من هو الخطيب؟
١
هل يولد الإنسان خطيبًا كما يولد شاعرًا؟ أو بعبارة أصح: هل يحتاج الخطيب إلى ذلك الوحي الآتي من أعماق النفس كأنه انفجار باطني، أم يكفيه العلم والممارسة ليجد سبيلًا إلى عقول الناس وقلوبهم؟
من المعلوم أن النطق عمل منعكس من أعمال النفس البشرية كالصمت أو غيره، فكما تجد من الناس من تخرسه مشاهد الوجود الرائعة فيقف منها موقف الدهشة والذهول لا يطيق حركة ولا يحتمل صوتًا، تجد بعكس ذلك من لا يستطيع السكوت عما يجيش به صدره من مختلف التأثيرات كأنما هو يريد أن يشرك بها كل من حوله من حيٍّ وجماد. قال الأستاذ كركوس في كتابه فن التكلم في الجمهور ما معناه: تصور راعيًا يسوق أنعامه في الخلاء وقد حيته ابتسامة الفجر، وهو يفتح للشمس قصره الذهبي، أو ناجاه الشفق الوردي وهو يخلع على الكون رداء السكون، وانظر أي أثر يكون لهذا المشهد في نفسه فقد يقف صامتًا جامدًا مأخوذًا بروعته وجلاله أو يتناول مزماره وينفخ فيه طربًا وزهوًا، أو إذا كان خطيبًا يرفع رأسه وعينيه ويدعو إليه قوى الوجود الخفية باحثًا عنها في الريح العاصفة، أو الموجة الثائرة أو الغصن المائل مع الهواء أو الصخرة الصماء.
فالخطيب إذن هو الذي تهزه المؤثرات الطبيعية فيتردد صداها فيه بالوحي ينزل على لسانه والبلاغة تتدفق في بيانه.
٢
هذا التعريف يختص بالبلاغة الفطرية، وهي اليوم لا تكفي وحدها لبلوغ الغاية من التأثير والجلوس على عرش الأسماع والقلوب؛ ذلك لأن اتساع دائرة المعارف الإنسانية وتعدد وسائل البحث والاختبار قد جعلا موقف الخطيب صعبًا، فهو يحتاج إلى ذخيرة من العلم كان الأقدمون في غنًى عنها لافتقاره غالبًا إلى إقامة برهان وتأييد حجة ودفع اعتراض، وإقناع فئة من الناس قد نضجت عقولها فهي لا تقبل بالكلام يرسل على عواهنه، سواء أكان هذا منها عنادًا ودعوى، أم رغبة بالعلم واستزادة من الفائدة.
فالخطيب الذي يجمع إلى استعداده الذاتي وذكائه الفطري اضطلاعًا واسعًا، ويكون موفور الحظ من العلم واللغة ليستطيع التكلم في كل موضوع بسهولة ورشاقة وإقناع، كما يقول شيشرون، فهو المصقع البليغ الضارب على أوتار كل فؤاد.
لا بد إذن للخطيب من الدرس والمطالعة؛ لأن الحياة كما يشهدها ويقرؤها هي ميدان عمله، وليس فيها شيء لا يحتاج أن يسمعه أو يبحثه أو يعالجه؛ ولأن الروح — كما قال فولتر — نار إذا أنت لم تطعمها لتزيد وتقوى تناقصت وخبت.
لقد أتى على الإنسان مئات من السنين وهو يكتب ويخطب فما غادر الشعراء من متردم، ولم يبق فكرة لم تمر بخاطر ولم تجر على لسان، كما قال زهير:
فلا يجب أن يكون هذا مدعاة إلى شعور القارئ بقصوره عن أن يأتي بأحسن أو بأكثر مما أتاه السلف، بل ليذكر أن كل جيل من الناس ينظر إلى الحياة نظرة خاصة به مستقلة عن نظرات غيره.
وهكذا تتجدد الحياة ومع الحياة يتجدد العمل، فإذا جاز لنا أن نقول ما ترك الأول للآخر شيئًا فقد جاز لنا أن نقول أيضًا: لقد ترك الأول للآخر كل شيء.
