ضرب الإسكندرية
(١) ضرب الإسكندرية
كانت إنجلترا تستعد للحرب قبل انعقاد مؤتمر الآستانة وخلال اجتماعه، وقبل أن يقرَّ قراره بدعوة تركيا إلى إرسال جيش لها إلى مصر … وأخذت تدبِّر الأسباب والذرائع للتعجيل بضرب الإسكندرية لكي تضع المؤتمر أمام الأمر الواقع.
فأوعزت إلى الأميرال سيمور قائد الأسطول البريطاني أن يخلق أية وسيلة للتحرش بمصر لإثارة الحرب عليها؛ أي أنها أخذت تخلق «الحالة القهرية» التي أشار إليها اللورد دفرين في مؤتمر الآستانة، واشترط إضافتها إلى قرار الامتناع عن التدخل المنفرد في مصر، فأخذ الأميرال يتأهب للعدوان، وكان يستعين برأي الجالية البريطانية في خلق أسبابه، ووجد على الأخص من السير أوكلن كولفن الرقيب المالي الإنجليزي عونًا كبيرًا له في ذلك … إذ كان من أشد غلاة الاستعمار ومن الداعين إلى احتلال مصر، وكان بعد رحيل السير إدوار مالت الممثل الفعلي لبريطانيا في مصر، فلا غرو أن كان على اتصال دائم بالأسطول.
ولم يكن أسهل على القوة الغشوم من أن تخترع الوسيلة لإثارة القتال … فقد أرسل الأميرال سيمور في أول يوليو سنة ١٨٨٢ إلى مجلس الأميرالية الإمبراطورية ينبئها أنه اكتشف بعض ترميمات يقوم بها المصريون في حصون الإسكندرية، وأنهم يركِّبون بطاريات جديدة تجاه بوارجه، وأن الاستعدادات الحربية قائمة في البلاد، وأن عرابي معتزم سد بوغاز الإسكندرية لحصر البوارج الإنجليزية التي كانت راسية في الميناء.
وبديهي أن هذا الاكتشاف إنما كان وسيلة مختلقة لتسويغ الشر والاعتداء، فإن أية ترميمات تجري في الحصون لا يمكن أن تكون وسيلة مشروعة لإثارة الحرب والقتال، إذ كل دولة حرة في أن تقوِّي معدات الدفاع في بلادها، بل واجب عليها أن تفعل ذلك في كل وقت … وخاصةً في مثل تلك الظروف العصيبة التي كانت تجتازها مصر، فإن مجرد حضور الأسطول البريطاني فيه معنى التهديد بالتدخل المسلح، على أنه لم يكن ثمة ترميمات جديدة تخيف الأسطول الإنجليزي وتشغل باله.
وقد أجابت الأميرالية الإنجليزية في ٣ يوليو على برقية الأميرال سيمور بأن يمنع كل محاولة لسد بوغاز الإسكندرية، ورخصت له بأن يطلب وقف الأعمال الجارية في الحصون، وفي حالة الرفض فليدمرها بمدافعه.
- أولًا: في ٢٢ يونيو سنة ١٨٨٢ عرض سفير إنجلترا في باريس على الحكومة الفرنسية الاشتراك في اتخاذ وسائل عاجلة بقصد حماية قناة السويس، فأجابه المسيو دي فريسينيه رئيس وزارة فرنسا أن لا خطر مطلقًا يتهدد القناة، وأن شركة القناة ذاتها لا تخشى من شيء سوى تلك الحماية التي يُراد فرضها عليها؛ لأن احتلال القناة قد يؤدي إلى قطع ترعة الإسماعيلية واستهداف القناة البحرية ذاتها لأعمال عدائية، وختم دي فريسينيه جوابه بأن احتلالها عمل لا مسوغ له.
- ثانيًا: يقول المستر بلنت: إن وزارتي الحربية والبحرية في إنجلترا عقدتا النية منذ أوائل سنة ١٨٨٢ على مهاجمة مصر من ناحية قناة السويس، وشاهد بنفسه الاستعدادات الحربية في إنجلترا في شهر يونيو سنة ١٨٨٢، وكان يعتقد أن الغرض منها تقوية مركز إنجلترا في مؤتمر الآستانة، ولكن تبيَّن له فيما بعد أن الغرض منها مهاجمة مصر.
- ثالثًا: موقف إنجلترا في مؤتمر الآستانة وإصرار اللورد دفرين على وجوب التدخل الحربي في شئون مصر لقمع الثورة، وإضافته كلمة «الحالة القهرية» إلى قرار الامتناع عن التدخل المنفرد كما تقدَّم بيانه، كل ذلك يدل على ما كانت تضمره من التدخل بمفردها.
- رابعًا: منذ أن جاء الأسطول البريطاني في مايو تعاقد مع تجار الأطعمة على توريد المئونة اللازمة للأسطول لمدة ثلاثة أشهر … وليس هذا عمل أسطول جاء لوقت محدود بقصد حماية أرواح الأجانب كما قال الإنجليز عند حضوره.
- خامسًا: أرسل المسيو سنكفكس قنصل فرنسا العام إلى المسيو دي فريسينيه رئيس وزارة فرنسا برقية من الإسكندرية في ٢٨ يونيو سنة ١٨٨٢ يقول فيها: «إن هجرة الأوروبيين مستمرة، والشعور العام هنا أن التدخل الإنجليزي أصبح وشيك الوقوع، ولم يبقَ في القنصلية الإنجليزية إلَّا كاتبان يسجلان أسماء الإنجليز الذين يرغبون البقاء في مصر.»
