الخطيب والشاعر
١
إن سرعة البداهة وقوة التصور وجيشان الخاطر وكل ما يمتاز به الشعراء موجود عند الخطباء، ومن الصعب التفريق بين الاثنين، فكأن القوة العقلية الواحدة — باختلاف وجهتها وتباين أسبابها — قد أنتجت عند بعض النوابغ تارة بلاغة القلم، وطورًا بلاغة اللسان.
لا ريب أن اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي المشهور عندما كان يطوف بجواده فوق شواطئ الليدو، وينشد في الفضاء أشعاره الغريبة السامية، ويلقي من حوله على الكائنات نظر السيد المعتز بمحتده المباهي بشبابه المفاخر بجمال طلعته ولمعان نبوغه، وما أعطاه الله من واسع السلطان في مملكة الهوى، مخضعًا لدى قدميه الفلاحة الحائرة والسيدة المتدللة، منتصرًا على مطامع الرذيلة ومخاوف الفضيلة، لا ريب أن ذلك الأمير لم يكن حينئذ شاعرًا فقط، بل كانت عواطفه الثائرة تتدفق من فؤاد خطيب فترتدي حلة الشعر بعد أن تفرغ في قالب خطابي بما فيها من غزارة وخيال وتصور خلاب.
وإذا نظرت فيما كتب هيكو أو نظم ظهر لك أنه لم يكن يتخذ غير لغة الخطابة، كأنما هو يتمرن على الدور السياسي الذي كان مخبأ له في طيات الزمان.
وكذلك لامارتين فقد حرك أوتار قيثارته على منبر السياسة فأفلح خطيبًا مثلما أفلح شاعرًا.
وكما كان بيرون الشاعر خطيبًا كان جورس الخطيب شاعرًا، وقد روى مؤرخوه أنه وهو في العشرين كان يتمشى كالملهم على شواطئ الكارون مرددًا في الفضاء نثره الجميل، وله في كتابه «حقيقة العالم المحسوس» صفحات شعرية خالصة كأنه تحت وميض الإلهام وبين عوالم الأحلام يُسائل الوجود من كل نواحيه، وينحني نحو الأرض واضعًا أذنيه عليها مصغيًا بروحه إليها كمن يجس أو يبحث عن نبض العالم.
إن منع الكلام عن جورس يعرض المسيو بيلو ذلك الستار الذي يقوم من ورائه غليوم الثاني إلى سهام الانتقاد المر. ما الفائدة أن يرث الإنسان أعظم سلطة عسكرية في العالم، وأن يمشي في زرد الحديد، ويستل سيف الله الذي لا يفل، ويتغنى بالنار والبارود، ويملأ الآفاق وعيدًا؛ إذا كان يخاف من رجل أعزل سلاحه الكلام؟ … يالها من شهادة ساطعة لعظمة الفكر! …
والمطَّلع على حالة السياسة لذلك العهد وما كان عليه غليوم من الحدة والخيلاء؛ يدرك ما في هذه الأسطر القليلة من البلاغة.
والأمثلة كثيرة على وجود العاطفة الشعرية بقوة وغزارة عند الخطباء، غير أنها ليست واجبة الوجود، فكما أن في المصورين من لم يبلغ شأو ليونارد ده فنسي، فمن الخطباء من لا يعرف هذا الغليان، ويستطيع بكلمة أو صورة أو صوت أن يحرك العواطف ويثير الأشجان. هكذا كان والدك روسو أحد زعماء الفرنسيين في العصر الغابر القائل في إحدى خطبه هذه الكلمة المأثورة: يجب على المالك أن يعمل وعلى العامل أن يملك.
٢
وفي العرب كثير من الخطباء الشعراء أو الشعراء الخطباء، وقد ذكر الجاحظ فئة غير قليلة منهم، نقتصر هنا على ذكر بعضهم مثل: قس بن ساعدة الإيادي، والطرماح والكميت وغيرهم، ومن هؤلاء بشار الأعمى، وكان شاعرًا راجزًا سجاعًا خطيبًا صاحب منثور ومزدوج، وكلثوم بن عمر وهو القائل:
ومن الشعراء الخطباء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار؛ سهل بن هارون الملقب بزرجمهر الإسلام صاحب كتاب ثعلة وعفرة في معارضة كليلة ودمنة، ومنهم أعشى بن شيبان، وهو القائل:
ومن بواعث الأسف أن لا أجد سبيلًا إلى إيراد أمثلة من خطب هؤلاء القوم، ولعلي أوفق إلى شيء من هذا في آخر الكتاب.
ومن أبلغ الشعر الخطابي قصيدة عفيرة بنت عفان، وكان بنو طسم قد انتهكوا حرمتها فقالت: