون إلى بنجمان كونستان والجنرال فوي وغامبتا وتيارس إلى كليمانصو، وجيورس، وفيفياني، وبريان، وبوانكارة لعهدنا هذا.
على أن خطباء العصور الأخيرة لم يبلغوا شأو الأقدمين، ولم يكن لهم تلك الجولات الواسعة التي عُرف بها الأولون، فقد صار من النادر أن يقف الرجل في مكان عمومي ويخطب في قوم لا معرفة له بهم، وأغلب ما تكون الخطابة السياسية اليوم في محفل يضم إخوانًا وزملاء كندوة النواب مثلًا، ثم ينقل البرق الخطاب مختزلًا إلى أطراف المعمور فلا يكون له في المطالع أثره في السامع، ولهذا قصرت غاية الخطيب على التدقيق في موضوعه وفي أرقامه الإحصائية متجافيًا ما أمكن وجوه الاستعارات وضروب المجاز وما إلى ذلك وقد كفى، مثل هذا ميرابو وتيارس وغامبتا ليدركوا ما وراء الغاية من التأثير في معاصريهم.
ومن نواب الفرنجة اليوم من لا يعتمد على العاطفة في خطبه، بل ينهج سبيل المنطق البحت كأنه يتكلم في جمع من مديري البنوك ورجال المال والتجارة، كما أن منهم من لا يزال يلجأ إليها كلويد جورج وبريان طلبًا للإجادة في التأثير على أنه تأثير وقتي لا ندري ما يبقى منه بعد ربع قرن. وإننا نقرأ خطب كليمانصو التي كانت تثير الزوبعة في مجالس فرنسا فيعترينا الدهش، ولا نعرف من أين كان لها هذا الوقع.
وإذا راجعت خطب مصطفى كامل وسعد زغلول لم يخف عليك ما فيها من سلاح العاطفة، وتبين لك أن هذه الطريقة لا تزال أقرب الطرق إلى قلوب الجماعات.
والخطابة السياسية من أصعب فنون الخطابة؛ لأن حركات الأمة هي نتيجة مد وجزر يولده سيطرة الأفراد على الجمهور، أو الجمهور على الأفراد، فيتبع الخطيب هذه الأمواج آمرًا في القوم أو خاضعًا لرغائبهم، فلا هو واثق بالنجاح كل الثقة، ولا يائس منه كل اليأس.
وقلما نجد من خطباء السياسة من لم يذق في احتكاكه بالجمهور لذة الانتصار أو لوعة الانكسار، وهذا يدلك على حرج الموقف وما يقتضيه من درس عقلية النواب والتعرف إلى أميالهم وأخلاقهم كما يتعرف الطبيب إلى جسم الإنسان جزءًا جزءًا. والذي يعرض عن هذا الدرس مكتفيًا بما رزق من صنع اللسان وبلاغة البيان، أو عرف به من نزاهة القصد وإخلاص النية لم يسلم من الخيبة والفشل أحيانًا، بل لو طرح قلبه على المنبر لما أقنع السامعين إذا هم أبوا الاقتناع.
على كل حال من أهم واجبات الخطيب النائب أن لا يقرب خلَّتين؛ الأولى الغضب لأنه آفة العقل والرزانة، والثانية استعمال ألفاظ سافلة تدعو إلى الأسف والندم.
الخطابة العسكرية
تختلف هذه عن الأولى كل الاختلاف؛ لأن الحرب لا تدع مجالًا واسعًا لتزويق الجمل، ومهما يكن الخطيب جهير الصوت فهو لا يستطيع أن يُسمع الألوف؛ ولذلك جرت العادة أن تكتب الخطبة وتوزع على الجند. والغاية من الخطابة العسكرية هي إنهاض همم الجنود وإذكاء نار الحماسة فيهم، وإثارة النخوة والحمية والإقدام، وتهوين الموت، وتجميل التضحية، وإعطاء الثقة بالنفس والأمل بالنجاح.
ومن أجمل الخطب العسكرية خطبة طارق بن زياد قبل فتح الأندلس، وخطبة نابليون في حملة إيطاليا، وبين الخطبتين كثير من الشبه كأن روحًا واحدة أوحت إلى البطل العربي والقائد الكورسيكي تلك الكلمات النارية الساحرة.
قال طارق: «أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر.»
«وقد استتعبكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصون من أيدي عدوكم.»