وللمطالعة شرائط لا بد من اتباعها إذا أردت أن تثمر وتنتج نتاجًا مفيدًا، وهي: أن تكون بتأنٍّ وتروٍّ لا إفراط ولا تفريط؛ فالذين يفترسون الكتب افتراسًا — إن صحَّ هذا التعبير — لا تلبث قوة الاختراع فيهم أن تضعف والبداهة أن تضيع، ولهذا لا تجد أدنى نسبة بين عدد الكتب التي يقرؤها الرجل ودرجة ثقافته، أما من يتخذ القراءة ضربًا من التسلية ووسيلة لقتل الوقت فيقرأ كما يدخن متنقلًا من كتاب إلى آخر دون ترتيب ولا نظام ولا غاية معينة فهو يستفيد القليل دون الكثير، ولا يحفظ مما يقرأ إلا بقدر ما تحفظ العين من الصور المتحركة التي تتعاقب أمامها.
كانت المطبوعات في القديم نادرة فكانوا يقرءون الكتاب الواحد مرارًا ولا يملون الرجوع إليه كلما اقتضت الضرورة، وقد توالت أعصر والكتب المقدسة وحدها مرجع الخطباء المصاقع، يجدون فيها ما أرادوا من وحي وإلهام، ولا ريب أن الاكتفاء بمطالعة كتاب مفيد ومراجعته خير من تقليب كتب عديدة لم تتضح فائدتها بعد.
وعلى الجملة فالدرس والمطالعة أمران لا بدَّ منهما لفارع المنبر، وقد قال الجاحظ: لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك العلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التبحر.
٣
تكلمنا عما يجب أن يكتسبه الخطيب ليساعد الفطرة ويزيد رأس ماله، وينمِّي فيه قوة الاختراع، ونأتي الآن على صفات أخرى لا تكتسب بالدرس، وإنما هي تتعلق بالمزاج والأخلاق والتربية الأدبية.
- أولًا: رابط الجأش، ساكن الجوارح، لا يأخذ منه الغضب ولا يفرغ عنده الصبر، فإن الذي لا يكون سيدًا على أهواء نفسه لا يستطيع أن يتحكم بأهواء سواه. وإذا احتاج إلى الغضب فليكن غضبه خطابيًّا، فكما أن الممثل يجتهد أن يجعل تمثيله طبيعيًّا مطابقًا للواقع، ولا يمنعه ذلك من طلاء وجهه بالدهان، فالخطيب يقدر أن يخلع على سحنته ما يريد من الملامح دون أن يمس إخلاصه أو يخل بموقفه الطبيعي.
- ثانيًا: أن يكون بسيكولوجيًّا؛ أي نقابًا، صادق الحس، ملهمًا، عجيب الفراسة، بعيد مطارح النظر، يدخل إلى أعماق القلوب، ويقف على مكنونات الصدور ليخاطب كل فئة على حسب هواها، ويحمل عليها على أقدار منازلها، فلا يكلم سيد الأمة بكلام الأمة، ولا الشباب بكلام الشيوخ، ولا العمال بكلام أصحاب المال، ويكون له فضل التصرف في كل طبقة.
- ثالثًا: أن يكون سلِسًا، لين العريكة مُتَّضِعًا، يمتزج بمن يخاطبهم، ويقرب ما بينه وبينهم، فيكون في الظاهر خادمًا لهم وهو السيد المطلق، ويجاريهم في أهوائهم كلما قضت الحال، لأنه لا يطاع إلا إذا عرف أن يطيع كرُبَّان السفينة يلين للريح ويسايرها ليسلم بمركبه فلا يتحطم دون الشاطئ.
- رابعًا: أن يكون حاضر الذهن، فلا يتجاوز في القول ما يهم سامعيه، وكلما سمع نَبْوة من النفوس عنه، أو ملة للقلوب منه ألقى إليهم نغمة جديدة، وطلع عليهم بفكرة غير منتظرة، فيمنع التثاؤب والملل، ويعيد الانتباه إلى مقره، ويملك عليهم سمعهم وشعورهم؛ لأن في الخروج من معهود إلى مستجد — كما يقول الجاحظ — استراحة للفكر، ورياضة للخاطر.
