الوعد الحق
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (صدق الله العظيم).
١
قال ياسر بن عامر لأخويه مالك والحارث: عودا إن شئتما إلى أرض اليمن، أو اضربا إن شئتما في الأرض العريضة؛ فأما أنا فمقيم، قد أعجبتني هذه الأرض فلست أعدل بها أرضًا أخرى، ورضيت بهذه الدار فلست أبغي بها بديلًا، وما رحيلي عن أرض وجدت فيها الأمن بعد الخوف، والقوة بعد الضعف، والسعة بعد الضيق. قال أخوه مالك: بل قل ما رحيلي عن أرض فيها هذه الفتاة السوداء التي لا تملك من أمرها شيئًا، ولكنها تملك من أمرك كل شيء. قال ياسر: فظُنَّا بي ما شئتما من الظنون، ولكني مقيم لن أبرح هذه الأرض، ولن أتحوَّل عن هذه الدار.
قال ياسر: عودَا إن شئتما فإني مقيم.
قال الحارث لأخيه مالك: دَعه، فما علمته إلا نَكِدًا لا خير فيه.
•••
وأووا إلى مكة، وطافوا بالبيت، وسألوا الآلهة فلم يجدوا عندها شيئًا، ثم أقاموا في المسجد ينتظرون أن تغدو قريش إلى أنديتها. فيمر بهم، حين يرتفع الضحى، أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي، فيرى ما أصابهم من الضر، فيضمهم إليه ويكرمهم، كما تعوَّدت قريش أن تكرم الضيف.
وكان أبو حذيفة قد وَكَّل بخدمة هؤلاء الضيف سميَّةَ بنت خياط، أمة سوداء، في أول الشباب، عليها من الجمال نضرةٌ قاتمة بعض الشيء، وفيها من الشباب خفة ومَرحٌ ونشاط، وفي لسانها المستعرب عذوبةٌ حسنة الموقع في الآذان والقلوب.
فكانت تغدو على هؤلاء الفتية بطعامهم أولَ النهار، وتروح عليهم بطعامهم إذا أقبل الليل، وتعمل في خدمتهم بين ذلك، وتتحدَّث إليهم، وتسمع منهم بين حين وحين، وكأنها قد وقعت في نفس هذا الفتى فحبَّبت إليه الإقامة بمكة. ومن يدري؟! لعله أن يكون قد تحدَّث إليها في شيء من ذلك فأحسَّ منها مثل ما أحس من نفسه: ميلَ الغريب المستوحش إلى الغريب المستوحش.
وعاد الفتى ياسر بعد أن ودَّعهما إلى مكة، فأقام فيها ضيفًا على أبي حذيفة أوَّلَ الأمر، ثم حليفًا لأبي حذيفة بعد ذلك، ثم زوجًا لسمية أمته السوداء تلك، ومنذ ذلك الوقت عرفته الدنيا وحفظه التاريخ.
٢
قال أبو حذيفة: ما أرى إلا أني قد حالفت اليوم شيطانًا! ويحك يا فتى عنس! فإنا قد ألفنا أن نَقِف من آلهتنا موقف المتحدث إليها المناجي لها.
قال الفتى: فقف منها هذا الموقف حيث شئت؛ فإنها ينبغي أن تكون معك في كل مكان.
قال أبو حذيفة، وقد أخذه شيء من وجوم، كأن الفتى قد ردَّ إليه شيئًا غاب عنه، أو ردَّه إلى شيء غاب عنه: فلا أقل من أن نطوف بالكعبة؛ ليتمَّ لهذا الحلف حقه من الحرمة والتقديس.
•••
فيقول الفتى: بأبي أنت يا أبا حذيفة! والله ما ذكرتُ آلهة عنس قط؛ فأنساها اليوم أو أستبقي ذكرها في قلبي! وما أعرف أني غدوت عليها مُصبحًا أو رحت إليها ممسيًا، أو آمنت لها بسلطان.
قال الفتى: لقد لقيت أولئك وهؤلاء وسمعت منهم، ولم أفهم عنهم ولم أحاول لأحاديثهم فهمًا.
قال أبو حذيفة: فليس لك إله إذن؟
قال أبو حذيفة: إن لك لشأنًا يا فتى عنس.
قال الفتى: كغيري من الناس، إلا أني أفكر في هذا كثيرًا ولا يفكرون فيه إلا قليلًا.
•••
وبلغا دار أبي حذيفة، فأنفقا فيها سائر النهار وشطرًا من الليل يخوضان في أحاديث الدين والدنيا وفي أحاديث تهامة ونجد والحجاز.
وقد وقع حب الفتى في قلب أبي حذيفة موقعًا غريبًا، حتى قال لنفسه ولأهله حين خلا إلى أهله: ما أحببتُ غريبًا قط كما أحببتُ هذا الفتى، ولو كنتُ متخذًا ولدًا لاتخذته ولدًا.
٣
قال أبو حذيفة وقد أخذه العجب: لك في هذه الدار أرب؟! وما عسى أن يكون؟
قال أبو حذيفة: فتريد أن أهبها لك؟
قال أبو حذيفة: فإنك لا ترزؤني في مالي شيئًا، وإنما هي أمة والإماء في الدار كثير.
قال ياسر: لا والله لا أرزؤك في مالك، وما آثرتُ الحلفَ على الجوار إلا لتخفَّ مئونتي عليك، وما أحب أن تقول مخزوم: أقام في الدار مقام الضيف، ثم لم يتحول عنها كما أقبل عليها.
قال أبو حذيفة: فإن شئت زوَّجتك منها.
قال أبو حذيفة — وقد ضرب على كتف الفتى بيده: ويلك! لقد عنَّيتني منذ اليوم، تزوجها وما ولدت لك من ولد فهو حر.
قال ياسر: بأبي أنت من سيد كريم! ألم أقل إنك فخر مخزوم وزينة قريش وعز البطحاء؟!
•••
وكان ياسر من هذه الدهماء؛ فلم يحفل به التاريخ، ولم يلتفت إليه، ولم يصحبه في حياته الطويلة، ولم يسجل غدوه على التماس الرزق، ولا رواحه على أهله بما اكتسب منه، حتى كان يومٌ أُكْرِهَ التاريخُ فيه على أن يلتفت إلى الدهماء أكثر مما يلتفت إلى السادة والقادة، وعلى أن يسجِّل من أمر ياسر وأمثاله من عامة الناس أكثر مما يسجل من أمر حلفائه من بني مخزوم وأمثالهم من الملأ والسادة في قريش.
فيقول له الأصهب: وأنت ماذا تصنع؟
فيجيب الأسود: أريد أن أدخل على محمد؛ فأسمع منه وأعلم علمه.
فيقول الأصهب: وأنا أيضًا أريد ذلك. ثم يدخل الرجلان فيسمعان ويُسلِمان، ويعرف التاريخ أن الأسود الطوَال هو عمار بن ياسر، وأن الأصهب الربعة هو صهيب بن سِنان، ومنذ ذلك الوقت يذكر التاريخ ياسرًا، ذاك الفتى العَنسي، ويتتبع خطوات ابنه عمار.
٤
وكانت زوجه سمَية أشد أهل الدار ضيقًا بهذه الحركة وإنكارًا لهذا النشاط، فلم يكن شيء أحب إليها من أن تستأخر في نومها ما وسعها ذلك، كأنها كانت تتصور ما ينتظرها في الدار من عمل ستجد فيه من الجهد ما يضنيها ويشق عليها، فكانت تحب أن ترجئ ذلك ما وجدت إلى إرجائه سبيلًا. ولكن الشيخ الثرثار المكثار النشيط لم يكن يكره شيئًا كما كان يكره أن يستيقظ والناس من حوله نيام، فلم يكن يستقرُّ له قرارٌ ولا يهدأ له بالٌ حتى يثور أهل الدار جميعًا من نومهم، ويأخذوا معه في حديثه الذي لا ينقضي، يسمعون له كثيرًا ويقولون له قليلًا.
وكانت أحاديث ياسر مختلفة أشد الاختلاف، تروع بغرابتها وطرافتها وإثارتها للشوق إلى الاستزادة والرغبة في الاستطلاع؛ فقد كان ياسرٌ لا ينفك يروي غرائب الأخبار وطرائف الأحداث عن موطنه ذلك البعيد في تهامة اليمن، وعن أسفاره تلك الكثيرة في تجارة مخزوم إلى الشام حينًا، وإلى العراق حينًا، وإلى ما وراء الشام والعراق أحيانًا.
واستيقنت سمية أنه لن يخرج من الدار إلا حين يرتفع الضحى وتوشك الشمس أن تزول، ولكنه أفاق من نومه ذلك اليوم فلم يثر من مضجعه، ولم يتحرَّك لسانه في فمه، وإنما ظل مستلقيًا مكانه لا ينشط ولا يقول، ولا يدعو غيره إلى نشاط أو قول. وأخذت سمية حظَّها من نوم الصباح كما لم تتعوَّد أن تأخذه قط، ولكنها مع ذلك أنكرت هدوء هذا الذي لم يتعود هدوءًا، وصَمْتَ هذا الذي لم يألف صمتًا، فَتُقبِلُ عليه وقد تكلف وجهها الابتسام والرضا، وأضمر قلبها العبوس والخوف، فتسأله ما خطبه؟ وهل يجد شيئًا يكرهه؟ فيجيبها بصوت خافت: ليس بي بأس، ولستُ أجد ما أكره.
قالت سمية: فما لك لا تملأ الدار علينا ضجيجًا وعجيجًا؟
قالت: فقُص رؤياك، لعل حديثك عنها أن يُريحك منها.
قال ياسر: هيهات! ثم استوى جالسًا في بطء، وأخذ يقص رؤياه مستأنيًا، ولم يكد يمضي في حديثه قليلًا حتى رُوِّعت زوجه، وهمَّت أن تكفه عن الحديث لولا بقيةٌ من شجاعة وفضل من حياء.
قالت سمية، وقد أقبلت عليه مرتاعة ملتاعة: وَيحكَ! لا بأس عليك، قم فأصب شيئًا من طعام، ثم اخرُج فاقصُص رؤياك هذه المروعة على بعض كهاننا، لعلهم أن يجدوا لها تأويلًا.
ولم يُقبل المساء من ذلك اليوم حتى كانت رؤيا ياسر قد عبَّرتْ نفسها، وحتى وجد ياسرٌ مسَّ النار.
٥
قال ياسر: وما ذاك؟
قال ياسر متضاحكًا: فهل سمعتني قط أذكر آلهتكم بسوء؟ وهل رأيتني قط آتي من الأمر ما يؤذيها؟
قال عمرو بن هشام: فهي إذن آلهتنا نحن، وليست منك ولست منها في شيء!
قال ياسر: وما تُريد إلى ذاك؟
قال عمرو بن هشام، وقد ظهر الغضب في وجهه وفي صوته جميعًا: أريد أن أعرف مَن هو معنا ومن هو علينا؛ فقد آن لكل من أقام بمكة أن يُصرِّح عن ذات نفسه، وأن يبدي دخيلة ضميره، ولقد عفونا لأحلافنا عن كثير، ولكنا لن نعفو لهم منذ الآن عن شيء.
قال عمرو بن هشام، وقد اندفع في ضحك يُصوِّر الغيظ أكثر مما يُصوِّر الرضا: فأنت حرب على ابنك عمار إذن منذ اليوم؟!
قال ياسر: أبِنْ أبا الحكم؛ فإني لا أفهم عنك منذ اليوم شيئًا.
•••
٦
ولم يكد يبلُغ داره ويَلِج من بابها حتى أنكر من الدار ومن أهلها كل شيء؛ فقد رأى زوجه سُمَيَّة فرِحة مرِحة، قد أشرق وجهها على رغم ظلمته، وابتسم ثغرها وهي تلقاه مبتهجة النفس منبسطة الأسارير، فلا يكاد يدنو منها حتى تثب إليه وتتعلق به، تُلقي إليه في صوت مبتهج تشيع فيه الغبطة وتفيض منه البهجة: أبشر ياسر؛ فقد جاءنا عمار بخير الدنيا والآخرة!
قال ياسر دَهِشًا: الآخرة! ما الآخرةُ؟! ماذا تقولين؟! إني لأعيش عيشة منكرة منذ اليوم، تُرَوِّعني أحلام الليل، ولا أفهم ما يُقال لي أثناء النهار.
قال عمار: أَبْشِرْ يا أبتِ؛ فقد جئتك بخير الدنيا والآخرة.
•••
وسمع الشيخ هذا كله مصغيًا له، وكأن كلمات ابنه كانت تنفذ إلى قلبه دون أن تمر بأذنيه، وقد جعل وجهه يُشرق شيئًا فشيئًا حتى استحال كله نورًا، وجعلت قوته تذهب عنه شيئًا فشيئًا حتى تهالك وكاد ينهار، لولا أن أسرع إليه ابنه وامرأته فأسنداه وأجلساه، وأقبلا عليه يرفقان به ويتلطفان له، يمسح عمار رأسه وتُمِرُّ سميةُ يدَها على وجهه، والشيخ واجم لا يتحرَّك لسانه في فمه إلا بهذه الكلمات: فهو ذاك إذن! فهو ذاك إذن!
قال عمار في صوت حلو: ماذا تقول يا أبت؟!
قال ياسر — وقد احتبست في حلقه عَبْرَةٌ لم يَبِنْ صوته منها إلا بعد جهد، وقد جعلت عيناه تسُحَّان على وجهه دموعًا غزارًا — قال ياسر: هو ذاك إذن! لقد أذكرتني يا بني حديثًا كان بيني وبين أبي حذيفة حين ألممت بمكة ولم أكد أجاوز العشرين. أراد أن يحالفني عند آلهته فأبيت عليه، فلما سألني عن ذلك ذكرت له أني لو كنت متخذًا إلهًا لعبدتُ البحرَ الذي يخيفني، أو الشمس التي تضيء لي، أو النجوم التي تهديني، ولكن شيئًا من ذلك لا يبلغ قلبي ولا يتحدث إلى نفسي ولا يثير فيها رَغبًا ولا رَهبًا. فقد أنبأك محمد إذن بأن لهذه الآيات كلها خالقًا فَطَرها ودبَّر أمرها، هو ذاك إذن! ثم أطرق الشيخ إطراقة طويلة، ثم رفع رأسه والدموع تنهلُّ من عينيه غزارًا وهو يقول: هو ذاك إذن! ومن أجل هذا آثرتُ بُعْدَ الدار على قُرْبِها، واخترتُ أن أكون حليفًا لبني مخزوم على أن أكون عزيزًا في بني عَنْس، وتركت أَخَوَيَّ يعودان إلى تهامة، وأقمت أنا في هذه البطحاء. ثم يتحول إلى سمية، فيمسح رأسها بيده، وهو يقول: وكان حبُّك هو الذي دعاني إلى انتظار هذه الساعة. ثم يعود إلى إطراقه، ثم يرفع رأسه وقد كفَّت عيناه عن البكاء، وجعلت قَطَراتٌ من دمعه تتلألأ في لحيته، وهو يقول لابنه عمار: متى تَصْحبنا إلى محمد لنسمع منه كلمة الحق؟
قال عمار: هلمَّ الآن إن شئتما.
فيقول عمار: ومن ورائها جنةٌ فيها نعيمٌ ورضوان للذين صدَّقوا محمدًا، واستجابوا لما دعاهم إليه.
٧
واجتمع الملأ من قريش في المسجد حين ارتفع الضحى من الغد، فلم يتحدَّثوا في تجارة ولا بيع، وإنما تحدثوا في هذا الحدث العظيم الذي ابتكره فتى مخزوم في هذا البلد الآمن الذي ليس لأهله عهد بتحريق الدور على أهلها، ووَضْع الرجال والنساء في الحديد وإذاقتهم ألوانًا من العذاب، مع أنهم لم يقتلوا ولم يسرقوا ولم يقترفوا من الآثام والذنوب ما تعوَّدَتْ قريش أن تنكره وتعاقب عليه.
قال الوليد في رفق: ويحك يا ابن أخي! فإن محمدًا لم يحرق دارًا، ولم يعنف بأحد، ولم يضع أحدًا في الحديد.
قال أبو جهل: فإني أريد أن أستأصل هذا الشر قبل أن يستفحل، امضِ أبا سفيان بتجارتنا حيث شئت، فإن عليَّ أن أحمي ظهرك، وأن أحفظ لك مكة كما تحب أن تكون.
•••
ومضَوا كذلك، حتى إذا بلغوا مكانًا في البطحاء وقف أبو جهل ووقف الناس معه، ثم تقدَّم حتى دنا من ياسر، فقال له ساخرًا منه: أباقٍ أنت على حلفك لمخزوم كما حدثتنا أمس؟
قال أبو جهل: فقد برئت من حلفنا إذن؟
وعبث أبو جهل وأصحابه بأجسام هؤلاء الثلاثة حتى ملوا العبث وضاقوا به، فتفرقوا عنهم بعد أن وكَّلُوا بها حراسًا يحفظونهم على حالهم تلك حتى يعودوا إليهم حين تجنح الشمس إلى الغروب.
٨
قال حرب بن أمية لعبد الله بن جُدْعان: ما رأيتُ كغلامك الرومي هذا ذكاءَ قلب، ونفاذَ بصيرة، وبراعة في التجارة، ومهارة في تثمير المال.
وخلا عبد الله بن جُدْعان مساء ذلك اليوم إلى غلامه ذاك الرومي الذي سَبَتْهُ العرب، أو العربي الذي سبته الروم، فقال له: لقد أحسنت البلاء يا صُهَيْبُ في رحلتك هذه إلى اليمن وأرض الحبشة، ولو لم يُثْنِ عليك حرب بن أمية لأثني عليك هذا المال الكثير الذي رجعت به إليَّ، فهل كان لك بالتجارة من عهد؟
قال صُهَيب: هيهات! ما أعلم أني بعت أو اشتريت قبل رحلتي هذه إلا ما يبيع الناس ويشترون من حاجتهم التي تصلح أمرهم في كل يوم.
قال عبد الله بن جُدْعان: فهي الفطرة إذن؟
قال صُهَيب: هو ذاك. وأطرق عبد الله بن جدعان ساعة، وهمَّ صُهيب أن ينصرف، ولكن سيده استبقاه بالإشارة، فأقام ينتظر أن يرفع سيده إليه رأسه وأن يصدر إليه أمره. وطال إطراق السيد حتى ملَّ الغلام أو كاد، ولكن عبد الله بن جدعان يرفع رأسه ويبسم للغلام، ويقول في تحفظ وهدوء: أضائقٌ أنت بالرق يا صهيب؟ قال صهيب: ومن ذا الذي لا يضيق بالرق، ولا يتمنى أن يكون حرًّا؟!
قال صهيب: فأمْسِكْ عليك حرِّيتك هذه التي تريد أن تردها علي؛ فإن الحرية لا تُباع ولا تُشترى.
قال عبد الله بن جدعان: وَيحك يا صهيب! ماذا تقول؟! لقد اشتريتك من بني كلب، واشتراك بنو كلب من الروم أو من العرب لا أدري.
قال صهيب: فإنك لم تشترني، وإن بني كلب لم يشتروني من نفسي، وإنما عدا عليَّ العادون فباعوني من بني كلب، وباعني بنو كلب منك على كره مني لا عن رضًا ولا عن اختيار، فأنتم ترونني عبدًا قنًّا وأنا أراني رجلًا حرًّا، وأنتم تتسلطون على جسمي بما تملكون من قوة ومال وسلطان، ولكنكم لا تجدون لأنفسكم على نفسي سبيلًا.
قال صهيب: هم وما يصنعون، أما أنا فلن أكاتب ولن أشتري حريتي بمال أو عمل؛ لأني ما زلت أراني حرًّا في نفسي.
قال عبد الله بن جدعان: صدق حرب بن أمية، إنك لذكيُّ القلب، جريء الجنان، ولكني أريد …
قال صهيب: تريد أن تمتحنني؟! فإن سلطانك عليَّ يبيح لك أن تعرِّضني لما شئت من محنة، فمرني بما شئت فستراني عند ما تحب، ولكن لا تَعِدْني شيئًا، فإني لا أكره شيئًا كما أكره الأماني والوعود.
قال عبد الله بن جدعان: وإنك لتعلم دخائل الصدور؟!
قال صهيب: لقد نجحت في رحلتي إلى اليمن وأرض النجاشي، وجلبت إليك مالًا كثيرًا، فأنت تود لو أرسلتني في تجارتك إلى الشام وأرض قيصر، وتظن أني سأجلب لك منها أكثر مما جلبت لك في رحلة الشتاء، وأنت تأمنني على مالك وتجارتك لا تخاف أن يصيبك فيهما ضير، ولكنك لا تأمنني على نفسي، وإنما تقدِّر أني قد نشأت حرًّا في بلاد الروم، وأني خليق إن رأيت هذه الأرض أن أقيم بها وألا أعود إليك، وعسى أن أحتجز فيها ما استودعتني من تجارة ومال.
قال عبد الله بن جدعان: أما هذا فلا، إنك عندي أمين على المال والتجارة.
قال عبد الله بن جدعان: لك في قريتنا هذه أرب؟! أي أرب؟! وما ذاك؟
قال صهيب: لو عرفته لأنبأتك به، ولكنني نُبِّئت منذ آخر الصبا وأول الشباب أن محياي ومماتي في أرضكم هذه، أعيش في حرمكم هذا شطرًا من عمري، وأعيش في حرم آخر شطرَه الذي يبقى لي، وأموت وأُدفَن في أرض الحجاز.
قال صهيب: وأنا لا أعرف في بلاد العرب حرمًا غير هذا الحرم، ولكني أحدثك بما نُبِّئْتُ به في آخر الصبا وأول الشباب، وهو حديث سمعته من قس في بلاد الروم، فلم أفهمه ولم أُلْقِ إليه بالًا حتى رأيتني أباع ذات يوم من بني كلب، وسمعت سادتي يتحدث بعضهم إلى بعض بأنهم يبيعونني بثمن ربيح حين يفد عليهم الوافدون من سكان الحرم من قريش، ولو قد شئتُ أن أفلتَ من بني كلب لما أعياني الإفلات، ولكني أردت أن أمتحن نبوءة القس فألفيتها صادقة إلى الآن، وما أرى إلا أنها ستصدُق حتى تبلغ مداها، فأرسلْني في تجارتك حيث شئت، فإني ناصح لك وعائد إليك، واردُدْ إليَّ حريتي إن أحببت، فإني مقيم في أرضكم هذه لا أريم، وأخرجني منها إن أردت حين يصبح الصبح، فإني راجع إليها حين يمسي المساء فمقيم فيها حتى يكون ما لا بدَّ من أن يكون.
قال عبد الله بن جدعان: ما رأيت كاليوم مغامرًا مقامرًا!
قال صهيب: هو ذاك.
قال عبد الله بن جدعان: فاصحبني إلى المسجد، فإني أريد أن أشهد قريشًا على أنك حرٌّ.
قال صهيب: حسبك أن تُشهد نفسك وتُشهدني على أني حرٌّ، فليس لي في شهادة غيرنا على حريتي أرب. وأصبح عبد الله بن جدعان، فتحدث في أندية قريش بأنه قد أعتق غلامه الرومي صُهيبًا وحالفه، وجعله أمينًا على ماله كله وعلى تجارته في رحلتي الشتاء والصيف، فسمعت قريش ولم تنكر لما تحدَّث إليها به حرب بن أمية مما كان لهذا الفتى من حسن البلاء في تجارة مولاه.
•••
وأنفق صهيب زَهرةَ شبابه تاجرًا لعبد الله بن جدعان، يُثمر ماله وينشر تجارته، فيُبْعِدُ بها طورًا في أرض النجاشي وطورًا في أرض قيصر وتارة في أرض كسرى، حتى أصبح عبد الله بن جدعان أكثر قريش مالًا وأوسعها ثراء وأعظمها عطاء وأسخاها يدًا، وحتى قصد إليه الشعراء يبيعونه الثناء بالمال الكثير.
وكان عبد الله بن جدعان كلما سمع ثناء الناس عليه وأرضاه ذلك قال لصهيب: وإنما لك شطر هذا الثناءَ، فأنت الذي أتاح لي أسبابه ويسَّر لي وسائله. وكان عبد الله بن جدعان ربما سأل صهيبًا بين حين وحين: ألا يزال لك في أرضنا هذه أرَبٌ؟
فيجيب صهيب: أربٌ، أي أرب!
فيقول صهيب: لو تبينته لما أخفيته عليك.
•••
٩
•••
•••
قال سُحيم بن سهيل للعبد: لمن تكون هذه الناقة؟ ولمن يكون هذا الهودج؟
قال العبد في لهجة عربية كدرة لا تكاد تبين: إنها ابنة أخت الأمير.
قال سحيم بن سهيل لنفسه وهو يدفع العبد والناقة إلى بيته: حسبي من الغنيمة هذا العبد وهذه الناقة وما تحمل من متاع نفيس، فأما ربة الهودج فليست مني ولست منها في شيء، ولأطْرِفنَّ بها سَيدًا من سادات قريش.
ولم يمضِ شهر بعد ذلك اليوم حتى كان سُحَيم بن سُهَيل عند خَلَف بن وهب الجمحي في ضَيْعة له بالسَّراة، قد أقبل ومعه أميرته تلك الفتاة الحبشية حتى أناخ عند دار خلف، وتلقَّاه أهل الدار كما تعوَّد العرب وكما تعودت قريش أن تَتلقى ضيفها، ولكنه لم يكد يفرغ من تحيته حتى قال: لو تعلم بماذا أقبلت عليك يا سيد جُمَح!
قال خلف: بالخير، وما أقبلتَ قط إلا بخير.
قال خلف: ابنة أخت أبرهة؟
قال سُحَيم: نعم؛ ابنة أخت أبرهة.
قال خلف: ما اسمها؟
وهمَّ خلف أن يسأله عما يريد لها من ثمن، ولكن سُحيمًا قال له عَجلًا: مهلًا أبا أمية، إني لم آتك بهذه الأميرة تاجرًا، وإنما أتيتك بها مطرفًا لك هدية الصديق إلى الصديق.
قال سُحَيم: ويحك أبا أمية! لو عرفت أنك ستلقى هذ الحمامة الرشيقة الأنيقة هذا اللقاء السيئ لآثرتُ بها نفسي.
قال خلف متضاحكًا: هيهات! إنما هو أمرٌ قد دبره من هو أعظم منك ومني سلطانًا، إن هذه الأميرة يجب أن تُستذَلَّ قريبًا من هذا الحرم الذي أراد قومها أن يستذلوه، وإنها ما عاشت لن تعرف الحرِّية ولن تلد الأحرار.
قال خلف وقد أغرق في الضحك: هيهات! إني أربأ بك أنت عنها أيضًا، فقد قلت إنها ما عشتُ لن تلد الأحرار، إن لي في هذه الضيعة إبلًا وشاء يرعاها غلمان لي، فيهم الأسود والأصفر، فسترعى معهم هذه الإبل والشاء.
وهمَّ سُحَيم أن يراجع صديقه في بعض ما قال، ولكن خلفًا حوَّل الحديث، وشغل صاحبه عنه بأنباء اليمن وأحداث تهامة والحجاز.
•••
ودخل خَلَفٌ على أهله بعد أن عشَّى الناس وتقدم الليل، فألفى امرأته محزونة كئيبًا، فلما سألها عن أمرها لم تَرُدَّ عليه جوابًا، وإنما قالت له في لهجة حزينة: ماذا تريد أن تصنع بهذه الفتاة الحبشية الحسناء التي جلبها لك سُحَيم؟
قال خَلَفُ، وكأنه أراد أن يثير في نفسها شيئًا من غيظ: استوصي بها خيرًا أمَّ أمية؛ فإنها ابنة أخت الأمير صاحب الفيل!
قالت أم أمية: فاجعلها لي خادمًا إذن.
قال خلف، وهو يضحك: هيهات! ليستْ خدمتك ذلَّةٌ لها أم أمية.
قالت أم أمية: اجعلها لي خادمًا وسترى كيف أذيقها الذل.
قال خلف: قد فعلتُ، على أن تقيم في ضيعتنا هذه بالسراة، وعلى ألا تَطأ الحرم ولا تدخل مكة؛ فإن رب هذا البيت قد ردَّ هؤلاء الناس عن الحرم، وما أريد أن أخالف عن أمره ولا أن أوطئها الحرم، حتى ولو كانت أمة خادمًا، ولكني سأرْعيها الإبل والشاء فيمن يرعى الإبل والشاء من عبيدنا وإمائنا.
قالت أم أمية: ما أجدرك أن تسود في قريش!
قال خلف: هو ذاك، فخذ هذه الفتاة فألبسها ثياب الرعيان وأرسلها مع أمثالها.
قال رباح: فإني لا أرى لها في هذا إذلالًا ولا امتهانًا، ولكن عندي خُطة أعرضها عليك عسى أن تبلغ بها ما تريد.
قال خلف: هاتِ.
قال خلف، وقد ابتسم قلبه وثغره: فأنت تريد أن تتخذها لنفسك زوجًا.
قال رباح: إن كنت إنما تريد إذلالها وامتهانها وإذلال سادة الحبشة وقادتها فاجعلها زوجًا لغلام زنجي من غلمانك.
قال خلف: قد فعلتُ، فكن لها زوجًا منذ الآن، وإذا ارتفع الضحى فاضمم أهلك إليك.
فقد أزمع الفتى في نفسه أن يسير مع هذه الفتاة سيرة الخادم المهين مع السيدة الكريمة المستعلية التي تملك من أمره كل شيء، وأزمع في نفسه أن هذا الزواج ليس إلا خداعًا لهذا السيد العربي الذي أراد أن يهين أميرة من أميرات الحبشة، وأي بأس عليه في أن ينصح لسيده ما وسعته النصيحة، ويُخلص في خدمته ما وجد إلى الإخلاص فيها سبيلًا، ويقوم على ماله أحسن قيام وأرفقه؛ يدبره ويثمره كأحسن ما يكون التدبير والتثمير، لا يستثني من ذلك كله إلا هذه الفتاة، فإنه لا ينصح فيها لمولاه، ولا يطيع فيها أمره، وإنما ينصح فيها لنفسه وقومه، فيؤثرها بالحب ويختصها بالإكبار والكرامة؛ رعاية لمنزلتها في بلادها تلك البعيدة النائية.
هي زوجه عند خلف وأضرابه من سادة قريش، وهي زوجه عند هؤلاء الغلمان الذين يسوسهم بالحزم ويأخذهم بالعنف، ولكنها مولاته وأميرته فيما بينها وبينه وفيما بينه وبين نفسه.
تفكر الفتاة في هذا فتنأى عنه بجانبها أول الأمر، ثم تعاود التفكير فيه وتعاود النأي عنه، ثم يتصل تفكيرها فيه، ويتصل بر الفتى لها ورفقه بها وإيثاره إياها بالطيب من نفسه وبالطيب من الحياة، إن كان في حياة الرقيق شيء من الطيبات، وإذا الفتاة تجد في نفسها عطفًا على هذا الفتى، ثم ميلًا إليه، ثم احتياجًا إلى مكانه منها، ثم وحشة حين يغيب عنها فيطيل الغياب.
وتمضي أيام وأسابيع والفتى ماضٍ في حبه الخالص وبره الصادق، والفتاة ماضية في هذا الاضطراب القلق المقلق، ثم تحس الفتاة حاجتها إلى أن تأنس إلى الفتى أكثر مما أنست إليه، وإلى أن يأنس الفتى إليها أكثر مما أنس أثناء هذه الشهور الطوال، تود له استطاعت أن تُلغي ما بينها وبينه من الكلفة، وأن تتحدث إليه ويتحدث إليها حديث الرفيق إلى الرفيق، ولكنها لا تجد الوسيلة إلى ذلك قريبة ولا ميسرة، فقلبها يبسم للفتى، وثغرها يريد أن يبتسم فيرده عن الابتسام فضلٌ من حياء، ولكنها مع ذلك تلحظ الفتى حين يُقبل عليها أو حين يتحدث إليها في بعض الأمر لحظًا فيه شيء من دعة ورفق وأنس، ويبلغ لحظها من الفتى أعماق نفسه فيملؤها غبطة وفرحًا ورضًا، ثم لا يزيد على ذلك.
قال الفتى في تواضع وتضاؤل: وما ذاك؟
قالت الفتاة في سخرية مُرَّة لاذعة تمزق القلب: إنك لتعلم أنك حر وأني …
قال الفتى: إنما اتخذتك زوجًا لأرد عنك ما يُراد بك من سوء.
قال رباح مغضبًا: فأنت إذن زوَّجتنيها لتستغلها وتستغلني كما تستغل الإبل والشاء!
قال خلفٌ: إنك لغضوب يا رباح، إني لم أرد أن أسوءك، وإنما أردت أن أرفق بك وأن أعرف بعض أمرك.
قال رباح: فاعرف إذن من أمري ما تحب. ثم ضرب بيده على جبهته وهو يقول: ويلاه! لقد أنسيت أنها أمَةٌ، وأن ابنها سيكون قنًّا مثلها.
قال خلف: وإن لها لابنًا يا رباح؟
قال خلف، وقد بدا في صوته شيء من الأسى: وَيْحك يا رباح! إنك لتشق على نفسك وتشق عليَّ في غير طائل، وايمُ الله ما أردت استغلالك ولا استفحالك! وإنك لتذكر كيف تقدَّمتُ إليك أن تُرعي هذه الفتاة مع رُعْياننا، فتمنيت عليَّ أن أجعلها لك زوجًا، وزعمتَ لي أن ذلك أبلغ فيما كنت أريد لها من الذل، فما خطبك؟ وماذا عَرَض لك؟ …
هنالك ثابت إلى رباح نفسه، وذَكَرَ احتياله في صيانة الأميرة مما كان يُراد بها من سوء، وذكر أنه لم يخدع مولاه ولم يكذب عليه قط إلا هذه المرة، وحَرص على أن يُخفي خداعه وكذبه مخافةَ أن يصيبه ويصيب زوجه بعض الشر، فقال وهو يتكلف ضحكًا خير منه البكاء: وماذا تريد أن أقول لك؟ لقد وقعت في نفسي، فأحببتها.
قال خلف: أحببتها وكنت تريد أن تُذلها؟!
قال خلف في صوته الحزين: هو ذاك، هو ذاك! قد ألغى الرق ما كان بينكما من تفاوت الدرجة واختلاف المنزلة.
قال رباح متضاحكًا: أليس غريبًا أن يكون الرق هو الذي يسوِّي بين الناس، ويُلْغي ما بينهم من تفاوت الدرجة واختلاف المنزلة، وأن تكون الحرية هي التي تفرِّق بين الناس، فتجعل منهم الغني والفقير والقادر والعاجز والقوي والضعيف والسيد والمسود؟ متى ينقضي هذا الليل؟ ومتى يُسفر عن الصبح المشرق الجميل؟
قال خلف: وَيْحك! ماذا تقول؟! أي ليل وأي صبح؟!
قال رباح: الليل هو هذا الدهر الذي نعيش فيه والذي يسوِّي فيه الرق بين الأرِقَّاء، وتفرق فيه الحرية بين الأحرار والعبيد، ويتمايز الناس فيه بأعمالهم وبلائهم، لا بمنازلهم وحظوظهم من الثراء.
قال خلف، وقد أغرق في الضحك: لقد تكهنت يا رباح منذ اليوم، دع ليلك المظلم وصبحك المشرق، وحدثني عن صبيك هذا الذي كنت تريد أن تئده منذ حين، ما اسمه؟ وما شكله؟
قال رباح: إنك لتسخر من ليلي وصبحي، وإن ليلي لمنجلٍ، وعسى أن ندرك انجلاءه، وإن صبحي لمسفر وعسى أن ندرك إسفاره؛ فإن لم ندركه نحن فسيدركه ابنك أمية وسيدركه ابني بلال.
قال رباح وهو يهز رأسه ساخرًا: أقبلتْ لكم غازية! أقبلتْ لكم غازية! وماذا كانت تعرف من أمر الغزو؟! لقد كانت فتاة غافلة لا تكاد تعقل نفسها، ولكن الكبار يأثمون فيُؤخَذ الصغار بآثامهم.
قال خلفٌ: ما رأيت كاليوم حكيمًا، انصرف الآن عني واستقبل حياتك سعيدًا موفورًا، ولا تذع حكمتك هذه في الناس، فيصيبك منها بعض ما تكره.
وعاش رباح وحمامة ما شاء الله أن يعيشا، قد رضيا من الحياة بما قُسِم لهما، وفرغ لابنيهما بلال وأخيه — الذي نَسِي التاريخُ اسمَهُ وذكر بعض أمره — يُنشِّئانهما كما تعود أمثالهما تنشئة أبنائهم في منزلة وَسَط بين منزلة الأحرار ومنزلة الرقيق. ثم انصرفا عن هذه الدنيا، وتركا فيها هذين الغلامين يعملان في ضيعة خلف، ويسعيان في خدمة جُمَحَ كلها.
وعاش خلف ما شاء الله أن يعيش، ثم انصرف عن هذه الدنيا وترك ابنه أمية فتى قويًّا جَلدًا، وارثًا مع إخوته لما ترك من العروض والأرض ومن النعم والرقيق.
لم يشهد رباح ولم تشهد حمامة ولم يشهد خلفٌ انحسار الليل المظلم، وإسفار الصبح المشرق، وإنما رأى بلال إسفار الصبح فامتلأ قلبه به نورًا، ورأى أمية إسفار الصبح؛ فامتلأ قلبه به ظلمة.
ويقبل أمية ذات يوم ليشهد ما كان أبو جهل يصب على آل ياسر من العذاب، فيقف ثم ينظر ثم يرى ثم يهز رأسه ثم يقول لأبي جهل: إذا كان الغد فأقبل على دار جُمحَ لترى كيف نعذِّب الصابئين من مستضعفينا، وكيف نعذب زعيمهم بلالًا؟!
١٠
قال أحد أولئك الرهط من بني عامر لأم أنمار: ما أنت وذاك؟! ما رأينا كاليوم امرأة سَوْء! ولو كنت في غير هذا الحرم لمسَّك منا بعض ما تكرهين.
قال أحد العامريين: لو أهمَّك من طعامه ومؤنته ما يهمنا لما رَحمته ولا رَفَقت به! إنه والله لغلامُ سَوْء، يكلفنا من المئونة ما يكلفنا ثم لا يُغْنِي عنا شيئًا، ثم لا يكفيه ذلك حتى يُخالف عن أمرنا ويأبى أن يتبعنا، كأنما أعجبته هذه القرية مع أنه لم يُعجِب من أهلها أحدًا.
قالت أم أنمار: فإنه قد أعجبني.
قال العامري: فأدِّي إلينا ثمنه ثم خذيه، لا باركت الآلهة فيه. وكانت بينهم وبين أم أنمار مساومة طالت والْتَوت، وكثر فيها الأخذ والرد والجذب والشد، وانتهت بشراء أم أنمار للغلام بثمن بخس دراهم معدودة. وانصرف العامريون وقد ألقوا عن أنفسهم عبئًا ثقيلًا، وعادت أم أنمار إلى دارها في حي بني زهرة تجر بيدها هذا الغلام الضئيل النحيل الذي مسه الضر وبلغ منه الجهد وكاد يقتله الجوع، وكانت كلما مرت بجماعة من رجال بني زُهرَة أو نسائهم قال لها أولئك أو هؤلاء: وَيْحك أم أنمار! ما هذا الطفل الذي تجرينه؟! فتجيب: وما أنتم وذاك؟! غلام اشتريته لأؤمنه من خوف، وأطعمه من جوع، وأتخذه لي خادمًا، ولابني رفيقًا.
•••
وكانت أم أنمار هذه امرأة خُزَاعية قد ألمتْ بمكة، وتزوَّجت من بعض أحلاف زُهرة فيها، وعاشت تسعى بأداتها في دور قريش، وكان الشباب قد انصرم عنها، وجعلت الشيخوخة تسعى إليها مبطئة، وكانت كثيرة الصمت، إلا أن تُثار إلى الكلام، وهناك لا تجد إلى السكوت ولا يجد إليها السكوت سبيلًا.
فلما عادت مساء ذلك اليوم وجدت ابنها وغلامها قد تصرفا في فنون اللعب حتى أدركهما بعض الجهد، فأطعمتهما وسقتهما، ثم أخذت تتحدث إلى الغلام في دعة ورفق. قالت له: ما اسمك يا بني؟ قال الغلام: خبَّاب.
قالت أم أنمار: خَبَّاب ابن مَنْ؟
قال الغلام: خباب بن الأرَت. ولكنه لم ينطق الراء كما ينطقها الصبية حين يكمل خَلْقُهم وتستقيم ألسنتهم، وإنما انحرف بها بين شيء إلى اللام والياء.
قالت أم أنمار: خباب بن الأرت! من أي أحياء العرب أنت يا بني؟
قال الغلام: أحياء العرب! أحياء العرب! لا أدري.
قالت أم أنمار: أأعجميٌّ أنت؟
قال الصبي: أعجمي؟ أعجمي! لا أدري.
قالت أم أنمار: وما اسم أمك يا بني؟ هنالك انتحب الصبي حتى رقَّ له قلب العجوز، فكفَّت عن سؤاله، وجعلت ترفق به وتكفكف دمعه حتى ثاب إليه شيء من طمأنينة وهدوء، ثم آوته إلى مضجعه، وما زالت تلطف به حتى أسلمته إلى النوم، وقد أرجأت تَعرُّف قصته إلى غد أو بعد غد.
وإذا خباب يَرُدُّ على صاحبه فيتلو: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ * إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ. ما هذا القول؟ إنه ليس من عندك، أين سمعته؟ أو ممن سمعته؟ وهل لي إلى أن أسمع مثله من سبيل؟
قال صاحبه: نعم، إن شئت فاصحبني إلى الأمين؛ فإنه يتلو علينا هذا القول الذي يتنزل عليه من السماء.
١١
أقبل مسعود بن غافل مع الحجيج من هُذَيْل، فنزل في مكة على عَبد بن الحارث بن زُهرةَ بن كلاب، وكان بينهما صهرٌ، فأقام مسعودٌ عند أصهاره حتى انقضى الموسم، فلما همَّ بالرجوع إلى موطنه من أرض هذيل قال لمضيفه: ألستَ ترى أن عهدك بأرض هذيل بعيد، وأن لك عندنا ابنة لها عليك بعض الحق، وأن لابنتك هذه ابنة ليس حقها عليك بأقل من حق أمها؟
قال عبد: وصلتك رحمٌ! فإني لا أخاف شيئًا في أرض هذيل، ولا يخاف غيري شيئًا في أرض هذيل، ولكننا لا نبلغ أرضكم حتى نمر بحي من أحياء قيس أو أحلافها.
قال مسعود: ويحك! فإن شئت فاجعل بينك وبيني حلفًا يحميك من العاديات في كل أرض تصل إليها يد هذيل، ويحميني من الغوائل في كل أرض تبلغها يد قريش.
قال عبد: قد فعلت.
•••
وقد سعى عبد الله بن مسعود على رزقه، والتمس القوت من مصادره، فعرض نفسه على كثير من الناس، وجرَّب كثيرًا من فنون العمل، ولكن شيئًا واحدًا راقه وأعجبه ولاءم طبيعته الهادئة ونفسه الراضية وقلبه المطمئن السليم، فأصبح راعيًا لعقبة بن أبي مُعيط، يرعى عليه غنمات له في ظاهر مكة، يغدو بها مع الصبح ويروح بها مع الليل، وينفق نهاره معها راضيًا وادعًا، قد خلا إلى نفسه، فأمن غائلة الناس وأمن الناس غوائله.
وإنه لفي غنيماته تلك ذات يوم، وإذا رجلان يقفان عليه، وقد ظهر على وجهيهما شيء من خوف أخذ يذهب شيئًا فشيئًا، فيستريح الرجلان ساعة مما أدركهما من الجهد، وكأنهما قد اضطرَّا إلى كثير من العَدْو أمام قوم كانوا يجدون في آثارهم، وينظر الفتى إليهما صامتًا لا يقول لهما شيئًا. وما الذي يعنيه من أمرهما، وهو إنما خلا إلى غنيماته تلك ليصرف نفسه عن أمر الناس ويصرف الناس عن أمره؟! ولكن أحد الرجلين يسأله، فيقول: يا غلام، هل عندك من لبن تسقينا فإنَّا ظماء؟
قال عقبة: وَيْحكَ يا فتى هذيل! ماذا أنكرت منا أو منها؟!
وقد طال مكث الفتى بهذا المكان ساكتًا ساكنًا يدير طرفه من حوله، ثم يُقلِّب طرفه في السماء لا يكاد يفكر في شيء، أو لا يكاد يحقق شيئًا مما يفكر فيه، وإنما يرى في نفسه أول الأمر، ثم من حوله بعد ذلك، صورة الرجل المطمئن معتقلًا شاته تلك ماسحًا ضرعها متكلمًا بذلك الكلام الذي سمعه ولم يعقله، والذي يحاول أن يذكره فلا يجد إلى ذكره سبيلًا.
وينصرف الفتى عن مكانه ذاك حين تقدَّم الليل، ولكنه لا يعود إلى مكة، وإنما يهيم فيما حوله من الأرض مستأنسًا إلى وحشته حريصًا على وحدته، لا يحس جهدًا ولا تعبًا ولا حاجة إلى النوم، ولا يحس ظمأ ولا جوعًا، وإنما يجد في فمه ذوق اللبن، ويرى في عينه صورة ذلك الرجل المطمئن الوادع، ويسمع في أذنيه صوت ذلك الرجل ممتلئًا عذبًا يجري بكلامه ذاك الذي لا يذكره كما يجري الينبوع الرقيق الصافي بالعذب الزلال. وأنفق الفتى ليلته تلك لم يظله سقف ولم يُئْوِه مضجع، حتى إذا تجلَّت شمس النهار عاد إلى مكة حين يغدو منها الرعيان. ولم يستقر قراره حتى عرف ذلك الرجل المطمئن وصاحبه، ومكانهما فيسعى حتى يجد محمدًا رسول الله، فإذا دنا منه ألقى النبي إليه نظرة مطمئنة، وابتسم له، والفتى يدنو منه حتى يبلغه، ثم يجلس بين يديه، ثم يقول له في صوت رقيق يضطرب اضطرابًا خفيًّا: علمني من هذا الكلام الذي سمعته منك أمس.
قال النبي مبتسمًا له: إنك غلام مُعلَّمٌ. ومنذ ذلك الوقت، استقر في نفس الفتى أنه لم يُخلَق لنفسه ولا لأهله ولا لغنيمات عقبة بن أبي معيط، وإنما خُلِق ليلزم محمدًا هذا الأمين، فيسمع منه ويحفظ عنه ويدعو بدعوته.
وهمَّ ابن مسعود أن يرد عليه مقالته، ولكن أبا جهل لا يمهله، وإنما يعلوه بالقوس فيشجه، وقد أخذ الدم يتحدَّر على وجهه، ولكنه لم يحفل بذلك، وإنما يسرع في خفة إلى أبي جهل وهو يقول: فأما إذا فعلت ما فعلت فخذها وأنا فتى هذيل! ثم يدفع في صدر أبي جهل بإحدى يديه ويلطم وجهه بيده الأخرى، ثم ينصرف عنه مستأنيًا متمهلًا، ويتركه قائمًا واجمًا قد أخذه الذهول. لم يكن يُقدِّر أن حليفًا من أحلاف قريش يستطيع أن يدفع في صدره ويلطم حُر وجهه، ثم تثوب إلى أبي جهل نفسه، فيصيح بابن مسعود: لن تُفلت بها يا راعي الغنم.
قال ابن مسعود: ولن تُفلت بما فعلت يا عدوَّ الله.
ويمضي كلا الرجلين إلى أصحابه، فأما ابن مسعود فيلقى رهطًا من أصحاب النبي، فيقول لهم وعلى ثغره ابتسامة وفي عينيه دمعتان تترقرقان: لا مُقامَ لي بمكة منذ اليوم؛ فقد لطمت وجه أبي جهل، والله إني بالهجرة لفرح، وإني بها لمحزون: فيها ثواب الله ومغفرته، وفيها فراق رسول الله دهرًا لا أدري أيقصر أم يطول. وأما أبو جهل، فيعود إلى نادي قومه وقد انكسرت نفسه واستخذى ضميره، ولكنه على ذلك يُظهر الغضب والكبرياء ويقول لأهل ناديه: ويحكم يا بني مخزوم! إن كانت لكم بقية من عزة فأمكنوني من ابن أم عبد؛ فإنه قد أتى إليَّ ذنبًا لا يغسله إلا دمه. ويلتمس القوم عبد الله بن مسعود في مكة وما حولها فلا يظفرون به ولا يَقْدِرون عليه، ولا يرى أبو جهل خَصمَه إلا يوم بدر.
١٢
وتمر ثُبيْتَة بنت يَعار الأوسية بسلَّام ذاتَ ضحى وهو يعرض صبيه هذا في بعض أسواق يثرب، فلا تكاد تنظر إلى الصبي حتى ترحمه، ثم لا تكاد تُطيل النظر إليه حتى تقع في قلبها الرغبة في شرائه.
قالت ثبيتة: ما اسم صبيك هذا يا ابن حبير؟
قال سلَّام: زعم من باعه لي من بني كلب أن اسمه سالم.
قالت: سالم ابن من؟
قال سلَّام: لا أدري، ولكني اشتريته من كَلْبِيٍّ يُسمَّى معْقِلًا، وزعم لي أن أسرته أسرة شريفة أقبلت …
قالت ثبيتة: أقبلت من إصطخر فنزلت الأبلة، وزارعت النبط، وصرَّفت تجارتها في أطراف العراق، قد حفظنا ذلك عن ظهر قلب؛ فإني له مشترية، فبكم تبيعه مني؟
قال سلَّام وقد ابتسم قلبه ورضيت نفسه، ولكنه استبقى في وجهه الجد والحزم: فإني لا أريد إلا ما أديت من ثمن وما أنفقت عليه منذ اشتريته. وتتصل المساومة بينها وبينه، وتعود إلى دارها بالصبي، وقد ربح اليهودي فأحسن الربح، وربحت هي بشراء هذا الصبي ربحًا لا يُقوَّم بالدراهم ولا بالدنانير.
ذلك أنها لم تشترِه متجرة ولا مبتغية كسبًا، وإنما آثرت بشرائه الخير والبر والمعروف، لم تُرِد إلى شيء آخر.
وكانت تقول لنفسها في نفسها وهي عائدة بالصبي إلى دارها: هذا غلام قد اختُطِف من ملك كسرى، لم يستطع جند كسرى أن يحموه ولا أن يَردُّوا عنه العاديات، فكيف بنا نحن في يثرب، هذه المدينة الخائفة التي يحيط بها اليهود والأغراب من جميع أقطارها، والتي يسلُّ بعضُ أهلها السيفَ على بعض، والتي لا يأمن أهلها أن تدور عليهم دائرة، أو تنوبهم نائبة، أو يُلم بهم خطبٌ من الخطوب؟! فلما بلغت الدار واستقرت فيها، وعُنِيَتْ بالصبي حتى أمن بعد خوف، وأنس بعد وحشة، وطعم بعد جوع، قالت لنفسها في نفسها: هيهات أن أتخذ الأزواج أو أن يكون لي من الولد من يصيبه مثل ما أصاب هذا الصبي، ومن أذوق فيه من الحزن والثكل مثل ما ذاقت في هذا الصبي أمُّه تلك الفارسية ونساء أمثالها كثير! ولو استجابت الحياة لثبيتة لأنفقت أيامها معنية بهذا الصبي الفارسي، ولاتخذته لنفسها ولدًا أو شيئًا يشبه الولد، ولكن الناس يقدِّرون ويدبرون، والأيام تجري على غير ما قدَّروا ودبروا.
فقد عُنِيَتْ ثُبَيْتة بسالم حتى ربا جسمه ونما عقله، وأصبح غلامًا ذكي القلب، سريع الحس، حديد اللسان، كما قَدَّر اليهودي — أو أكثر مما قدَّر — وكانت ثُبيتة له محبة وبه مغتبطة وعنه راضية، وقد خطبها الرجال من الأوس والخزرج ومن أشراف البادية حول يثرب، فامتنعت عليهم، واعتلت على أهلها في ذلك حتى أعيتهم، ولكن وفد قريش يمرون بيثرب مُنصرفَهم من الشام ذات عام، فيمكثون فيها أيامًا، ويسمع أبو حذيفة هُشيم بن عُتبة بن ربيعة بحديث ثبيتة هذه وقصة غلامها ذاك، فيعجبه ما يسمع، ثم يحب أن يتزيد من أخبارها فَيُلِمَّ بقومها، ويقول لهم ويسمع منهم، فتقع ثبيتة من نفسه موقعًا حسنًا، مع أنه لم يرها ولم يسمع لها، وإنما سمع عنها فرضي. وإذا هو يخطب هذه الفتاة الأبيَّة، فتمتنع عليه أول الأمر، حتى إذا علمت بمكانه من قريش وبأنه من أشرافها وذوي المنزلة الرفيعة فيها، وبأنه من أصحاب البيت وأهل الحرم الذي رُدَّ عنه أصحاب الفيل، والذي لا يعدو عليه إلا الفجرة الآثمون، شكت يومًا ويومًا، ثم أصبحت مستجيبة لخطبة هذا المكي.
ويعود أبو حذيفة بأهله وبسالم إلى مكة في وفد قريش، فلا يكاد يستقر فيها حتى ينكر من أمرها بعض الشيء. لقد أصبح فغدا على أندية قريش، ثم أمسى فراح إلى أندية قريش، ولكنه يعرف من أمر هذه الأندية كثيرًا، وينكر من أمرها كثيرًا، تريد نفسه أن تطمئن وأن تأمن وأن ترضى، كما تعوَّدَتْ من قبل، ولكنها لا تجد إلى الطمأنينة ولا إلى الأمن ولا إلى الرضا سبيلًا. يحس أبو حذيفة كأن شيئًا ينقص هذه الأندية، وكأن حدثًا قد حدث في مكة لا يدري أيسيرٌ هو أم خطير، ولكن شيئًا قد حدث فتغيَّر من أمر قومه تغييرًا يحسه ولا يحققه. ثم يتلمس بعض صديقه في أندية قريش فلا يجدهم، يسأل: أين عثمان بن عفان الأموي؟ وأين طلحة بن عبيد الله التيمي؟ وأين فلان وفلان من ذوي مودته؟ فلا يجيبه قومه بالتصريح، وإنما يُؤْثرُ بعضهم الصمت، ويذهب بعضهم مذهب التورية، ويلوي بعضهم ألسنتهم بأحاديث لا تُفصح ولا تُبين.
ويرى أبو حذيفة ويسمع، فيبعد الأمد بينه وبين الطمأنينة والأمن والرضا، ثم يصبح ذات يوم وقد انجلت له بصيرته، ووضح له وجهُ الحزم من أمره. إن صديقه أولئك بمكة لم يفارقوها ولم يبرحوا أرض الحرم، فما له يسأل عنهم ولا يُلمُّ بهم؟! ولا يكاد هذا الخاطر يخطر له حتى يقصد قصْدَ فلان أو فلان من أولئك الصديق.
وقد ألمَّ بعثمان بن عَفانَ وكان له خليلًا على ما كان بينهما من تفاوت في السن، كان عثمان قد تخطَّى الأربعين أو كاد، وكان أبو حذيفة لم يبلغ الثلاثين بعدُ، ولكن الود كان بينهما قديمًا متينًا، زادته الصحبة في الأسفار قوة وأيدًا، فلما بلغ أبو حذيفة دار عثمان ودخل عليه تلقاه صديقه بما تعوَّد أن يتلقاه به من البشر والبشاشة ومن الرفق واللين، ولكن أبا حذيفة آنس من صديقه على ذلك كله شيئًا من تحفظ واحتشام.
قال عثمان: لم أنشط لهذه الأندية، ولا لما يدور فيها من حديث.
قال أبو حذيفة: فهل أنكرت من قومك شيئًا؟ وهنا سكت عثمان ولم يُجب. فأعاد عليه أبو حذيفة مقالته، فأمعن عثمان في الصمت.
وينظر أبو حذيفة فإذا وجه صاحبه قد ارْبدَّ وظهر فيه غضَبٌ لم يألفه منه قط. قال أبو حذيفة: وَيْحَك أبا عمرو! إنك لتعرف ما بينك وبيني من الود، وإنك لي لخليل وفيٌّ أمين، فأظْهِرني على ذات نفسك.
قال عثمان في صوت وادع لين: فإن شئت أن تستبقي ما بيننا من الود فلا تذكر اللات والعزَّى وهذه الآلهة التي لا تُغني عنكم شيئًا.
قال أبو حذيفة: ما أراك أبا عمرو إلا رشيدًا، ولكني لم أفكر في هذه الأشياء قط، وإنما وجدت قومنا يعبدون هذه الأنصاب فصنعت صنيعهم.
قال أبو حذيفة: فقد وجب علينا أن نهتدي ونَتبع الحق، متى تستصحبني إلى محمد؟
قال عثمان: الآن إن شئت.
وأمسى أبو حذيفة مسلمًا، ودخل بإسلامه على ثُبيتة، فلم تكد تسمع له حتى آمنت بمحمد وما جاء به. وسمع الغلام سالم حديثهما فمالت إليه نفسه، وإذا هو يؤمن كما آمنا، ولم يتقدَّم الليل حتى زادت بيوت الإسلام في مكة بيتًا.
وتمضي أيام قليلة وإذا ثبيتة تعلم أن محمدًا يدعو إلى إعتاق الرقيق، ويَعِد الذين يَفكُّون الرقاب مغفرة من الله ورحمة ورضوانًا، فتدعو إليها غلامها ذاك الفارسي وتقول له: اذهب سالم؛ فإني قد سيبتك لله عز وجل، فَوَالِ مَنْ شئت.
قال سالم لأبي حذيفة: فهل لك في أن تكون لي وليًّا؟
قال أبو حذيفة: هيهات! لن أتخذك مولى، وإنما أنت ابن لي منذ اليوم.
١٣
دخل عبد الله بن سُهَيل بن عمرو على أخته سَهْلة بنت سُهَيل زائرًا عند زوجها أبي حُذيفة بن عُتبةَ بن ربيعة، فرأى منها إقبالًا عليه أكثر مما تعوَّدَ أن يرى منها منذ حين، ووقع ذلك من نفسه موقعًا حسنًا، فجعل يُحدِّث أخته بما شاء من أحاديث قومه، يريد أن يسرها وَيُفكهها؛ يعبث بالشيوخ وذوي الأسنان من قريش طورًا، ويتندَّر بمرح الشباب من قريش طورًا آخر، وأخته تسمع له فتضحك وتعجب، وتَهمُّ أن تشاركه في بعض حديثه وأن تذكر معه أيام الصبا، ولكنها لا تلبث أن تكف نفسها عن ذلك وأن تُؤثر الصمت، وتدعوه إلى أن يقول. وقد لاحظ عبد الله أن أخته على نشاطها له وإقبالها عليه ربما عرض لها شيء من ذهول بين حين وحين، كأنما كانت تغيب عنه ثم تثوب إليه.
وقد أنكر الفتى من أخته نشاطها وذهولها جميعًا، ولكنه أسرَّ ذلك في نفسه ولم يُبْدِهِ لها، ومضى فيما كان يَسُوق من حديث ضاحكًا مضحكًا، حتى إذا أنفق معها ساعة غير قصيرة همَّ أن ينصرف، وقامت أخته تريد أن تسعى معه مشيعة إلى فناء الدار، ولكن عبد الله ينحني على أخته يريد أن يضمها إليه وأن يُقبِّلها، فَتُذعَر سهلة وتتراجع شيئًا، وينظر إليها عبد الله في شيء من حيرة وَدَهَش، وتنظر هي إلى عبد الله في دهش وحيرة، ثم يعود عبد الله إلى مكانه فيجلس، وتظل سهلة قائمة واجمة كأنها لا تدري ماذا تصنع ولا تعرف كيف تقول.
قال عبد الله بعد هنيهة: إن أمرك لعجيب منذ اليوم يا سهلة، أليس قد أزمعتم الهجرة من غد؟!
وكانت سهلة تسمع لهذا الحديث وآيات الروع والحزن والرضا تختلف على وجهها، وهي مع ذلك قائمة تسمع من أخيها ولا ترد عليه جوابًا.
قال عبد الله: وقد ظننت إذن وظن زوجك أن قريشًا عنكما غافلة، هيهات! إن عُتبةَ والوليد بن عتبة ليعلمان من أمر أبي حذيفة مثل ما يعلم سهيل وعبد الله من أمر سهلة، وإن قريشًا لتعلم من أمركما مثل ما يعلم أبواكما، ولكن قريشًا لا تحبسكما؛ لأن لها في أبويكما وأخويكما أربًا، ولكننا نحن لا نحبسكما أيضًا؛ لأنا نُؤثركما بالحب في أعماق نفوسنا ودخائل قلوبنا، ونكره لكما حياة التستر والاستخفاء هذه التي تحتملانها في مشقة أي مشقة، وعناء أي عناء، ولا نضيق بأن تجدا في هجرتكما هذه أمنًا بعد خوف وفرجًا بعد حرج، ولولا أن تقول قريش: ضَعُفَ سهيل فلم يُطِقْ على فراق ابنته صبرًا لما زرتك الآن وحدي ولزارك أبوك فنظر إليك قبل فراق ليس يدري ولست تدرين أيطول أم يقصر، ولكنه يرى كما أنك ترين أوله، ولا يعرف كما أنك لا تعرفين آخره، وليس يعنيني ما تقول قريش فيَّ، وعسى أن أجد في مقت قريش لي رضا، وفي استخفافها بي حبورًا. أسمعت الآن عني؟
قالت سهلة: ألم ترَ أنك منذ دخلت عليَّ إنما تتحدث وحدك وأنا أسمع ولا أرد عليك؟!
قال عبد الله: بلى! وهذا بعض ما أثار في نفسي ما ترين من العجب، ولكني لم أفهم هذا الذعر الذي اشتمل عليك حين أردت أن أضمك وأن أُقَبِّلَك مُوَدِّعًا.
قالت سهلة ولم تستطع أن تمنع ابتسامة حلوة ارتسمت على ثغرها وضحكة عذبة جرت في صوتها: فإنك مُشْرِك، وما أحب مَسَّ المشركين.
قال عبد الله وقد ظهر في وجهه الحزم: أوقَدْ بلغ بكم حب محمد والاستجابة لدينه أن تصدُّوا عن إخوانكم؟!
قال عبد الله، وقد أطرق مفكرًا: هو ذاك إذن! محمد أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم ومن الدنيا كلها ومما فيها من كل شيء! ومحمد أحب إليكم من أنفسكم!
قالت سهلة: ولو قد أحببت محمدًا كما نحبه لعرف قلبك الحب الذي يُعطي ولا يريد أن يأخذ، والذي لا يبتغي لنفسه ثمنًا من لذة الجسم أو نعيم النفس.
ويدخل أبو حذيفةَ فيرى عبد الله مطرقًا مغرقًا في التفكير، ويرى امرأته سهلة قائمة تنظر إليه نظرات حازمة قوية، ولكن فيها شيئًا من أمل وشيئًا من حنان. فينظر أبو حذيفة إلى امرأته، ثم ينظر إلى عبد الله، ثم يقول في صوت عميق: هل تنبئينني يا سهلة بأن الله قد أنزل السكينة على قلب أخيك؟
وَهَمَّتْ سهلة أن تجيب، ولكن عبد الله يرفع رأسه ويسبق أخته إلى الحديث فيقول: السكينة! السكينة! … ما عسى أن تكون هذه السكينة؟
إن لكم لألفاظًا تديرونها في أفواهكم وتَقرَعون بها آذاننا، ولكنا لا نحصِّل لها معنى، هذه تزعم أنكم تحبون محمدًا أكثر مما تحبون آباءكم وإخوانكم وأنفسكم، وأنت تسألها هل أنزل الله على قلبي السكينة، ما عسى أن تكون هذه السكينة؟! وما عسى أن يكون محمد قد صنع بقلوبكم حتى استأثر بها من دون آبائكم وإخوانكم وأنفسكم؟!
•••
ولا يبلغ أبو حذيفة آخر هذه الآيات حتى يهدأ رَوْع الفتى ويثوب إلى قلبه الأمن، وينظر إلى أبي حذيفة مبتسمًا، ويقول في صوت تَشيع فيه دُعَابة حلوة: وَيْحك! إني أحس كأن سكينتكم هذه تسعى إلى قلبي، أذاهبٌ أنت بي أبا حُذَيفة إلى محمد لأتلقاها منه؟
وأمسى عبد الله مُسْلِمًا قد عاد إلى أخته، وجلس إليها وإلى أبي حذيفة، وسالم يسمع منهم القرآن. تقول له سهلة حين مُنصرفه عنها حين تقدَّم الليل: أمُهاجرٌ أنت معنا يا أخي؟
قال عبد الله: عزيزٌ عليَّ أن تنأى بكم الدار، ولكني لم أسمع من رسول الله القرآن وحديثه إلا اليوم، وإني لأوثر أن ألزمه ما وسعني لزومه، فاذهبوا راشدين.
وأصبح أبو حذيفة فانطلق بامرأته وابنه سالم فيمن انطلق إلى أرض الحبشة من المسلمين، حتى إذا كانت الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة كان عبد الله بن سهيل أحد المشاركين فيها، وقد جلس سهيل في داره محزونًا كئيبًا، وافتقدته قريش حين رأت تخلفه عن أنديتها أيامًا، فأقبل عُتبة بن ربيعة وشَيبة بن ربيعة وأبو جهل عمرو بن هشام فاستأذنوا عليه، ولو قد أطاع نفسه لمنعهم الإذن، ولكن للسادة من قريش حقوقًا لا يُلتوَى بها، فيدخل القوم على سهيل ولا يكادون يتحدثون إليه حتى يروا حزنه وضيق صدره.
يقول عتبة بن ربيعة: ويحك أبا عبد الله! لقد هاجر ابني فما ساءتني هجرته، فيقول سهيل: وهل جرَّ علينا الشر كله إلا ابنك؟! لم يَكْفِهِ أن يُصْبئ ابنتي حتى أصبأ أخاها وانصرف بهما جميعًا إلى أرض النجاشي.
وما زال القوم بسهيل حتى يخرجوه ويردوه إلى ما أَلِف منهم وأَلِفوا منه، ويمضي من الأيام والأشهر ما شاء الله أن يمضي، وهؤلاء نفر من مهاجرة الحبشة يعودون إلى مكة، منهم من يُعلن عودته ومنهم من يستخفي بها، وعاد في هؤلاء النفر عبد الله بن سهيل؛ فيلقاه أبوه أحسن لقاء، ويتحدث إليه حديث البشاشة والبشر، والفتى متحفظ متأثم، كأنه يرى في الاستماع لحديث أبيه بأسًا، ولكن سهيلًا يضرب إحدى يديه بالأخرى، فما هي إلا أن يستجيب له أعْبُد شداد يُحيطون بعبد الله، فيوثقونه، ثم يحملونه سجينًا إلى أعماق الدار، ومنذ اليوم يذيقه أبوه من الفتنة شيئًا عظيمًا.
١٤
لم تعرف مكة في تاريخها الطويل القديم يومًا كذلك اليوم المشهود، وإن كانت قد عرفت بعده أيامًا مشهودة ليست أقلَّ منه شدة وَنُكرًا.
قال الحارث بن هشام لابن أخيه عكرمة بن أبي جهل: ألم ترَ إلى سُمَيَّة كيف كان جسمها يتلوى حين كانت السياط تُلهبه بغير حساب، دون أن يفترَّ فمها عن صيحة أو أنَّة أو شهيق، وهي التي كنا نُثيرها إلى الخوف أو نثير الخوف إليها بأيسر ما كنا نأتي من الحركات، نعبث بها ونسخر منها حين نراها تثور كأنما دُفِعَتْ من الأرض بلولب خفي؟! قال عكرمة: لم أعجب لشيء كما عجبتُ لزوجها الشيخ الذي مُزِّق جسمه بالسياط وحُرِّق بالنار ليذكر الآلهة بخير، فلم يظفر منه أبي إلا بشتم الآلهة والاستهزاء بها.
أما ابنه عمار فقد سكت صوته، وسكن جسمه للعذاب، وارتسمت على ثغره ابتسامة حلوة مُرة، ما أدري أكانت تُصَوِّر الرضا أم كانت تُصَوِّر الغيظ! ولكنها ارتسمت في نفسي أشد مما ارتسمت على ثغره، وما أرى أنها ستغيب عني آخر الدهر.
قال صَفْوان بن أمية: فكيف لو رأيتما بلالًا، ذلك الحبشي والفتية من الأحرار والرقيق يتنازعون جسمه يأخذ كل منهم بطرف، كأنما كانوا يريدون أن يقتسموه بينهم، وهو في أثناء ذلك لا يئن ولا يشكو، وإنما يُثْنِي على محمد، ويذكر إلهه ذاك بالخير.
قال الحارث بن هشام: اسكتْ لا يَسمعك ابن عمك فيصيبك منه بعض ما تكره.
وأما المسلمون الذين صُرِف عنهم العذاب ونُحِّيَتْ عنهم الفتنة، فكانوا يشهدون وفي نفوسهم ألمٌ وأملٌ، وفي قلوبهم حزنٌ وثقة، قد اطمأنوا إلى أن العاقبة لهم، واستيقنوا بأن الله منجز وعده، ولكنهم على ذلك يرحمون إخوانهم، وربما تمنوا لو كانوا مكانهم فاحتملوا عنهم بعض ما يحتملون من الأذى.
وربما كان أصدق وصف لمكة حين أمسى المساء من ذلك اليوم أن أكثر أهلها كانوا حائرين، يرون الفتنة ولا يدرون أيعرفونها أو ينكرونها؛ لأنهم لا يعرفون أخيرٌ هي أم شر! وأن أقل أهلها كانوا قد صَدقُوا الله ما عاهدوا عليه، فرضيت نفوسهم واطمأنت قلوبهم واستيقنوا أن العاقبة للمتقين، ولو كُشِف الغطاء عن أهل مكة لرأوا حين تقدَّم الليل من ذلك اليوم أن من حول مكة أعيادًا يحفل بها الشياطين، وقد استخفهم الفرح واستهواهم الطرب، ورأوا أصحاب محمد يُعذَّبون أشد العذاب وأقساه، فغرَّهم بالله وبأنفسهم الغرور، وظنوا أن فتنة هؤلاء الرهط ستحفظ لهم سلطانهم على مكة، وستمكن لهم في قلوب قريش.
وأصبح أصحاب النبي ﷺ فتحدَّثوا إليه من أمر الفتنة بما علموا، ولكنه تحدَّث إليهم من أمرها بما لم يعلموا، لا لأنه شهد الفتنة، أو رأى كيف كان تُصَبُّ على المستضعفين من أصحابه، بل لأن أمر الفتنة كله قد أُوحِي إليه.
قال أمية: وما أنت وذاك يا ابن أبي قحافة؟! عبدٌ لنا، نَصْنَعُ به ما نشاء.
قال أبو بكر: هو عبد الله قبل أن يكون عبدك يا أمية، إنك إن تأتِ على نفسه تأثَمْ وتُضَيِّعْ مالكَ، فهل لك في شيء خير من ذلك؟
قال أمية: وما ذاك؟
قال أبو بكر: أشتري منك هذا الرجل، واحتكم في ثمنه.
قال أمية وقد ضجر ببلال وتأديبه وتعذيبه: قد فعلتُ، فأدِّ إليَّ ثمنه سبع أواقٍ.
قال أبو بكر: فخلِّ سبيله وَرُحْ معي حيث أؤدِّي إليك مالك.
قال أمية: أدِّ إليَّ مالي أخلِّ عنه.
قال أبو بكر: ويحَكَ يا أمية! متى عهدْتني ألتوي عليك بالدَّين؟!
قال أمية وقد استحيا: صدقتَ، خُذ غلامك وأرسل إليَّ ثمنه متى شئت.
قال أبو بكر: إنما هي روحتي إلى أهلي، ثم يؤدَّى مالك إليك.
وأخذ أبو بكر بلالًا من يده فانطلق به إلى داره، وهنالك رفق به وخَفَّفَ عنه بعض ما وجد من الضر، وأرسل إلى أمية ماله، وَتَلبَّثَ في داره يرفُق ببلال ويتحدَّث إليه، ويقرأ عليه من آيات الذكر، حتى إذا عاد رسوله، وعرف أبو بكر أن أمية قد قبض ماله التفت إلى بلال وابتسم له وقال: انطلق بلالُ، فأنت حرٌّ.
وأمسى أبو بكر، فلقي رسول الله وأنبأه بما رأى من فتنة بلال، وبأنه لم يستطع أن يستنقذه حتى اشتراه. قال النبي ﷺ: «الشركة يا أبا بكر.»
قال أبو بكر: فإني قد أعتقته يا رسول الله!
هنالك يقول بعضهم لبعض: أبقوا عليه يا معشر قريش، لا تأتوا على نفسه، فيسألكم عنه حلفاؤه من زُهْرة.
ويعود أصحاب النبي فينبئون إخوانهم بما رأوا من أمر خباب بن الأرَت، وتمضي أمور قريش والمستضعفين من المسلمين على هذا النحو الأيام ثم الأشهر ثم السنين، لا تبلغ قريش من هؤلاء المستضعفين شيئًا في دينهم، إلا أن تكون كلمة الله قد حقت على بعضهم فيفتنَ عن دينه ويكفر بعد إسلام، أو أن يكون الله قد آثر بعضهم بالحسنى فيختاره لجواره، ويجعل له عنده مقامًا محمودًا.
قال أبو جهل: فإنْ ذَكَر آلهتنا بخير وذَكَر محمدًا بسوء؟
قال عُتبة بن ربيعة: هيهات يا أبا الحكم! إنما هي أماني، وما أرى إلا أنك قد أزمعت أن تأتي على نفس هذا الشيخ.
قال أبو جهل: فإن ذكر آلهتنا بخير وذكر محمدًا بسوء؟
قال عتبة: فلك عشرون من الإبل.
قال شيبة بن ربيعة: ولك مني مثلها.
قال أبو جهل: إن مالكما عليكما لَهَيِّن.
قال عتبة: فإن أتيتَ على نفس ياسر …
قال شيبة: دون أن تبلغ منه ما تريد ونريد؟
قال أبو جهل: فَاحْتَكِما إذن.
فلما بلغ أبو جهل وأصحابه مكان العذاب أَمَر غلمانَه فوضعوا بين يديه ياسرًا وسمية وعمارًا، وألسنتهم لا تفتر عن ذِكر الله. فألهب أجسامهم بالسياط، ثم أذاقها مسَّ النار، ثم صَبَّ عليها قِرَب الماء، ثم عاد فيهم سيرته مرَّة ومرَّة، ثم أمر فَغُطُّوا في الأنطاع التي مُلِئَتْ ماء حتى انقطعت أنفاسهم أو كادت، ثم ردَّهم إلى الهواء، وانتظر بهم حتى أفاقوا، وتسمع لما ينطقون به بعد أن ثاب إليهم شيء من قوة، فإذا هم يذكرون الله ويُثنون على محمد.
قال أبو جهل لسمية وقد بلغ منه الغيظ أقصاه: لتذكرُنَّ آلهتنا بخير ولتذكرنَّ محمدًا بسوء أو لتموتنَّ، تَعلمي أنك لن تريْ مساء هذا اليوم إلا أن تكفري بمحمد وربه.
قالت سمية بصوت هادئ متقطع قليلًا: بؤسًا لك ولآلهتك! وهل شيء أحب إليَّ من الموت الذي يريحني من النظر إلى وجهك هذا القبيح؟!
هنالك تضاحك عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأخرج الحنق أبا جهل عن طوره فجعل يضرب في بطن سمية برجله وهي تقول له في صوتها الهادئ المتقطع: بؤسًا لك ولآلهتك! ويُجَنُّ جنون أبي جهل، فيطعن سمية بحربة كانت في يده، فتشهق شهقة خفيفة ثم تكون أول شهيد في الإسلام.
يقول ياسر: قتلتها يا عدو الله؟! بؤسًا لك ولآلهتك! ويقول عمار: قتلتها يا عدوَّ الله! بؤسًا لك ولآلهتك! ليمتلئ قلبك غيظًا وحنقًا! فإن رسول الله قد ضرب لها موعدًا في الجنة.
قال ياسر: أشهد أن وعد الله حق.
ولكن أبا جهل لم يمهله، وإنما يضرب في بطنه برجله فيشهق ياسرٌ شهقة، ثم يُصبح ثاني شهيد في الإسلام.
قال عُتبة وشيبة ابنا ربيعة: ألم تُحكمنا إن لم تبلغ من ياسر وامرأته شيئًا؟ فسكت أبو جهل، وقال الملأ من قريش: بلى! نحن على ذلك شهداء. قال عتبة: فينبغي أن تطلقَ هذا الرجل وأن تخليَ بينه وبين الحرية ليواري أبويه.
أغاظ هذا كله أبا جهل، أم غاظه أن الملأ من قريش رأوا أن شدَّته لم تُغْنِ عنهم ولا عن آلهتهم شيئًا، وإنما انتهت إلى القتل الذي لا تحبه قريش، والذي لا يزيد محمدًا وأصحابه إلا استمساكًا بدينهم وصبرًا فيه؟ أم غاظه أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة قد ظفرا به وظهرا عليه وشَمتا بما كان يُظهر من حزم وصرامة وجد، ويوشكان بعد هذا الإخفاق أن يستأثرا بسمع قريش وقلبها وحبها وقيادها؟
كذلك راح أبو جهل إلى داره، وأنفق ليلته فيها. فأما عمار، فقد حُمِلَ إلى داره، وحُمِلَ معه أبواه، حملهم قوم من قريش فيهم المسلم وفيهم غير المسلم، قد نَسوا أو تناسوْا ما بينهم من خصومة، وذكروا أن بينهم مكروبًا يجب أن يُواسَى، وميتَيْن يجب أن يُوارَيا في التراب، وقد نهضوا بهذا كله متعاونين كأحسن ما يكون التعاون؛ فرفقوا بعمار، ولم يكن في حاجة إلى الرفق، وأعانوه على دفن أبويه، وكان إلى معونتهم على ذلك محتاجًا.
وعاد عمار بعد أن وارى أبويه إلى داره، وقد تفرَّق عنه المشركون، والْتَأمت حوله جماعة من المسلمين، وكان عمار يجد في جسمه ألم العذاب، ويجد في قلبه حلاوة الإيمان، ويجد في نفسه لَذْعَ الحزن على أبويه، يقول له عثمان بن عفان: ما يحزنك عليهما وقد استوفيا نصيبهما من الدنيا، وسبقاك إلى نعيم الله ورضوانه؟ ألم تسمع نبي الله وهو يضرب لكم موعدًا في الجنة مَرَّةً، ويدعوكم إلى الصبر مرة أخرى، وهو يقول: «اللهم اغفر لآل ياسر.» وقد فعلتَ؟! قال عمار: صدقتَ أبا عمرو، ما ينبغي أن أحزن عليهما، وإنما ينبغي أن أستبشر لهما وقد سبقا إلى الجنة، وعَدَهما بذلك رسول الله، ووَعْدُ الله حق.
قال عثمان: فإن رسول الله قد وعدك بما وعدهما به!
قال عثمان: ما ينبغي أن تيأس من رَوْح الله ولا أن تَقنط من رحمته، وإنك معرض للإثم كما أنك معرَّض للعمل الصالح، وإنك معرَّض للسيئات كما أنك معرض للحسنات، وما ينبغي أن تكره الحياة وفيها رسولُ الله.
قال عمار: أما هذا فنعمْ، ثم نهض كأنه لا يجد ألمًا ولا سَقمًا ولا عناء، وكأنما رُدَّتْ إليه قوته كأقوى ما تكون قوة الرجال، نهض وهو يقول لعثمان وأصحابه: وَيْحَكم! ما يحبسنا عن رسول الله؟! ومضَوْا إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، فجلسوا مع غيرهم من جماعة المسلمين إلى النبي يسمعون له وهو يعظهم ويُزَكيهم ويتلو عليهم القرآن.
قال أبو جهل لعتبة بن أبي ربيعة وأخيه شيبة: أما إنكما قد استنقذتما حُشاشة عمار من الموت! ولو قد خليتما بيني وبينه لَوُورِي في التراب ثلاثة لا اثنان.
قال عُتبة: فقد خففنا عنك الوزر أبا الحكم.
قال شيبة: فإن عمك أبا حذيفة قد أعتق عمارًا وأخويه.
قال أبو جهل: فإن لنا ولاءهم على كل حال.
قال عتبة: هو ذاك.
وأضمر أبو جهل في نفسه ما أضمر، وادَّخر الله لعمار من الكرامة ما ادَّخر؛ فقد اتصلت فتنة عمار ما أقام بمكة، وافتنَّ أبو جهل في هذه الفتنة حتى جعلها أحاديث. وأول ما قَدَر من ذلك أن يحفظ على عمار حياته وحريته فلا يأتي على نفسه ولا يُلقيه في غيابات السجن، وإنما يجعله لمحمد وأصحابه نكالًا، يَفْتِنُه كلما أحسَّ الحاجة إلى أن يفتنه، ويعذبه كلما أحس الشوق إلى أن يشهد مشهد العذاب، وكأنه حالف الشيطان على أن يوفي عمارًا من العذاب ما لم يستطع أن يَصُبَّ على أبويه، وأن يظفر منه بما لم يظفر به من ياسر وسمية، فيضطره إلى أن يذكر آلهته بخير وأن ينال من محمد ﷺ، وأعانه الشيطان على ذلك كله، وأعانه عليه قوم آخرون من سفهاء قريش، فترك عمارًا آمنًا مُعافى في نفسه وبدنه ودينه، لم ينله بأذى، ولم يعرض له بسوء، حتى استراح عمار من محنته، وظنَّ أنه قد أَمِنَ الفتنة، فكان يغدو على دار الأرقم بن أبي الأرقم، فيسمع من النبي ويتحدث إليه، ثم يروح إلى داره وقد اتخذ فيها ما لم يتخذه مسلم قبله في داره، اتخذ فيها مسجدًا يُعبَد الله فيه أكثر الليل، حتى أنزل الله في ذلك قرآنًا: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ فيما تحدث به ابن عباس.
ولكن أصحاب النبي يجتمعون ذات يوم في دار الأرقم بن أبي الأرقم حتى إذا ارتفع الضحى افتقدوا عمارًا بينهم فلم يجدوه، فإذا ذكروا ذلك أنبأهم النبي ﷺ بأن عمارًا يُعَذَّب في الله. ثم يمر النبي بعد أن يتقدم النهار بمكان في بطحاء مكة فيرى أبا جهل وقد عاد في عمار سيرته الأولى: نارٌ مؤججة، وماء مجتمع في نطع من الأدَم، وعمار قد أُلْقِيَ بينهما، وجعل السفهاء من قريش ينوشونه بالرماح ويحرقونه بالنار، وعمار صابر صامت يذكر الله في قلبه ويكف لسانه عن القول، فإذا رأى النبي ذلك قال: «يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار كما كنت بردًا وسلامًا على إبراهيم.» وقد سلط أبو جهل من النار على عمار أثناء فتنته الطويلة له ما كان خليقًا أن يأتي على نفسه، ولكن الله يقول لعباده: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وقد دعاه في عمار أحب عباده إليه وأرضاهم عنده، ولله حكمة بالغة، ولكل أجل كتاب.
وقد احتمل عمار من ذلك العذاب ما يُطيقه الرجال وما لا يطيقونه، حتى إذا جنحت الشمس لمغربها كف عنه العذاب ورُدَّ إلى داره، وأمهله أبو جهل بعد ذلك أيامًا طوالًا حتى ظن عمار أنه لن يُفتَنَ مرة أخرى، ولكن أبا جهل لم يُمهله إلا ليشتد عليه في الفتنة ويُضاعَفَ له العذاب.
ويراه النبي ذات يوم وقد بلغ الحزن من نفسه وقلبه ما لم يبلغه منهما قط، وعيناه تنهلَّان بدموع غزار، فيدنو النبي منه رفيقًا به، فيكفكف دمعه ويمسح عينيه ويقول: ويحك ابنَ سُميةَ! أخذك الكفار فغطوك في الماء حتى قلت كذا وكذا، فإن عادوا فَعُدْ! ولكنهم لم يعودوا من فورهم، وإنما انتظروا بعمار حتى أطعموه في العافية، ثم أخذوه فعذَّبوه وفتنوه، ثم تركوه. وأقبل عمار على النبي خزيان أسفًا تنهلُّ دموعه غزارًا على وجه مُرْبدٍّ كئيب، فلما رآه النبي قال: «ما وراءك؟» قال عمار وهو ينتحب: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تركوني حتى ذكرت آلهتهم بخير وذكرتك بما تكره ويحبون. قال رسول الله: «فكيف تجد قلبك؟» قال عمار: أجده مطمئنًّا بالإيمان، قال رسول الله: «فإن عادوا فعُد.» وأنزل الله في ذلك قرآنًا: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
ولم يخلص عمار من هذه الفتنة المنكرة التي كانت تتلاحق طورًا وتتقطع طورًا آخر إلا حين أذن الله للمسلمين في الهجرة إلى أرض الحبشة، فهاجر عمار الهجرة الثانية ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة، فعاش مع رسول الله آمنًا سالمًا موفورًا.
١٥
وينظر المشركون والمنافقون من الأوس والخزرج فيرون هذه الجماعة من المهاجرين والأنصار يقدِّمون سالمًا ليؤمهم في الصلاة. فيكبرون من أمر سالم هذا بادئ الرأي، ثم لا يلبثون أن يَذكروه ويعرفوه. يقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هذا الرجل الذي يصلِّي بهذه الناجمة من أصحاب محمد مَنْ هَاجر منهم إلى المدينة ومَن كان من أهلها؟ إنه سالم. ألا تذكرون سالمًا؟! فيجهد القوم أنفسهم ليذكروه، ولكن بعضهم يعيد عليهم قصة ذلك اليهودي الذي كان يعرض على العرب واليهود صبيًّا حدَثًا لا يُحسنُ العربية ولا يفهمها، وما هي إلا أن يسمعوا بدء هذه القصة حتى يستحضروا سائرها، وحتى يروا ذلك الصبي الذي مسه الضر، وظهر عليه البؤس، وزهد فيه العرب واليهود جميعًا، واشترته ثُبيتة بنت يعار، لا رغبة فيه بل عطفًا عليه. ثم يقول بعضهم لبعض: لو عاش سلام بن حبير لرأى من صبيه ذاك عجبًا. ثم يقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هذه الناجمة من أصحاب محمد يؤمهم فارسي قد كان بالأمس عبدًا؟! ثم يردُّ بعضهم على بعض رَجْعَ هذا الحديث، فيقول: إن لهؤلاء الناس لشأنًا، إنهم يُسوِّدُون العبيد، وَيُلغون ما بين الأحرار والرقيق من الفروق، وإنا لنرحم قريشًا مما ألمَّ بها، وإنَّا لنعذر قريشًا مما فعلت بمحمد وأصحابه، ولو استطعنا لفَتَنَّاهم كما فتَنَتْهُم قريش، ولنفيناهم عن أرضنا كما نفتهم قريش، ولكن هل إلى هذا من سبيل؟
فيقول قائلهم: هيهات! لقد آمن لهم أولو البأس والقوة من قومنا، ولكن فريقًا من هؤلاء المتحدثين يسمعون، ثم يُنكرون، ثم يؤثرون الصمت، ثم يخلو بعضهم إلى بعض فيستأنفون بينهم حديثًا جديدًا يعجبون فيه من أمر هذا الذي كان عبدًا بالأمس، ثم هو يَؤمُّ الأحرار في صلاتهم اليوم. ثم يتتبعون المهاجرين فيرون فيهم نفرًا غير قليل من الرقيق الذين أُعتِقوا، أعتقهم إسلامهم. ثم يتتبعون سيرة الأحرار الأشراف من المسلمين مع هؤلاء الذين رُدَّتْ عليهم الحرية بعد أن نشئوا في الرق، فيرونها تقوم على الإخاء والعدل والنَّصفَة والمساواة. ثم يتحدثون في ذلك إلى المسلمين من قومهم، فيقول لهم هؤلاء: إن الإسلام لا يُفرِّق بين الحر والرقيق، ولا بين الناس إلا بالتقوى، وبما يُقدِّمون بين أيديهم من البر والخير وعمل الصالحات. هنالك تطمح قلوبهم إلى هذه المساواة التي لم يسمعوا بها من قبل، وإلى هذا العدل الذي لم يألفوه، وإذا هم يميلون إلى الإسلام ثم يسرعون إليه، ثم يحرصون على أن يؤمهم سالم بن أبي حذيفة ذلك الذي كان عبدًا بالأمس، فأصبح يؤم الأشراف من قريش ومن الأوس والخزرج حين يقومون بصلاتهم بين يدي الله.
١٦
وقد أقبل صهيب مجهودًا مكدودًا قد بلغ منه الإعياء، وكاد يأتي عليه الجوع، وقد أصابه في طريقه رَمَدٌ، فهو لا يكاد يرى إلا في مشقة أي مشقة، وقد ألقى تحية إلى أصحابه، ثم ألقى نفسه على الأرض، ثم نظر فرأى الرطب فانكب عليه وجعل يأكل منه أكلًا غير رفيق. يقول عمر بن الخطاب للنبي ﷺ: ألا ترى يا رسول الله إلى صُهَيب يأكل الرطب وهو رَمِدٌ؟ فيقول له النبي: «أتأكل الرطب وأنت رَمِدٌ؟!» فيقول صُهَيب وهو يمعن في الأكل: إنما آكله بشق عيني الذي لم يَرْمد؛ فيبتسم رسول الله ويضحك القوم.
ويمضي صُهيب في أكل غير رفيق، حتى إذا أرضى حاجته إلى الطعام جعل يعاتب أبا بكر، فيقول: وعدتني الصحبة ثم تركتني. ثم يُعاتب النبي فيقول: ووعدتني يا رسول الله الصحبة ثم تركتني، والله ما خلصتُ إليك حتى اشتريتُ نفسي من قريش بمالي أجمع، وما تركتُ مكة إلا بمدٍّ من دقيق عجنته بالأبواء وعشت عليه حتى انتهيت إليك. فيجيبه رسول الله: «رَبِح البيع أبا يحيى! رَبِحَ البيع!» وينزل الله هذه الآية الكريمة: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ ۗ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، وقد أوجز صهيب قصة هذا البيع الرابح.
وقد كان من أخلاق المسلمين الصادقين ألا يتكبروا ولا يَمُنُّوا بإسلامهم، وقد ثابت قريش بعض الشيء إلى نفسها بعد أن فاتها محمد وأبو بكر، وجعلت تتتبعُ من بَقِيَ من أصحاب محمد، تحبسهم عن الهجرة، وتُمسكهم في العذاب، وتفتنهم في دينهم، وتصُدهم عن سبيل الله، وكان صُهيب من الذين حبستهم قريش، يقول له أبو جهل وقد وَرم أنفه وذهب به الغيظ كل مذهب: أتيتنا صُعْلوكًا حقيرًا لا تملك من الدنيا شيئًا، فأثريت عندنا وأصبحت ذا مال، ثم أنت تريد أن تفوتنا بمالك ونفسك إلى محمد وأصحابه؛ قال صُهيب: فإن خليتُ بينكم وبين مالي أتخلونَ بيني وبين ما أريد من الهجرة؟ قالوا: نعم. وقال أبو جهل: هيهات! إن حاجتنا إلى مالك ليست أقل من حاجتنا إلى نفسك، فلنمسكنَّك في العذاب حتى نأخذ مالك، ثم نأتي على نفسك، أو تعود من ديننا إلى ما كنت عليه.
قال صهيب وفي صوته حزن مُرٌّ: لو عاش عبد الله بن جدعان لما بلغتَ مني ما ترى.
قال أبو جهل: سَنُلحقك بعبد الله بن جدعان فاشكُنا إليه إن شئت، ألستم تزعمون أن الناس يحيونَ حياة ثانية بعد حياتهم هذه الأولى؟! فالقَ عبد الله بن جدعان هناك إن شئت فاشكُنا إليه.
قال صُهيب: هيهات! لن ألقاه، قد وعدني رسول الله الجنة، وهو في النار.
قال أبو جهل، وقد استأثر به الغيظ فسطا على صُهَيب وضرب في وجهه ضربًا عنيفًا: ألا تسمعون يا معشر تيم؟! إن سيدكم عبد الله بن جدعان في النار، وإن عبده هذا الرومي سيصير إلى الجنة! ما رأيت كاليوم حمقًا ولا خُرْقًا.
ولبث صهيب في حبسه أيامًا لا يُرْزَقُ من الطعام إلا ما يعصمه من الموت، ولكن الإسلام كان في ذلك الوقت قد فشا في أحرار مكة ورقيقها، فيحتال بعض أولئك وهؤلاء، وإذا صهيب قد انسلَّ من محبسه، وركب راحلته، وأخذ طريقه إلى المدينة.
وعلمت قريش بأن صهيبًا قد انسلَّ من محبسه، وبأنه يوشك أن يفوتها، فترسل في أثره الخيل، ويُدرك القوم صهيبًا، ولم يمضِ في طريقه إلا قليلًا، فلما رآهم قد أقبلوا، وعلم أنهم يوشكون أن يأخذوه، وأن يردوه إلى الفتنة والعذاب، وقف لهم، ونثر ما في كنانته من السهام، وقال لهم في صوت الحازم المصمم: علمتم يا معشر قريش أني من أرماكم رجلًا، وإنكم والله لا تَصِلُون إليَّ حتى أرميكم بكل ما بين يديَّ من سهم، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه شيء في يدي، فاختاروا بين الموت وبين مالي أدلكم عليه، فتأخذونه وتخلون بيني وبين الطريق.
ولم يطلْ تفكير قريش ولا ائتمارها، وإنما آثروا العافية والسلامة والمال، فقالوا: قد رضينا، فدلنا على مالك. فأنبأهم بمكانه وانصرفوا عنه، ومضى هو في طريقه حتى بلغ رسول الله وقد أدركه من الجهد والكد ومن الظمأ والجوع ما كاد يأتي عليه.
١٧
هاجر عبد الله بن مسعود إلى المدينة، كما هاجر إليها غيره من المهاجرين، فنزل على مُعاذ بن جَبل أو على سعد بن خيثمة، يختلف رُواة السيرة في ذلك، وأقام عبد الله عند مُضيفه حتى خطَّ رسول الله للناس دُورَهم في المدينة، فخطَّ لبني زُهْرَة في مؤخر المسجد، وقال حي منهم للنبي: نَكِّبْ عنا ابن أم عبد. كأنهم كرهوا نزوله بينهم. فقال رسول الله ﷺ: «فلِمَ يبعثني الله إذن؟! إن الله لا يُقدِّس قومًا لا يُعطَى الضعيفُ منهم حقَّه.» ثم أنزله منزله بينهم كريمًا.
كان أثناء الإقامة يقوم على حُجرته حاجبًا، لا يُخفي النبي عليه من سر إلا ما يُؤمَر بإخفائه، فإذا همَّ النبي أن يخرج ألبسه نعليه، ومشى بين يديه بالعصا، حتى إذا جلس نزع نعليه فأدخلهما في ذراعه وأعطاه العصا، فإذا أراد أن يقوم ألبسه نعليه وأخذ منه العصا فمشى بها بين يديه حتى يبلغ الحجرة فينحِّي ستارها ويدخل قبل النبي، حتى إذا دخلها النبي نزع نعليه وخرج فقام أمام الستر حاجبًا، فإذا خرج النبي في السفر فابن مسعود صاحب وساده إذا نام، وصاحب طَهوره كلما أراد الوضوء، وكان النبي إذا أراد أن يغتسل في بعض سفره قام ابن مسعود من دونه يستره، حتى لم يَشُكَّ كثير من أصحاب النبي أن ابن مسعود كان من أهل بيته، فليس غريبًا إذن أن يكون أحفظ الناس للقرآن وأكثرهم سماعًا عن النبي. ثم أصبح بعد النبي أكثر الناس تعليمًا للقرآن وأقلهم رواية لحديث النبي، يتألم من ذلك ويخافه أشد الخوف. وكان النبي يؤثره ويُكبره ويُدافع عنه ويُشيد به، حتى قال ذات يوم: لو كنت مُؤمِّرًا أحدًا دون شورى المسلمين لأمَّرت ابن أم عبد.
١٨
ولكن قريشًا تنظر فترى عجبًا، ولكن المسلمين ينظرون فيرون عجبًا؛ ترى قريش فتى من أقوى شبابها قوة وأنضرهم نضرة وأشدهم بأسًا يخرج من صفها وينحاز إلى محمد، ويرى المسلمون — والمهاجرون منهم خاصة — صديقًا لهم قد عرفوه وأحبوه، ثم حزنوا عليه حين ظنوا — كما ظنت قريش — أنه قد عاد إلى دين آبائه. وتتساءل قريش عن هذا الفتى، وتتساءل كثرة المسلمين عن هذا الفتى، ثم يعرف أولئك وهؤلاء أنه عبد الله بن سهيل بن عمرو، خدع المشركين عن أنفسهم وعن نفسه، وانتفع بما أنزل الله في أمر عمار بن ياسر: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
فهو لم يَكْفُر بقلبه، ولم يشرح بالكفر صدرًا، ولكنه وَجَد قلبَه كما وجد عمار قلبَه حين فتنته قريش مطمئنًّا بالإيمان، وقد قال النبي لعمار: إن عادوا فعُدْ. وفهم عبد الله بن سهيل آيةَ القرآن وحديث النبي على وجهيهما، فلما أحس الفتنة من أبيه أظهر له ولقريش ما أرضاهم وأخفى عليه وعلى قريش ما أرضى الله، وها هو ذا يخرج من صفوف قومه وينحاز إلى صف المسلمين، ثم يسعى حتى يبلغ النبي فيهدي إليه سلامه، ويتلقى منه بركته، ثم يخرج إلى أصحابه من المهاجرين فيزحف معهم لقتال قريش وفيهم أبوه.
ويلقى أثناء الزحف أبا حذيفة بن عُتبة بن ربيعة، زوج أخته سهلة، فإذا قص عليه قصته أثنى أبو حذيفة عليه وقال خيرًا، ولم يزد على ذلك شيئًا. وقد تدانى الجمعان، حتى لم يبقَ إلى تدانيهما سبيل إلا بسيف أو رمح، ولكن قريشًا تنظر فترى عجبًا، والمسلمون ينظرون فيرون عجبًا: يرون فتى يصول في الميدان بين الصفين يدعو عتبة بن ربيعة للمبارزة، ويخرج عتبة للفتى، ولكنه لا يكاد يراه حتى ينصرف عنه وقد ملأ الغيظ قلوب قريش وملأ الإعجاب قلوب المسلمين: رأى أولئك وهؤلاء أبا حذيفة يدعو أباه للمبارزة، ويبلغ هند بنت عتبة وزوج أبي سفيان أن أباها وأخاها الوليد وعمها شيبة قُتِلوا، وأن أخاها أبا حُذيفة قد دعا أباه للقتال، فتقول في هذا كله فتكثر القول، وتهجو أخاها أبا حذيفة بهذين البيتين:
قال أبو جهل في صوته المتهالك المتقطع: ها أنت ذا يا راعي الغنم! لقد ارتقيت مرتقى صعبًا.
قال ابن مسعود: لقد أخزاك الله بما قدَّمت إلى المسلمين من شر، فذُقْ عذاب الدنيا، ولعذابُ الآخرة أشد بأسًا وأعظم تنكيلًا. ثم يحتز رأسه، ثم يمضي خفيفًا مسرعًا، فينبئ النبي بمقتل أبي جهل. قال النبي: الله الذي لا إله غيره؟! قال ابن مسعود: الله الذي لا إله غيره. فكَبَّر النبي وكَبَّر مَنْ حوله من المسلمين، ووقف النبي بعد ساعة على صَرْعى قُرَيش وقد أُلْقُوا في القليب فقال: «يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًّا.» قال بعض أصحاب النبي: إنهم موتى يا رسول الله! قال: «إنهم ليسمعون كما تسمعون إلا أنهم لا ينطقون.»
١٩
كان بلال من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان أول من أذَّن في الإسلام، وقد جعل النبي الأذان إليه حين نُظِّمت جماعة المسلمين، وليس من شك في أن قد كان بين العرب من المهاجرين والأنصار من كان أندَى صوتًا من بلال، وربما كان بينهم كذلك من كان أفصح منه لغة وأنصع منه منطقًا! ولكن الله يؤتي فضله من يشاء.
وكان النبي يحب بلالًا أشد الحب ويُكْبِر من شأنه، ويريد أن يُكْبِر الناس من شأنه. جاءته أسرة عربية تطلب إليه أن يُزَوِّج ابنتها من رجل عربي سمته، فقال لهم النبي: فأين أنتم عن بلال؟ فانصرف القوم من يومهم ذاك ولم يقولوا شيئًا، ثم أقبلوا من غد على النبي، فطلبوا إليه ما طلبوا أمس، فقال لهم مثل ما قال أمس: أين أنتم عن بلال؟ فانصرف القوم ولم يقولوا شيئًا. ثم أقبلوا من الغد فطلبوا إليه ما طلبوا إليه أمس وأول من أمس، فقال لهم مثل ما قال في المرة الأولى وفي الثانية: أين أنتم عن بلال؟ ثم زاد: أين أنتم عن رجل من أهل الجنة؟ فزوجوه.
وعرف الناس أن رسول الله لا يمايز بين المسلمين إلا بالتقوى والعمل الصالح وما يقدِّمون بين أيديهم من الحسنات. وأكبَرَ الناس بلالًا كما أكبره رسول الله، حتى كان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا — يريد بلالًا. وكان هذا كله خليقًا أن يُرضي بلالًا عن نفسه شيئًا، ولكن بلالًا لم يرضَ عن نفسه قط، وإنما كان صادق التواضع مستصغرًا لنفسه مهما يفعل. أقبل مرة يريد الأذان، فأحس شيئًا من رضا عن نفسه، فغاظه ذلك وأنطقه بكلام كان يريد أن يكون شعرًا فلم يستطع، أصاب الوزن وأخطأ القافية:
وكان الناس من المسلمين يأتون فيتحدثون إليه، ويذكرون ما آتاه الله من الفضل، وما اختصه به من الكرامة، فلا يزيد على أن يقول: إنما أنا حبشي، وقد كنت بالأمس عبدًا.
وأقبل المسلمون يوم الفتح فدخلوا مكة ظافرين، وثابت قريش إلى الإسلام طوعًا أو كرهًا، وعفا رسول الله عن مسيئيها، وقال لهم ما قاله يوسف لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وحطم الأصنام، وطَهَّرَ الكعبة، وأخلصها لله عز وجل، ثم قال لبلال: اصعدْ فأذِّن على ظهر الكعبة، وصعد بلال فأذَّن على ظهر الكعبة والحارث بن هشام وصَفْوان بن أمية قاعدان، يقول الحارث بن هشام لنفسه في أعماق نفسه: كيف لو رأى أخي عمرو بن هشام بلالًا هذا قائمًا على ظهر الكعبة؟ ويقول صَفْوَان بن أمية لضميره في أعماق ضميره: كيف لو رأى أبي أمية بن خلف هذا العبد الذي طالما عَذَّبه وأدَّبه قائمًا على ظهر الكعبة؟ ولو استطاع الرجلان لاكتفى كل منهما بالحديث إلى نفسه، ولكنهما يريان الكعبة وقد زال عنها هُبل، وزالت اللَّاتُ والعُزَّى ومَناة الثالثة الأخرى، وقام على ظهرها حبشي يُعلن دين محمد إلى قوم طالما حاربوا محمدًا وأصحابه، وليس منهم الآن إلا من يستجيب لدعوة محمد راضيًا أو كارهًا.
ينظر الرجلان إلى الكعبة وقد طُهِّرت من الأوثان، وإلى هذا الحبشي القائم على ظهرها، فلا يملك أحدهما إلا أن يهمس في أذن صاحبه: ألا ترى إلى هذا الحبشي؟! قال ذلك في صوت تملؤه الحسرة، ويجيبه صاحبه في صوت خافت تشيع فيه السخرية المُرَّة: إنْ يَكرَهه الله يُغيِّره. وبلالٌ قائم على ظهر الكعبة يرفع صوته الندي قائلًا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
وأذن بلال في المدينة للمسلمين، فاستجابت له قلوبهم محزونة، وأغرقت جماعتهم في نحيب مُرٍّ ارتجَّ له المسجد حين قال بلال، وصوته يكاد يحتبس في حلقه: «وأشهد أن محمدًا رسول الله.» وذلك أن النبي كان روحه قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وكان جسمه لم يُقْبَر بعدُ. فلما دُفِن ﷺ وتَمت البيعة لأبي بكر، قام إليه بلال، فقال: أيْ خليفة رسول الله! إن كنت قد اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت قد اشتريتني لله فَذرني وعَملي لله.
قال أبو بكر: ما تشاء يا بلال؟
قال بلال: إني سمعت رسول الله ﷺ يذكر أَنَّ أَفْضَلَ عَمَل العبد جهاده في سبيل الله، فخلِّ بيني وبين الجهاد.
٢٠
وأقبل عمار بن ياسر إلى المدينة مهاجرًا فنزل على مُبشِّر بن عبد المنذر، وآخى رسول الله ﷺ بينه وبين حُذيفة بن اليمان، وأقام عمار عند مُضيفه مُبشر حتى أقطعه رسول الله موضع داره، وحتى بناها ثم انتقل إليها. وكان عطف النبي على عمار شديدًا وحبه له قويًّا عميقًا، وكان عمار يحس هذا الحب وذلك العطف، فيدفعه هذا الإحساس إلى تحمس في الإسلام كان يمتاز به من أكثر المسلمين، حتى كانت الأنظار تتجه إليه، وكانت النفوس كثيرًا ما تفكر فيه، وربما لهجت به بعض الألسنة أحيانًا، وكان عمار يتحامل على نفسه ويأخذها من الجهد في سبيل الله بأكثر مما كانت عامة المسلمين تأخذ به أنفسها.
وأقبل مقبل فزعم أن حائطًا سقط على عمار فمات، فقال النبي: لم يمت عمار. ثم لقي عمارًا، فقال له: «وَيْحك ابن سُمَية! تقتلك الفئة الباغية.» وملأت هذه الكلمة قلب عمار يقينًا وثقة وحرصًا على أن يعمل صالحًا ما وسعه العمل، وعلى أن يجتنب الفتنة ما وسعه اجتنابها، وكان يطيل الصمت ولا يتكلم إلا حين لا يكون من الكلام بُدٌّ، وكان كثيرًا ما يقطع صمته بهذه الكلمات: عائذٌ بالله من فتنة! ثم يعود إلى صمته العميق.
٢١
عادت العرب إلى كفرها بعد وفاة النبي، وجَدَّ أبو بكر وجَدَّ معه الأنصار والمهاجرون في ردهم إلى الإسلام طائعين أو كارهين، وخرج خالد بن الوليد بجيش أبي بكر إلى اليمامة يقاتل مُسيلمةَ، ويَرُدُّ بني حَنيفةَ إلى الإسلام. والتقى المسلمون وأهل الردة، فكانت بينهم موقعة من أشد ما عرف المسلمون من المواقع، وكان في الجيش أربعة نفر كلهم شهد بدرًا وأُحُدًا والمشاهد كلها مع رسول الله: عمار بن ياسر، وأبو حُذيفة بن عتبة بن ربيعة، وابنه قديمًا ومولاه حديثًا سالم بن سالم، وأخو امرأته عبد الله بن سهيل بن عمرو. وقد انكشف المسلمون وكادت الدائرة تدور عليهم، ولكن الناس يرون هؤلاء النفر قد ثبتوا في أماكنهم لا يَريمون. فأما سالم فجعل يصيح بالناس: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله! ثم احتفر حفرة فأثبت فيها قدميه، وصنع أبو حذيفة وعبد الله بن سهيل صنيعه فاستشهدوا جميعًا في أماكنهم.
وأما عمار فقد رآه الناس قائمًا على صخرة وقد قُطِعَتْ أذنه فهي تتذبذب، وهو يصيح بالمسلمين: إليَّ أيها المسلمون أنا عمار بن ياسر، أَمِن الجنة تفرُّون؟! وما زال بهم يدعوهم وقد ثبت على صخرته لا يزول حتى ثاب إليه المسلمون، وأنزل الله عليهم نصره.
ويبلغ أبا بكر موت سالم، فيدفع تُراثه إلى صاحبة ولائه ثُبيتة، فترده وتقول: سيَّبْتُهُ لله عز وجل. فإذا وَلِيَ عمر الخلافة دفع تُراث سالم مرة أخرى إلى ثبيتة صاحبة ولائه، فترده وتقول: سيبته لله عز وجل. ويضعه عمر في بيت المال.
وأقبل أبو بكر في أثناء خلافته حاجًّا، فلما دخل مكة جاءه سهيل بن عمرو مُسلِّمًا، فعزَّاه أبو بكر بابنه عبد الله الذي قُتِل في اليمامة شهيدًا. قال سهيل: لقد بلغني أن رسول الله ﷺ قال: يشفع الشهيد لسبعين من أهله؛ فأنا أرجو ألا يبدأ ابني بِأَحَدٍ قبلي.
٢٢
لم يكد عمر ينهض بأمور المسلمين بعد صاحبه حتى مضى في سياسة الفتح التي ابتدأها من قبله. لم يَهِن ولم يضعف، ولم يتح لأحد من الناس أن يهن أو يضعُف، وإنما رمى العالم القديم المتحضر بثقل العرب، فلم يثبت له العالم المتحضر إلا ريثما تداعَى ثم انهار. وكان عمر لا ينام ولا يُنيم، وإنما كان يقظًا دائمًا، موقظًا دائمًا، عاملًا دائمًا، دافعًا غيره إلى العمل، وقد فتح عمر للذين أسلموا بأخرة من عامة العرب ومن خاصة قريش أبواب الجهاد على مصاريعها، وألقى في رُوعهم جميعًا أن من فاته ثواب الغزو مع النبي ﷺ فلم يشهد معه بدرًا ولا أحُدًا ولا الخندق ولا غيرها من المشاهد، فإن أمامه مُلْكَ الروم وفارس يستطيع أن يستدرك فيهما ما فاته من حسن البلاء. وأي بلاء أحسن من أن يكون الرجل قد تقدمت به السن، والرجل لم يكد يخرج من شبابه، والفتى لم يكد ينضو عنه ثوب الصبا، وسيلة إلى تحقيق وعد الله — عز وجل — وتصديق قوله: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا؟!
لقد اندفعت العرب حين دفعها عمر، فلم تجد أمامها صعوبة إلا قهرتها، ولا عقبة إلا ذلَّلتْها، ولا مقاومة إلا جعلتها هباء.
ولم يكن أصحاب رسول الله والذين شهدوا معه المشاهد منهم خاصة أقل اندفاعًا إلى الجهاد واستباقًا إلى الغزو من الذين أسلموا بأخِرَة، ولم يكن عمر يصدهم عن ذلك أو يردهم عنه، وإنما كان يُخلِّي بينهم وبين ثواب الله يطلبونه ما وجدوا إليه سبيلًا، إلا أولئك الأشراف من قريش، فإنه أمسكهم في المدينة ولم يأذن لهم بالخروج، خاف من عامتهم على الناس، وخاف على خاصتهم من الفتنة، وكان أشراف الصحابة من قريش إذا أراد أحدهم أن يخرج للجهاد أبى عليه عمر، وقال: قد غزوت مع رسول الله ﷺ ما يجزئك.
أما المستضعفون من أصحاب النبي من قريش ومن غير قريش فلم يَخَفْ عمر منهم، ولم يَخَفْ عليهم فتنة، فخلَّى بينهم وبين ما أرادوا من الجهاد وما ابتغوا من فضل الله. وكذلك انطلق بلالٌ وأبو ذر وابن مسعود إلى الشام، وانطلق غيرهم إلى العراق، وأقام في المدينة من أمسكه ضعف الجسم أو أمسكته سياسة عمر، وأقبل خباب بن الأرتِّ ذات يوم مُسَلِّمًا على عمر ومستأذنًا في أكبر الظن في اللحاق بجيش من جيوش العراق، فيهش له عمر ويستدنيه، ويُجلسه على متكئه، ويقول: ما على الأرض أحدٌ أحق منك بهذا المجلس إلا رجلًا واحدًا.
فيقول خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟
قال عمر: بلال. وروى بعضهم أنه قال: عمار بن ياسر.
قال خباب: ما هو بأحق مني، لقد كان له من قريش من يمنعه ويقوم دونه، فأما أنا فلم يكن لي أحد، ولقد رأيتهم ذات يوم أخذوني، ثم أوقدوا لي نارًا فسلقوني فيها، ثم يُقبِل رجل فيضع رجله على صدري، فوالله ما اتقيت بردَ الأرض إلا بظهري، ثم يرفع رداءه ليرى عمر ما بقي في ظهره من آثار العذاب، وينظر عمر وينظر من حضر من المسلمين، فيرون شرًّا مروِّعًا؛ يرون أن ظهره قد بَرص.
لم تمنعه الفتنة من أن يشهد مع رسول الله بدرًا وأُحُدًا والخندق والمشاهد كلها، ثم لم يَكْفِهِ ذلك حتى أبى إلا أن يجاهد، كأنه رأى أنه لم يلقَ في سبيل الله مع هذا كله ما ينبغي أن يلقى من الجهد والمشقة والعناء. وقد انحدر إلى العراق فغزا مع الغازين، وجاهد مع المجاهدين، ورابط في الكوفة حتى أدركته الشيخوخة واشتد عليه الداء، وأقبل نفر من أصحاب رسول الله يعودونه، وقد اكتوى في بطنه سبع كيات وبرح به الألم كل تبريح، فلما دخلوا عليه رأوا رجلًا مُرَوَّعًا قد ملك الخوف والحزن عليه أمره، يقول لعواده من أصحاب النبي: لولا أن رسول الله ﷺ نهانا أن نتمنَّى الموت لتمنيته، ثم يسكت صوته، ويسكن جسمه، وتنهل دموعه على وجهه غزارًا.
يقول بعض أولئك الرهط لبعض حين انصرفوا عنه: ألا ترون إلى خباب على كثرة ما احتمل وعلى كثرة ما عمل يخشى أن يلقى الله فقيرًا ليس له كبير حظ من الصالحات!
فيقول قائلهم: وما يريبكم من ذلك؟! ألم تعلموا أن النبي ﷺ قال للمرأة التي زعمتْ أن الله قد أكرم عثمان بن مظعون بعد موته: «وما يُدريك أن الله قد أكرمه؟! إني لرسول الله وما أدري ما يُفعَل بي!»
ولم يمنع المرض الموجع ولا الحزن اللاذع ولا الخوف من لقاء الله خبابًا من أن يكون معلمًا ناصحًا للمسلمين حتى في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، كان الناس يدفنون موتاهم في جبابينهم قريبًا من دورهم، فيقول خباب لابنه حين أحس الموت: يا بُنيَّ إذا أنا مت فادفني بهذا الظهر؛ فإن الناس إن رأوا ذلك قالوا: صاحب من أصحاب رسول الله ﷺ يُدفَن بظهر الكوفة، ثم دفنوا موتاهم خارج المدينة.
ومات خباب وصلى عليه عليٌّ رحمه الله، ودُفِن بظاهر الكوفة، فدفن الناس موتاهم حول قبره.
٢٣
مضى صهيب بعد الإسلام على ما كان يمضي عليه من سيرته في الجود والكرم قبل أن يُسلِم، وكثر المال عنده بعد الفتوح، فكثر عطاؤه وسخاؤه، حتى تحدَّث بأمره الناس، وكان لا يستقبل ليله إلا جمع خلقًا من الناس كثيرًا حول طعام كثير، فجعل الناس يذكرون كرم أبي يحيى وسخاء أبي يحيى وبر أبي يحيى، وسمع ذلك عمر فقال: من أبو يحيى هذا الذي يذكرون؟ قالوا: صُهَيب.
قال: لصهيب ابنٌ يُكنَّى به؟!
قال الناس: إنه يُكنَّى أبا يحيى، وإنه يُطعِم الطعام الكثير، كما كان أجواد العرب من قومه يفعلون.
قال عمر: وإن صُهَيبًا لمن العرب؟
قالوا: بذلك يحدثنا. فسكت عمر ولم يقل شيئًا، حتى إذا كان ذات يوم في المسجد والناس من حوله كثير وفيهم صهيب، دعاه إليه وقال له: ما لك تُكنَّى أبا يحيى وليس لك ولد، وتقول إنك من العرب وأنت رجل من الروم، وتُطعِم الطعام الكثير وذلك سَرَفٌ في المال؟!
فقال صهيب: إن رسول الله ﷺ كنَّاني أبا يحيى، وأما قولك في النسب وادعائي إلى العرب فإني رجل من النمر بن قاسط من أهل الموصل، ولكن سُبِيتُ، سَبَتْني الروم غلامًا صغيرًا بعد أن عقلت أهلي وقومي وعرفت نسبي، وأما قولك في الطعام وإسرافي فيه؛ فإن رسول الله ﷺ كان يقول: «إن خياركم مَنْ أطعم الطعام وردَّ السلام.» فذلك الذي حملني على أن أُطعِم الطعام. فسكت عنه عمر.
ولم يكن لصهيب أيام أبي بكر وعمر إلا شأن الرجل الخيِّر الكريم من المهاجرين، ولكن عمر — رحمه الله — يُطعَنُ ذات صباح، ويُنظِّم أمر الشورى حين أحس الموت، ويأمر فيما يأمر به أن تكون صلاة المسلمين إلى صهيب ثلاثًا حتى يختار أهل الشورى للمسلمين إمامًا.
وينظر المهاجرون والأنصار، فإذا صهيب يُصلِّي بهم المكتوبات بأمر عمر، فإذا حضرت جنازةُ عمر قدَّموا صهيبًا فصلى بهم عليه.
فقد كان صهيب إذن إمامًا للمسلمين حتى فرغ أهل الشورى من تشاورهم، لم ينكر المهاجرون والأنصار من ذلك شيئًا، ولكن نفرًا من شباب قريش جعلوا يتحدثون بذلك فيما بينهم، ولم يكن شباب قريش يألفون عمر ولا يطمئنون إلى سيرته؛ لشدته على قريش ولشدته في الحق عامة، ويقول بعض أولئك الشباب لبعض: ألم تروا إلى عمر يُقَدِّم هذا الرومي ليصلي بالمهاجرين والأنصار، وقد كان صهيب عبدًا لرجل من قريش؟!
فيقول آخر: الحمد لله على أنه لم يزد على أن يجعل إليه الصلاة حتى يختار هؤلاء الرهط منهم إمامًا! فقد كان خليقًا أن يستخلفه وأن يجعل إليه إمْرَة المؤمنين.
قال آخر: وَيْحك! إنك لتسرف في الظن، وإن بعض الظن إثم. ما كان عمر ليستخلف على المسلمين مولى لعبد الله بن جدعان من سبي العرب أو من سبي الروم، قال صاحبه وهو يضحك ضحكة ساخرة: ألم يبلغك أن عمر قال: لو كان أبو عُبيدة بن الجراح حيًّا لاستخلفتُه، ولو كان سالمٌ مولى أبي حذيفة حيًّا لاستخلفته؟! وهل كان سالم مولى أبي حذيفة إلا رقيقًا فارسيًّا من أهل إصْطَخر، فإذا تمنى عمر أن يستخلف على المسلمين عبدًا فارسيًّا فما يمنعه أن يستخلف عليهم عبدًا روميًّا؟!
قال أحدهم وقد ثار مغضبًا: ما رأيت كاليوم رجوعًا إلى الجاهلية الأولى، ويلكم! أمسلمون أنتم صادقون في إسلامكم أم منافقون؟! رحم الله عمر! والله ما عرفناه إلا برًّا صادق النصح لله ورسوله وللمؤمنين. ألم تقرءوا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ؟!
وتفرق أولئك الفتية وقد ثاب بعضهم إلى الحق والهدى، وأسرَّ بعضهم الآخر في نفسه أن السلطان عربي لا ينبغي لأحد — ولو كان عمر — أن يصرفه عن العرب وعن قريش خاصة إلى الفرس أو الروم. وكان تفكير هؤلاء الفتية وقومٌ كثير أمثالهم مصدر شر عظيم للمسلمين.
٢٤
أقام عبد الله بن مسعود بحمص بعد أن فُتِحَتْ على المسلمين ما شاء الله أن يقيم، مرابطًا في سبيل الله، ولكن المهاجرين والأنصار ممن أقام في المدينة ينظرون ذات يوم فإذا هو بين أظهرهم في المسجد، فيستبقون إليه مسلِّمين عليه، ويسألونه عن مَقدَمه، فيقول: ما أدري، وإنما دعاني أمير المؤمنين فقدمتُ. ثم يلقى عمر عبد الله بن مسعود فيخلو إليه، ويخلو من بعده إلى عمار بن ياسر، ويخلو من بعدهما إلى عثمان بن حُنيف ثم يُعلن إلى المسلمين في أعقاب صلاة من الصلوات أنه قد جعل صلاة الكوفة وحربها إلى عمار بن ياسر، وأنه قد جعل بيت مال الكوفة وتعليم أهلها إلى عبد الله بن مسعود، وأنه قد جعل سواد الكوفة إلى عثمان بن حنيف. فأمَّا أصحاب السابقة من المهاجرين والأنصار فيسمعون ويعرفون في سرائر نفوسهم وفي ظاهر سِيرَتهم، وأما الذين أسلموا بأخرة من أشراف قريش فيسمعون ويُطيعون وينصرفون وفي نفوسهم شيء.
يقول أحدهم لصاحبه: «غفر الله لعمر! ماذا صنع بقريش؟! ألا ترى إليه يجعل إمرةَ الكوفة لابن سُمَيَّةَ، ويجعل بيت مالها وتعليم أهلها لابن أم عبد! وأين هو عن أشراف قريش وعن السابقين الأولين من المهاجرين؟!» فيقول له صاحبه: «أمسكْ عليك نفسك، لا يبلغُ عمر من حديث هذا شيء فيظن بك النفاق ويؤدِّبك أدبًا لا تحبه، إنَّك لحديث عهد بالإسلام، وما أراك قرأت من القرآن إلا قليلًا، ألم تسمع قول الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ؟! فإن عمر لم يزد على أن أنجز بعضَ وَعْد الله — عز وجل — لبعض هؤلاء المستضعفين في الأرض.» قال صاحبه وقد أظهر الرضا: هو ذاك.
وانتهى عمار بن ياسر وابن مسعود وعثمان بن حنيف إلى الكوفة، واجتمع أهلها في المسجد، فقرئ عليهم كتاب عمر، فإذا فيه: «أما بعد، فإني بعثْتُ إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وابن مسعود معلمًا ووزيرًا، وقد جعلتُ ابن مسعود على بيت مالكم، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أم عبد على نفسي، وبعثت عثمان بن حنيف على السواد، ورزقتهم كل يوم شاة، فاجعلوا شَطرَها وبطنها لعمار، والشطر الباقي بين هذين الرجلين.» وقد سمع أهل الكوفة ورضُوا وأطاعوا فأحسنوا الطاعة، وأحسن أمراؤهم السياسة.
واستحضر ابن مسعود في أكبر الظن حياته تلك حين كان راعيًا لغُنَيْمَات عُقبة بن أبي مُعيط، قد أدبرت عنه الدنيا بسعيها ودعتها وثرائها ونعيمها، وذكر أن النبي ﷺ قد رضي عن أمانته حين أبى أن يسقيه ويسقي صاحبه من لبن غنم ابن أبي معيط، وذكر أن النبي ائتمنه على سره وضمه إليه وجعله من خاصته، وذكر أن النبي قال فيه ذات يوم: «إن ساقه لأثقل في الميزان يوم القيامة من أُحُد.» فلم يزده هذا إلا إيمانًا وتَثبيتًا وحبًّا للأمانة واستمساكًا بها، ووفاء لخليله ونصحًا لأُمَّتِه.
وكان يخرج في حاجات بيته وأهله كما يخرج غيره من عامة الناس.
وأقبل بجيش من أهل الكوفة مَدَدًا لأهل البصرة في بعض المواقع، فلما أظفر الله المسلمين قال له بعض أهل البصرة: يا أجدَع، أتريد أن تشاركنا في غنائمنا؟! فلم يزد عمار على أن قال وهو يضحك: خَيرَ أُذُنَيَّ سببتَ. وكانت أذنه تلك قد أُصِيبَتْ في سبيل الله يوم اليمامة، وقد أبى أهل البصرة أن يُشركوا عمارًا وأصحابه في الغنيمة، وأبى عمار إلا أن يأخذ لأصحابه حقهم منها. فكتبوا في ذلك إلى عمر، فكتب إليهم عمر: إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة. وأخذ عمار وأصحابه حقهم، وكان عمر يُخالف بين وُلاته على الأمصار، لا يكاد يمد لأحدهم في الولاية. فلما عزل عمارًا ولقيه بعد ذلك في المدينة قال له: أساءك عَزْلنا إياك؟ فأجابه عمار: أمَّا إذا قلت ذاك فقد ساءني حين استعملتني وساءني حين عزلتني، ثم فرغ عمار للعبادة والطاعة والأمر بالمعروف وتأديب الناس في دينهم ما بقي من أيام عمر وصدرًا من أيام عثمان، ولكن عمارًا يعلم ذات يوم أن عثمان قد أمَّر عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر، فيحضره خاطر مؤلم يُمرُّه في نفسه، ثم يُلقيه في أعماق ضميره لا يُحدِّث به نفسه بعد ذلك ولا يُحدِّث به الناس، ويذكر أن آية في القرآن قد أُنزِلتْ أُشِيرَ فيها إليه وإلى عبد الله بن أبي سَرْح هذا الذي أُمِّرَ على مصر، وهي قول الله عز وجل: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
وكان المسلمون يرون أن عبد الله بن أبي سَرْح هو الذي أُشِير إليه في قول الله عز وجل: مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا.
يقول عمار لنفسه: إن عبد الله بن أبي سرح قد عاد بأخرة إلى الإسلام، فعسى أن يكون قد تاب وأصلح، وعسى الله أن يكون قد حطَّ عنه ثقلَ الكفر بعد الإيمان. ولكن سيرة عبد الله بن أبي سرح في مصر تُصبح موضع الشكوى بين المصريين كسيرة غيره من وُلاة عثمان في الكوفة والبصرة، ثم تكثر الشكوى ويشيع النكير حتى يغضب المهاجرون والأنصار في المدينة ويتكلمون في ذلك، ثم يجتمعون ويتشاورون، ويذهب عمار إلى عثمان عن نفسه أو عمن وراءه من المسلمين ليحدِّثه برأي الناس في وُلاته، فلا يرضي قوله عثمان، ويعظم الأمر بينهما، حتى يأمر عثمان بإخراجه، فيخرجه غلمانه ويضربونه حتى يُغشى عليه، وحتى يظن الناس أنه الموت، ولكن عمارًا يفيق ويقول: طالما عُذِّبنا في الله من قبل. ويُصبح منذ ذلك اليوم زعيمًا من زعماء المعارضة لعثمان.
٢٥
لبث عبد الله بن مسعود في الكوفة بعد أن عُزِل عنها عمار بن ياسر، لم يَعُدْ إلى المدينة، ولم يُنَحَّ عن عمله، وإنما ظل أمينًا على بيت مال الكوفة معلمًا لأهلها مشيرًا على ولاتها. وقد علَّم الناس فأحسن تعليمهم، فملأ قلوبهم حبًّا له وإعجابًا به، وترك في نفوسهم أقوى الأثر وأبقاه.
ولم يكن ذلك غريبًا، فقد لزم ابن مسعود رسول الله فأطال لزومه، حتى ظن بعض أصحابه أنه من أهل البيت، وأخذ من فم النبي سبعين سورة من القرآن لم يُنازعه فيهنَّ أحد، وكان النبي يحب قراءته للقرآن، ويحببها إلى الناس، ويقول: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.»