وقال نابليون: «أيها الجنود لا قوت لكم ولا كساء، الحكومة مدينة لكم بالكثير ولا تستطيع أن تعطيكم شيئًا، وإن في صبركم وشجاعتكم لشرفًا لكم، ولكن ليس من ورائهما ربح ولا مجد، سأقودكم إلى أخصب سهول العالم، ستجدون مدنًا كبيرة وضياعًا غنيَّة، ستجدون الشرف والمال والمجد. أي جنود إيطاليا، أتعوزكم الشجاعة؟»
ومثل هذا قول روش جامكلين في حرب الفانداي: «أيها الجنود إن أنا تقدمت فاتبعوني، وإن أحجمت فاقتلوني، وإن مت فاثأروني.»
وفي كتب العرب كثير من أمثال هذه البلاغة سنعود إليه في مكان آخر.
الخطابة الدينية
لم يُعرف هذا النوع من الخطابة عند الإفرنج إلا بعد ظهور النصرانية، وكان حامل لوائه آباء الكنيسة من اليونان، وهو يمتاز بصراحة القول والتهديد والاستشهاد بآي الكتب المقدسة، وبالتحليل الفلسفي مع البساطة في التعبير، وأساسه قائم على العلوم الدينية المبنية على الوحي، والعلوم البشرية التي تساعد الخطيب على الاستشهاد والتفسير ودعم الحجة، وكلما كان الواعظ متعمقًا في الفلسفة والأدب والطبيعيات أمكنه أن ينال من قلوب السامعين وعقولهم بما يكتسب قوله من الجاذبية والرواء، وتلبس معانيه الصارمة من حلل اللفظ الرشيق، وتكسى من بهجة الشواهد المتنوعة والأمثال التي توقظ الخاطر وتقصي الملل وتساعد على الإقناع.
وسواء أكان الموضوع دينيًّا محضًا أو تأويلًا وشرحًا للآيات المنزلة، أو ردًّا على أقوال الملحدين ودفاعًا عن الدين فالغاية من الموعظة واحدة، وهي تثبيت الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي من حيث الفائدة الدنيوية جزيلة النفع بما تجلب من التعزية للحزين، والشجاعة للجبان والقوة للضعيف، والأمل للبائس والصبر لمن خانه الصبر على شرط أن يكون الواعظ ممن خبروا النفس البشرية وامتلكوا ناصية البلاغة، وكان في كلامه مخلصًا تقيًّا وفي تبشيره صادقًا وفيًّا.
أما عند العرب فالخطابة الدينية عزيزة المذهب أيضًا، جليلة الغاية، بعيدة المرمى، وقد أوجبها الشارع وسنها للمسلمين في مساجدهم كل جمعة وعيد، وفي الحج أي في عرفة، وأوجب على الحضور التزام الأدب مع الخطيب، بل علمهم حسن الإصغاء، وفي الحديث: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت.» ولم يعيِّن الشارع موضوعًا خاصًّا للخطب الدينية، أو خطب الجوامع والمواسم بل جعلها مطلقة يتناول الخطيب الكلام من المناسبات الزمنية، ويورد للحضور من هدي الشارع ما يهذب به أرواحهم، ويهيب بهم إلى بارئهم، ويغرس فيهم مكارم الأخلاق وليطبعهم بطابع الفضائل، ويحذرهم البغي والظلم ويستل بلطيف أسلوبه سخائمهم وأحقادهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويزين لهم العمل الصالح، ويربأ بهم عن مهلكات الشهوات (عن القديم والجديد لكرد علي).
الخطابة القضائية
فيها من كل فن خبر؛ لأن المحامي يُدعى إلى الخوض في كل موضوع، وعليه أن يلم بأطراف العلوم، ويكون واسع الاضطلاع موفور الحظ، ولا سيما في هذا العصر، فإن اتساع ميدان العمل أخرج المعيشة عن حالتها البسيطة، وولد في المعاملات الاجتماعية وعلائق الناس بعضهم مع بعض حقوقًا جديدة، كما قال هنري روبير، وخلق مشاكل لم تكن موجودة أو معروفة، وجعل موقف القضاء أشد حرجًا وأكثر غموضًا.
لا يكفي المحامي أن يكون بارعًا في علم الحقوق، بل هو في حاجة إلى بصيرة نقادة وذهن قادر على هضم أنواع العلوم؛ لأن المسائل التي يوكل إليه البحث فيها هي علمية وطبية ومالية وزراعية وفنية، وعليه أن لا يجهل شيئًا مما يمكن أن يُعبِّد له طريق الفوز، فهو في آن واحد عالم وطبيب وتاجر ومهندس ومؤلف وغير ذلك.
ثم عليه بعد أن يجعل دماغه موسوعة علوم أن يعرف كيف يحرك العواصف ويثير شجون النفس؛ لأن من المحلفين من لا يعرف القانون ولا يأبه به، وإنما هو يحكم بما يمليه عليه الشعور والضمير.
قال كركوى: «يا لتعس المحامي الذي لا يحس لأول عبارة يتلفظ بها ارتياحًا من جانب القاضي، وتشوقًا لمعرفة ما سيقول، ولذلك كانت العناية بالمطلع وبراعة الاستهلال أول ما يجب الأخذ به.» ويروى عن محامٍ في إحدى القضايا الكبرى أنه بدأ مرافعته بهذه الجملة الجذابة: «موكلي يطلب من عدلكم مليونين ومائة وخمسة وعشرين ألفًا وثلاثمائة واثني عشر فرنكًا وخمسة وعشرين سنتيمًا، ولا أنس السنتيم لأن حقي جلي واضح، فأنا أطلب الكل أو لا شيء.»
أريد اليوم أن أجرب أصعب شيء في حياتي، ولكن ثقي يا سيدتي أنه لا كلمة جارحة تخرج من فمي، ولكن الذين سمعوك على هذا المنبر أصدقاء وأعداء قد أدركوا أنه بين رجل لا ينكر أحد عليه العزم والمقدرة والإرادة وبينك يا سيدتي أنت التي تحوي على بعض هذه الصفات إلى حد المبالغة، قد أدركوا أنه من المحال أن تدوم الحال …
وأحسن وصف ينطبق على المحامي خصوصًا والخطيب عمومًا ما كتبه غامبتا في وصف المحامي لاشو، وقد آثرنا تعريبه هنا إتمامًا للفائدة.
إن ما يغريني في لاشو هو سهولته وارتجاله وقوته واستقلاله، وما قبضت على القلم إلا لأظهر إعجابي بهذه الصفات.
إن بلاغة الخطباء المرتجلين هي كالنار التي يشبههم بها «تايسيت» إذا خبا أوارها عفت آثارها. أجل إن الارتجال قوة لها على القلوب سلطان الساعة، وقد بلغ فيه لاشو من السهولة والاقتدار مبلغًا لم يعرفه إلا من كان في طبعه ومزاجه. يقوم وقد هزه كلام الخصم فيندفع اندفاع السيل؛ فإذ بالعقل مأسور والجنان مسحور ثم يزول كل شيء. أين هو هذا الخطاب الجميل؟ قيِّد البرق إن استطعت، احبس الريح التي تهب، أوقف المحامي لاشو. لكلامه وميض البرق الخاطف، وهو كالريح؛ فتارة نسيم، وطورًا إعصار، ولا سبيل إلى حفظ هذه الأقوال المجنحة إلا إذا جمعنا بين تصوير الصوت وتصوير الموسيقى.
جبين واسع وضاح، شفة عريضة عليها ابتسامة ناعمة، عين كبيرة متحركة الأجفان، هذه العين التي تجدها مسترخية عند الراحة، تسطع بأنوار هائلة فجائية، أو تبسم بأشعة لطيفة تنتشر على القزحية وتنير من كل جانب أعماق تلك الكرة، رأس ملء حركاته عظمة وجلال، جسم معتدل وفيه خفة الفتوة. أضف إلى هذا صوتًا جميلًا طبيعيًّا واسع المدى كأن فيه شيئًا من البوق وشيئًا من القيثارة.
إذا غضب يتحول صوته إلى زئير؛ فيخرج من صدره طبقات كثيفة صافية رنانة، ويرتفع إلى أعلى درجة من النبرات، ثم يهبط بلا تعب إلى عذوبة الاستعطاف أو الشكوى.
وإذا رضي أصبح الصوت نغمة أو حفيفًا كأن هناك آلة موسيقية تبعث ألحانًا شجية يحسدها عليهما أطرب المنشدين.
إن للاشو كل ما يلزم ليكون محامي العواطف، وقد صار كذلك بفضل شعورٍ منبعه النفس لا الفن، لقد أتمت الطبيعة على لاشو نعمتها من ضمير يبعث الضياء إلى فكر ينفث السحر إلى لحظ باهر وإحساس قاهر، وبساطة تقرب منال الألفاظ والمعاني، وعاطفة تحمل معها السامع، وأداء يأخذ بالأبصار، وإلقاء يستولي على مجامع القلوب. لله دره! ما أعرفه بأسرار النفس البشرية وما فيها من عثرات وألم وشقاء وخيانة! لقد دخل في ذلك النفق المظلم نفق الحياة العصرية، ونزل إليه درجة درجة؛ فأبصر كل ما فيها من بؤس وفظائع، ووقف على محركاتها وأدرك أسبابها، ولمس بيده جراحاتها، ورأى عن كثب ما في أعماقها من أصناف الذل وألوان العار، ولما انتهى إلى هذا الحد أخذته الشفقة على هؤلاء الساقطين شهداء الأقدار، فصعد من الأعماق حاملًا معه الرحمة، ومنذ ذلك الحين اتخذ موقفه إلى جانبهم يدافع عنهم بقلمه ولسانه، وينصرهم بحكمته وبيانه، ويفتح لهم أبواب النجاة بقوة برهانه.
•••
وسر المقدرة أنه يتعمق في درس الدعوى ويلج إلى قلب القضية، فينظر بعين المتهم، ويحس بأعصابه، فيغضب غضبه، ويصرخ صراخه كأنه يطلب الرحمة لنفسه، ويترجم عن يأس المسكين بيأسه. يأخذ شبكة الاتهام ويلقيها على ذاته بافتخار، ثم يقطعها تقطيعًا كأنه من مصارعي الرومان.
يكفيه دقائق معدودة ليرى كل شيء ويقبض عليه ويسبر غوره ويدرك كنهه؛ انظر إليه جالسًا مصغيًا إلى أقوال المدعي العام واستنتاجاته وتهمه وإهاناته، وهو مطمئن النفس ساكن الجأش لا يتحرك فيه غير يده المحمومة تقطع بالمدية قلمًا وقع إليه. يستقبل بصدره ضربات الخصم ويعدها ليردها إليه بعد قليل بالرِّبا الفاحش. ينظر إلى خصمه وجهًا لوجه لأن قوته ستظهر عن قريب، تلك القوة هي كلماته العظيمة التي يوحيها إليه احتدام الجدل والمناظرة؛ فيخترع ويبدع وينفخ كالخالق روح الحياة في خطابه.
يتقدم إلى المنبر حرَّ الفكر، لا يُعيقه تذكار، ولا تقيده لفظة هيأها أو جملة ركبها. لقد أعمل فكره وكفى، وما أحقه بما قيل عن فوسينون: «ليست ذاكرته للألفاظ والجمل، بل هي صفحة حساسة تلتقط كل التأثيرات وتقع على كل المعاني، فهو يتنبه تنبهًا ولا يتذكر تذكارًا.
وإذا كان المتهم واحدًا من أولئك العاثري الجد الذين يُخشى منهم ويشفق عليهم، فإنه يعرف أن يمشي إليه بجرأة، ويرفعه ويحمله بذاته فوق حافة الهاوية كأنه يريد أن يزجه فيها، ثم يريك بإشارةٍ أعماقَها المظلمة فتتراجع مذعورًا، وإذ ذاك يرفع الخطيب رأسه، ويرفع المتهم معه شارحًا حاله خالعًا عليه حلة جديدة باكيًا مستعطفًا، وإذا بالرجل قد نجا لأنه من فوق الهوة البعيدة الغور تنتصب الرحمة التي هي عدل القلب والتي يقدر الصوت العظيم أن يوحيها أبدًا إلى النفوس العظيمة.
إي وايم الحق عندما نسمع لاشو يتكلم لا نتمالك أن نقول مع أفلاطون: «الكلمة هي الله».
أرأيتم صدق كلامي؟ هذا الرجل يمثل الفطرة الصادقة بكل معانيها، ولا سبيل للتقليد إليه فهو لا يُعنى بمطلع خطابه، ولا يعتبر الختام القسم الثالث من الخطبة، بل القبضة الأخيرة التي تخنق الخصم، والعادة أن لا يكرر الخطيب ختامه الواحد في كل خطبة أعدها، أما لاشو فهو في كل قضية يستطيع أن يكرر هذه القبضة الهائلة.
وعلى الجملة أقول إن من لوازم الخطيب أن يستقل بنفسه، ويتبع فطرته ولا يعتد بما مشى عليه غيره أو ألفه سواه، أو جرت العادة أن يُقال ويسمع. قد يصل بالتقليد إلى نيل الاستحسان، ولكنه لا يصل إلى السيطرة على الضمائر، وقد صدق تايسيت حيث قال: «خير للخطيب أن يتزمل بردًا خشنًا من أن يصقل وجهه بطلاء الخطايا.