- خامسًا: أن يكون حيَّ الجنان، صادق البيان؛ ليحرك من الأعماق عواطف الحرية والإنسانية والتقوى والفضيلة الراقدة في قلب كل إنسان، ويمثل أمام تلك العيون المستعرة الناظرة إليه صور المجد والوطنية، ويبعث الكهربائية في نفوس سامعيه؛ فيثيرهم بإشارة من يديه، ويهدئهم بنظرة من عينيه.
٤
من الناس من تجتمع فيه هذه الصفات أو أكثرها، ولا يوفق مع ذلك إلى الإجادة في الخطابة لعيوب خلقية تمنع عليه سهولة المخرج أو جهارة المنطق، أو تكميل الحروف وإقامة الوزن، كاللجلجة (التردد في الكلام) والتمتمة (التتعتع في التاء) والفأفأة (التتعتع في الفاء) واللثغة واللفف وهو أن يدخل الرجل بعض كلامه في بعض، والحبسة وهي ثقل الكلام دون أن يبلغ به حد الفأفأة، والتمتام، والحكلة أي نقصان آلة النطق، وعجز أداة اللفظ فلا يسمع الصوت تمامًا.
أكثر هذه العيوب تبدأ في الصغر، وأسبابها التعجل في الكلام، وعدم التروي والتدقيق في التفكير، والخجل الذي يستولي على المتكلم، فإذا كبر زادها ظهورًا عدم التمرين والعادة، والتقصير في درس الموضوع الذي يراد الكلام فيه، أو في الاستعداد له أو في استظهاره، وليست معالجتهما بعيدة المنال ولا إصلاحها مستحيلًا، فقد كان ديموستين ضعيف البنية والصوت، فلما اعتزم الخطابة أخذ يقوي رئتيه وصوته بالصياح وهو يصعد الجبال الوعرة، أو أمام شاطئ البحر مغالبًا صخب الأمواج مما يدلك على أنه بالتربية والتمرين وجهد النفس وأخذ اللسان قد تجيب الطبيعة، ويُصلح التعهد ما أفسد الإهمال.
وأعم هذه العيوب وأكثرها شيوعًا اللثغة التي يحول بها اللسان من السين إلى الثاء، ومن الراء إلى الغين أو الياء، وقد كان ديموستين يسعى إلى سترها بوضع حصى في فيه عند الكلام، وتكلف مخرج الراء على حقيقتها، وروى الجاحظ عن واصل بن عطاء أنه كان قبيح اللثغة شنيعها، فحاول إسقاط الراء من كلامه وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه ويناضله ويساجله ويتأنى لستره والراحة من هجنته حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما أمل. قال الجاحظ: وكان واصل طويل العنق جدًّا، وفيه قال بشار الأعمى:
فلما هجا واصلًا وصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين وقال:
قال واصل بن عطاء: «أما لهذا الملحد المشنف المكتنى بأبي معاذ من يقتله؟ أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالين لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه ويقتله في جوف منزله وفي يوم حفله.» فتجنب الراء في كل الجملة، وحين لم يستطع أن يقول بشار وابن برد والمرعث؛ جعل المشنف بدلًا من المرعث، والملحد بدلًا من الكافر، وقال: لبعثت إليه من يبعج بطنه. ولم يقل لأرسلت إليه، وقال: على مضجعه. ولم يقل على فراشه.
وقد يفسد النطق عند الكثير من الخطباء بفساد طريقة التنفس وجهلهم أصولها، وقد شرحنا هذا في القسم الثاني من الكتاب، أو لعله في اللسان أو الشفاه أو في الأسنان من نقص أو تكسر.
وخلاصة القول: أن التغلب على هذه العاهات لا يتعذر على الحكيم الصبور بالتمرين والحيلة، والانتباه الدقيق والتأني في تلفظ الحروف وما إليه.