وكان ابن مسعود يُقرئ الناس القرآن في أثناء إقامته في الكوفة، ويعظهم عشيةَ كل خميس، يقوم فيهم خطيبًا معتمدًا على عصًا، فيتكلم ما شاء الله أن يتكلم ثم يسكت، وأحب شيء إلى سامعيه أن يمضي فيما كان فيه من حديث. ولم يكن ابن مسعود يخاف شيئًا كما كان يخاف الرواية عن النبي، شأنه في ذلك شأن المتحفِّظين الذين سمعوا النبي يقول: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.» فأشفقوا أن يتحدثوا عنه فيخطئوا صدْقَ الحديث وهم لا يشعرون. وجرى مرة على لسان ابن مسعود وهو يعظ الناس قوله: قال رسول الله ﷺ. فلم يكد هذا القول يجري على لسانه حتى أخذته رعْدَةٌ عنيفة اضطرب لها جسمه كله، وتزعزعت لها العصا التي كان يعتمد عليها، وتصبب العرق على جبهته، فقال: أو فوق هذا، أو نحو هذا، أو دون هذا. ولم يرضَ أهل الكوفة على أحد من ولاتهم كما رضوا عن عبد الله بن مسعود وعن أبي موسى الأشعري.
وقد تُوفِّي عمر — رضي الله عنه — وابن مسعود أمير على بيت المال في الكوفة، فأقره عثمان على عمله، حتى إذا كانت ولاية الوليد بن عقبةَ للكوفة حدثت أحداث حولت ابن مسعود إلى المعارضة، وكان ابن مسعود قبل هذه الأحداث من أرضى الناس عن عثمان، وأحسنهم ذكرًا له، ودعاء إليه.
٢٦
وقد حدث بعض هذه الأحداث في الكوفة، وحدث بعضها الآخر في المدينة، فأما ما حدث منها في الكوفة فسياسة جديدة في بيت المال لم يألفها عبد الله بن مسعود، ولم يكن ليطمئن إليها أو يرضاها، فقد كان الوليد يتوسع في النفقة، ويرى أن له أن يصنع بمال المسلمين ما يشاء. وكان ابن مسعود قد ألف منذ أيام عمر أن أموال بيت المال ملك للمسلمين لا للأمراء، وأن الأمراء لا ينبغي أن يُنفقوها إلا بحقها، وفي الوجوه التي تنفع عامة المسلمين.
وإلى جانب هذه السياسة المالية الجديدة كان للوليد بن عُقبةَ سيرةٌ لم يرضَ عنها خيار أهل الكوفة، وقد أنكر ابن مسعود ما أنكر الناس، وكره الوليد منه هذا الإنكار، واشتد الخلاف بينهما، وكان الناس إلى ابن مسعود أميل، وله أحب، ولقوله أكثر استماعًا.
وقد ألَّف عثمان لهذا العمل الخطير لجنةً من حفَّاظ المسلمين، وجعل رياستها لزيد بن ثابت. وليس من شك في أن عثمان قد نصح للمسلمين في هذا العمل، وكره لهم أن يختلفوا في قراءة كتاب الله، ولما تم له جمع المصحف أذاعه في الأمصار، وحظر القراءة على غير ما كتب فيه، وتقدَّم في تحريق غيره من الصحف التي كُتِب فيها القرآن قبل أن يجمع المصحف الإمام، فكره ابن مسعود ذلك، وكان من أقرأ الناس وأحفظهم، وأبى أن يذعن لأمر عثمان. ثم لم يكتفِ بذلك، وإنما جعل يلهج بنقد ما تقدم فيه عثمان وبنقد سيرة الوليد في الكوفة، وكان إذا خطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع قال لهم فيما كان يقول: إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدْي هدْيُ محمد، وشر الأمور مُحْدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ورأى الوليد في هذا الكلام تعريضًا به وبعثمان، فتقدم إلى ابن مسعود في ألَّا يُعيده، فلم يحفل به ابن مسعود ولم يلتفت إليه.
فكتب فيه إلى عثمان يأمره بإخراج ابن مسعود من الكوفة وإرساله إلى المدينة ففعل، وخرج الناس يُشيِّعون ابن مسعود إلى ظاهر الكوفة محزونين يُلِحُّون عليه في أن يبقى بينهم، ويخافون عليه من عثمان أن يبطش به أو يناله بمكروه، ويعاهدونه على أن يحموه فلا تصل إليه يد بسوء، ولكنه أبى عليهم قائلًا: إن هذا أمر سيكون، وما أُحِبُّ أن أكون أول مَنْ فَتَحَهُ.
ودخل المدينة ذات ليلة، فلما أصبح غدا على المسجد، وكان ذلك اليوم يوم جمعة، فلما رآه عثمان قال قولًا غليظًا وعابه من أعلى المنبر، فردَّ عليه ابن مسعود قائلًا: لستُ كما تقول، ولكني صاحبُ رسول الله ﷺ يومَ بَدْر ويوم أُحُد ويوم الخندَق ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة — رحمها الله — من وراء الستر: وَيْحَكَ يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله ﷺ؟! فقال لها عثمان: اسكتي. ثم أمر بعض غلمانه بإخراجه من المسجد، فأقبل غلام أسود طَوالٌ، فاحتمل ابن مسعود وأخرجه من المسجد إخراجًا عنيفًا، وابن مسعود يحاول أن يفلتَ منه ورجلاه تختلفان على كتفيه وهو يصيح بعثمان: أنشدُكَ اللهَ لا تخرجني من مسجد خليلي ﷺ، ولكن الغلام يمضي به، حتى إذا بلغ باب المسجد ضرب به الأرض فكُسِرَتْ إحدى أضلاعه، وحُمِل إلى بيته مكروبًا.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما حَرَمه عثمان عطاءه سنتين. فأقام ابن مسعود في المدينة مغضوبًا عليه من الإمام، يوَاده على رغم ذلك صديقه من أصحاب النبي، حتى إذا أدركه المرض الذي مات فيه عرف عثمان أنه مشرف على الموت. وهنا يختلف الرواة، فأما الناقمون من عثمان، فيقولون إنه سعى إلى ابن مسعود واعتذر إليه وعرض عليه عطاءه وسأله أن يستغفر له، فلم يقبل منه ابن مسعود شيئًا، ووسط عثمانُ أُمَّ حبيبة زوجَ النبي ﷺ عند ابن مسعود فلم يقبل لها وساطة، ومات ابن مسعود والأمر بينه وبين عثمان على شَرِّ ما يكون. وقد يغلو الناقمون على عثمان، فيزعمون أن ابن مسعود أوصى ألَّا يصَلِّي عليه عثمان، وأنَّ عمار بن ياسر تلقَّى هذه الوصية وأنفذها، فكان هذا مما زاد غضب عثمان على عمار.
وأما الذين يتولون عثمان، ويحسنون الظن بهؤلاء النفر من المهاجرين، فيقولون: إن عثمان عاد ابن مسعود في مرضه واعتذر إليه، فقبل منه واستغفر كلا الرجلين لصاحبه، ومات ابن مسعود فصلى عليه عثمان وقام على قبره وأحسن الثناء عليه. وهذا أشبه بسيرة الرجلين جميعًا.
ويدخل الزبير بن العوَّام على عثمان، وكان ابن مسعود قد أوصى إليه، فيقول له: ادفع إليَّ عطاء ابن مسعود؛ فإن عياله أحق به من بيت المال.
قال عثمان: نعم؛ ثم أدَّى إلى الزبير عطاء ابن مسعود ومثله معه، وأمر خازن بيت المال، فدفع للزبير خمسة وعشرين ألفًا.
ويجتمع أهل الكوفة بعد ذلك بسنتين حول علي رضي الله عنه، ويُذْكَرُ ابن مسعود، فيقولون لعلي: يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلًا كان أحسن خُلُقًا، ولا أرفق تعليمًا، ولا أحسنَ مجالسة، ولا أشدَّ ورعًا من عبد الله بن مسعود.
فقال علي: نشدتكم الله، إنه لصدْقٌ من قلوبكم؟
قالوا: نعم.
فقال: «اللهم إني أشهدك، اللهم إني أقول فيه مثل ما قالوا أو أفضل.»
٢٧
لم يشتدَّ أحد من أهل المدينة في معارضة عثمان حين ظهرت الفتنة كما اشتد عمار بن ياسر، كان على الفطرة كما وصفه النبي ﷺ، وكان يكره التأوُّل ويكره المتأوِّلين، وكان يحب من القول أصرحَه، ومن العمل أوضحه، ومن السِّيرة أشدها استقامة وأبعدها عن العوج والالتواء، وكان الدين الخالص قطعة من طبعه وعنصرًا مُقَوِّمًا لمزاجه، وكان أزهد الناس في الدنيا وأقلهم احتفالًا بمنافعها، وأشدهم خوفًا من الفتنة، وأكثرهم انصرافًا عن تعقيد السياسة والتوائها، وكان يحب الحق ويسعى إليه، ولا يحب إلا الحق ولا يسعى إلا إليه. وقد رأى من سيرة النبي وصاحبيه استقامة لا عِوَجَ فيها، وصراحة بريئة من الغموض، فاستقر في نفسه أن أمر السلطان يجب أن يستقيم دائمًا كما استقام للنبي وصاحبيه. فلما رأى اختلاط الأمر واشتباك المنافع واختلاف الأهواء أيام عثمان شقَّ عليه هذا كله، فلم يستطع قلبه أن يسيغه، ولم تستطع فطرته أن تطمئن إليه، فأنكر فيما بينه وبين نفسه، ولاذ بصمته الطويل، واستعاذ بالله من الفتنة كأشد ما يستعيذ الإنسان بالله منها. ثم رأى الناس وسمعهم ينكرون، فلم يكد يُفكِّر ويُقدِّر ويستقصي حتى أنكر كما أنكروا وعارض كما عارضوا، ولكنه على ذلك استمسك بالصمت واستعاذ بالله من الفتنة، حتى رأى وسمع أولئك الشيوخ من أصحاب رسول الله — ومن المهاجرين بينهم خاصة — ينكرون، فجعل اليقين يستبين له.
وتحدَّث الناس في المدينة ذات يوم أن عثمان أخذ شيئًا من جوهر كان في بيت المال فحلَّى به بعضَ أهله، وجعل المهاجرون والأنصار يقولون في ذلك حتى أكثروا، وتكلم عثمان على المنبر ذات يوم، فقال: لنأخذَنَّ حاجتنا من هذا المال وإن رَغمتْ أنوف أقوام.
قال علي: إذن تُمنَع من ذلك، وقال عمار: أشهد الله إن أنفي أولُ راغم.
ولم يشتدَّ عمار في شيء بعد قتل عثمان كما اشتد في مناصرة علي، ولا سيما حين ثارت الحرب بينه وبين معاوية. في ذلك الوقت استبان الحق لنفس عمار وقلبه وضميره، ولم يشكَّ لحظة في أن عليًّا وأصحابه كانوا على الحق، وفي أن معاوية وأصحابه كانوا على الباطل، ولم يُقبِلْ عمار على حرب خالص النية فيها لله ورسوله بعد وفاة النبي كما أقبل على حرب صفين. كانت مقالة النبي له: «تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.» قد استقرت في أعماق نفسه، وكأنها ظهرت له جَلية نَقية ناصعة ساطعة حين خرج مع علي وأصحابه يقصدون قَصْدَ صفين. هنالك لم يَشُكَّ عمار في أن معاوية وأصحابه هم الفئة الباغية، وفي أن هذه الحرب التي كانوا ينصبونها لابن عم النبي إنما كانت تُشبه غيرها من الحروب التي كانت قريش تنصبها للنبي نفسه يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق، فخرج عمار إذن إلى حرب صفين على بصيرة من أمره، قد أخلص قلبه لله، ووهب نفسه لله، وابتغى الشهادة في صفين كما كان يبتغيها في المشاهد التي شهدها مع رسول الله ﷺ.
وقد سمعه من سمعه وهو يقول ذات يوم في أثناء مسيره إلى صفين على شط الفرات: اللهم إنه لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلتُ، اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، فإني لا أقاتل إلا أريد وجهك، وأنا أرجو ألا تخيبني وأنا أريد وجهك.
•••
وكان عمار في ذلك الوقت قد جاوز التسعين، ولكن الناس ينظرون إليه فإذا هو قد استردَّ من القوة والشباب والنشاط ما لم يكن لهم عهد به من قبل. كان أسرعهم إلى الحرب وأكرههم للقعود، وأحبهم للموت، وأبغضهم للحياة، وكان مستيقنًا يقينًا لا يعرض له الشك أنه على حق، وأنه يقاتل في سبيل الله. وقد اشتدت الحرب بين الفريقين بصفين يومًا ويومًا، فلما كان اليوم الثالث قال معاوية: هذا يوم تتفانى فيه العرب إلا أن تُدركهم خفةُ العبد. يريد بالعبد عمارًا، ويريد بخفته شدَّة نشاطه في الحرب واستخفافه بما تحتاج إليه من مكر وكيد وأناة.
وقد انكشف أصحاب علي شيئًا، فلم يُوهن ذلك من نفس عمار، ولم يبلغ من يقينه شيئًا، وإنما جعل يقول: والله لو ضربونا حتى يُبلغونا سَعفات هَجر لعلمتُ أنَّا على حق وأنهم على ضلالة.
وكانت راية معاوية مع عمرو بن العاص، فجعل عمار ينظر إليها ويقول: لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله ﷺ ثلاث مرات وهذه الرابعة. وكانت راية علي مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان هاشم أعور، فكان عمار يحثه، يُغلظ عليه مرة فيقول: تَقدَّمْ يا أعور. ويرفق به مرة أخرى، فيقول: تقدَّمْ يا هاشم فداك أبي وأمي، وكان هاشم يقول له: رحمك الله يا عمار، إني إنما أزحف باللواء وأرجو أن يفتح الله عليَّ ويُبلغني ما أريد، وإن في العجلة الهلكة. فيقول له: تَقدَّم فداك أبي وأمي. وما يزال به حتى يتقدم، فإذا رأى عمار صاحب الراية يتقدم بها صاح بمن حوله: مَنْ رائحٌ إلى الله؟ من رائح إلى الجنة؟ ثم اندفع فقاتل حتى قُتِل.
وقد رأى خزيمة بن ثابت مَصرع عمار، فقال: الآن استبانت لي الضلالة، ثم دخل فسطاطه فاغتسل، ثم لبس سلاحه، ثم تقدَّم فقاتل حتى قُتِل.
وأما هُنَي مولى عمر بن الخطاب، فقد عرف عمارًا حين أسفر الصبح، فأقبل حتى دخل على عمرو بن العاص وهو جالس على سريره ومن حوله نفرٌ يتحدث إليهم، فقال هني: أبا عبد الله. قال عمرو: ما تشاء؟ قال هني: انظر أكلمك. فقام عمرو حتى خلا إليه.
قال هني: عمار بن ياسر، ماذا سمعت فيه؟
قال عمرو: سمعت رسول الله ﷺ يقول: تقتله الفئة الباغية.
قال هني: ها هو ذا مقتول.
قال عمرو: هذا باطل.
قال هني: بصرتْ عيني به مقتولًا.
قال عمرو: هَلُمَّ أَرِنِيهُ. فذهب به حتى رآه بين القتلى، فلما رآه امتقع لونه، ثم أعرض في شِقٍّ، وقال: إنما قتله مَنْ أخرجه.
وكان عمار قد قال لأصحابه مساء ذلك اليوم: لا تُغَسِلِّوني ولا تحثوا عليَّ ترابًا فإني مخاصم. فلما قُتِل أقبل عليٌّ فصلَّى عليه ولم يُغسله، وقال: «إن امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتلُ ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد، رحم الله عمارًا يوم أسلم، ورحم الله عمارًا يوم قُتِل، ورحم الله عمارًا يوم يُبعَث حيًّا، لقد رأيت عمارًا وما يُذكَرُ من أصحاب رسول الله ﷺ أربعةٌ إلا كان رابعًا، ولا خمسة إلا كان خامسًا، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشك أن عمارًا قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين، فهنيئًا لعمار بالجنة.» ولقد قِيلَ: إن عمارًا مع الحق والحق معه يدور، عمار مع الحق أينما دار، وقَاتِلُ عمار في النار.
٢٨
أقبل رجلان من أصحاب معاوية حتى دخلا عليه فسطاطه ومعه عمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو ونفرٌ من أصحابه، فجعلا يختصمان في قتل عمار، كلهم يزعُم أنه قاتله. قال عبد الله بن عمرو: لِيَطِبْ به أحدكُما نفسًا لصاحبه؛ فإنما تختصمان في النار؛ قال رسول الله ﷺ: «تقتل عمارًا الفئة الباغية، وقاتله وسالبه في النار.» قال معاوية لعمرو: ألا تَكُفُّ عنا مجنونك يا عمرو؟! ثم التفت إلى عبد الله بن عمرو، وقال: إن كان هذا رأيك فما لك معنا؟! قال عبد الله: إن أبي شكاني لرسول الله ﷺ، فأمرني أن أطيعه ما دام حيًّا، فأنا معكم ولست أُقَاتِل.
قال معاوية: لم نقتله، إنما قتله من جاء به.
جلس عمرو بن العاص إلى جماعة من أصحابه يسمر معهم بعد أن خلص الأمر كله لمعاوية، فقال له بعض القوم: إنا نرى رسول الله ﷺ كان يحبك وكان يستعملك أبا عبد الله.
قال القوم: من هما؟
قال عمرو: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر.
قال القوم: عمار بن ياسر! فذاك قتيلكم يوم صفين؟!
قال عمرو: صدقتم والله لقد قتلناه.
كان عمار على رأس كتيبته يوم قُتِل، وكان ذو الكلاع الحميري من أصحاب معاوية على رأس الكتيبة المواجهة لعمار، فقُتِلا كلاهما. وتَحَدَّث ابن سعد عن أصحابه أن عمرو بن شُرحبيل أبا مَيسرَة — كان رجلًا من أصحاب عبد الله بن مسعود ومن خيرهم — قال: رأيت في المنام روضة خضراء فيها قبابٌ مضروبة فيها عمار، وقبابٌ مضروبة فيها ذو الكلاع. فقلت: كيف هذا وقد اقتتلوا؟! فقيل: وجدوا ربًّا واسع المغفرة.