الخطابة العلمية
هي إن شئت أقل الخطب بلاغة لا تستنزل الدموع، ولا تثير العواطف، ولا توقد نار الغضب والحماسة، ولا تحرك عوامل البغض أو الرحمة. كلام علمي صناعة وبحثًا، وتركيب بسيط يقرب منال الحقائق العلمية من الأذهان، على أن البلاغة الحقة لا تعرف لها حدًّا، فهي تتدفق من القلب والفكر أيًّا كان الموضوع، والخطيب البليغ يعرف أن يخلع حتى على الموضوع الجاف لمحة من الجمال والرونق والجاذبية فتزداد بساطته تأثيرًا.
وأول ما ظهرت الخطابة العلمية في فرنسا لعهد الكردينال رشليو مؤسس المجمع الشهير المؤلف من أربعين عضوًا يسمونهم الخالدين، وينتخبونهم من بين أرباب السيف والقلم ورجال الدنيا والدين.
وهي تتناول المحاضرة والمدح والتأبين وما شاكل.
المحاضرة — ويسميها الإنكليز قراءة أخذًا عن الروائي الشهير دكسون الذي كان يتلو مؤلفاته في حفل من الناس — هي ضرب من الدرس يُلقى على الجمهور كما يلقي المعلم درسه على تلامذته ومريديه، وقد لا تخلو من مسحة خطابية حسب الموضوع والكاتب، وغايتها الإقناع بمعالجة الموضوع الفلسفي أو التاريخي على نمط واضح الأسلوب سهل المأخذ، وكثير من الذين لا قبل لهم بالخطابة يستطيعون أن يفلحوا في المحاضرة ولا سيما المرأة التي قلما يساعدها الصوت وتركيب بنيتها على الخطابة بدون تعب.
ويدخل في المحاضرات السَّمر وأحاديث الأسر والأندية الأدبية، وقد كان للسمر مقام في العصور الغابرة، وبلغ أوْجه في القرن السابع عشر في فرنسا، فكانت أوتل رمبوليه مجتمع السادة الأدباء والنساء الشهيرات بالحسن والظرف والذكاء والصبابة، وقد كان لاجتماعاتهم وما يدور فيها من حلو الحديث أثر عميق في أخلاق ذلك الجيل وآدابه، ثم أَنشأت نينون ده لانكلو ناديًا للسَّمر في منزلها، كان كالمعبد يحج إليه خيرة القوم، وكان فن الخطابة محترمًا، يعتبرونه مدرسة الأدب والحياء وحسن الذوق وطيب الشمائل ورقة الشعور.
أما اليوم فقد عصفت حمى الحياة بكل هذا، غير أنك تجد حينًا بعد حين بعض الحفلات الخصوصية يقيمها نفر من العلماء أو المتأدبين في دورهم فيتجاذبون أطراف الحديث فيما يعرفون من علم أو فن، كما كانت تفعل فلاسفة اليونان حينما كانوا يجتمعون تحت ظلال الأشجار في حدائق غناء، تعبق أزهارها وتشدو أطيارها.
وربما كان للعرب شيء مما ذكرنا غير ما يروى عنهم من اللهو والعبث والمجون، وفيما حُفظ عنهم من الأجوبة التي كان يحملهم عليها المقارعة في الحديث والجدل ما يجعلنا نعتقد ذلك.
المدح والتأبين؛ التأبين هو مدح الميت خاصة، يُلقى يوم المأتم أو يتلى في حفلة التذكار التي تقام له، ويُراعى فيه عمر الميت وقدره وخدماته، ثم يستطرق منه إلى التعزية وذكر الحكم الخالدة التي تخفف أحيانًا من لوعة المصاب، ويختم باستمطار الرحمة والسلام على الفقيد، وحث الناس على الاقتداء به. ومجال الكلام في هذا الباب واسع للخطيب القدير الذي يتلاعب بالألفاظ والمعاني دون أن يهوي في المبالغة أو الإطالة والتكرار.
وأما خطب المدح وما يتصل بها من الشكر والتهنئة والتكريم فهي تتشابه موضوعًا، وتختلف حسب الأقدار والأعمار وقيمة العمل أو الخدمة التي أداها المُحْتَفى به لقومه وبلاده. وقد أفرط القوم فيها في كل مكان حتى صار من الصعب طرق هذا الباب على من أراد أن يكون مجددًا لا مقلدًا. على أن التكريم الصحيح — أي الذي يكون لأعمال جليلة القدر حقيقة النفع — يعطي الخطيب من الموضوع نفسه مصدرًا للوحي فيجمع الإخلاص في البيان إلى فصاحة اللسان.