- سادسًا: أرسل المسيو دي فورج De Forges قنصل فرنسا العام إلى المسيو دي فريسينيه برقية من الإسكندرية يوم ٤ يوليو، يقول فيها: «كل الدلائل تدل على أنه سيقع عمل حربي عاجل من الإنجليز؛ سواءً باشتراكنا أو بدونه.»
- سابعًا: اعترف الأميرال سيمور في يوم ٦ يوليو سنة ١٨٨٢ بأن أعمال الترميم التي زعم أنها كانت جارية بها لغاية يوم ٥ يوليو، أُوقفت ومع ذلك أصر على الضرب.
- ثامنًا: تدبير مذبحة الإسكندرية من الأدلة على تبييت إنجلترا النية على الاحتلال.
- تاسعًا: عهدت وزارة الحربية البريطانية إلى المستشرق الأستاذ بالمر Palmer بالمجيء إلى مصر وارتياد صحراء سينا لرشوة القبائل البدوية بين قناة السويس وغزة قبل نشوب الحرب، وقد حضر، وقابله المسيو جون نينيه في الإسكندرية عرضًا، فقال له الأستاذ بالمر: «أنصحك بمغادرة القُطر المصري؛ لأن الإسكندرية ستُضرب بالقنابل عما قريب، وستكون عرضة لأن يقتلك الأهلون.»
وقد قام الأستاذ بالمر بمهمته، ولكن قتله البدو هو وصحبه، وحوكم قتلَتهم عقب الاحتلال فحُكم عليهم بالإعدام!
كل هذه الشواهد والنيات تدل على سبق إصرار إنجلترا على ضرب الإسكندرية، واحتلالها مهما كانت الأحوال أو اختلفت الأسباب.
(١-١) التحفز للضرب
في ٦ يوليو أرسل الأميرال سيمور إلى طلبة عصمت قومندان موقع الإسكندرية بلاغًا أول بالكف عن أعمال التحصين الجارية في الحصون، فأجابه طلبة في اليوم ذاته بأنه لم يوضع أي مدفع جديد في الحصون ولم يُجرَ فيها أي عمل جديد، وقد ذاع بلاغ الأميرال سيمور في المدينة وتناقله الناس، فأيقن العارفون بحقائق الأمور أنه نذير الشر، وأن الحرب واقعة لا محالة، وأوعز قنصلا إنجلترا وفرنسا إلى رعاياهما الباقين بالمدينة بالمبادرة إلى الرحيل عنها، فتسابقوا إلى الهجرة والنزول إلى السفن التي بالميناء، وبلغ عدد المهاجرين الأوروبيين منذ حوادث يونيو إلى ما قبل الضرب نحو ٩٩ في المائة من عددهم الأصلي، وهاجر كثير من سراة المدينة إلى داخل البلاد، على أن معظم الأهلين بقوا بها.
لم يقتنع الأميرال سيمور بجواب طلبة باشا … وهيهات أن يقتنع؛ لأنه إنما يبغي من جوابه أن يختلق سببًا مكذوبًا ليتذرع به إلى الضرب.
البارجة إنفنسبل في ٦ يوليو سنة ١٨٨٢
صاحب السعادة … أتشرف بإخباركم أني علمت من طريق رسمي، أنه قد صار البارحة تركيب مدفعين جديدين أو أكثر في خطوط الدفاع القائمة على البحر، وأن بعض استعدادات حربية قد عُملت في واجهة الإسكندرية الشمالية تحديًا للأسطول الذي تحت قيادتي، فيجب علي والحالة هذه أن أنبه عليكم بوقف هذه الأعمال، فإن لم تقف وتجددت يكون واجبًا علي تدمير المعدات الجاري العمل فيها.
عزيزي الأميرال الإنجليزي …
أتشرَّف بأن أنبئكم بوصول خطابكم المؤرَّخ ٦ يوليو، الذي تخبرونني فيه أنه اتصل بكم تركيب مدفعين، وأن أعمالًا أخرى جارية على شاطئ البحر … فردًّا على ذلك، أود أن أؤكد لكم أن الأخبار المذكورة لا حقيقة لها، وأن هذه الأخبار مثل خبر التهديد بسد مدخل البوغاز الذي اتصل بكم وتحققتم كذبه.
هذا وإني لمعتمد على عواطفكم المتشبعة بروح الإنسانية، وأرجو قبول احتراماتي.
ولم يكتفِ الأميرال سيمور بطلب منع التحصين، بل طلب أن تُسلَّم له الحصون التي يزعم أنها تهدد الأسطول!
وفي صبيحة ١٠ يوليو أرسل إلى طلبة باشا عصمت إنذارًا نهائيًّا، يطلب فيه تسليم البطاريات المنصوبة في الحصون القائمة بشبه جزيرة رأس التين، وعلى ساحل ميناء الإسكندرية الجنوبي، وإلَّا ضرب الحصون في صبيحة الغد — ١١ يوليو — ومعنى ذلك تسليم الحصون ذاتها.
أتشرف بإخبار سعادتكم أنه نظرًا لأن الاستعدادات العدائية الموجهة ضد الأسطول الذي أتولى قيادته آخذة في الازدياد طول يوم أمس في طوابي صالح وقايتباي والسلسلة، فقد عقدت العزم على أن أنفِّذ غدًا — ١١ الجاري — عند شروق الشمس العمل الذي أعربت لكم عنه في خطابي المؤرخ يوم ٦ الجاري، إن لم تسلِّموا إلي حالًا قبل هذه الساعة البطاريات المنصوبة في شبه جزيرة رأس التين، وعلى شاطئ ميناء الإسكندرية الجنوبي لتجريدها من السلاح.
وعقد الخديو بسراي رأس التين مجلسًا عامًّا دعا إليه الوزراء وكبار رجال الدولة؛ ليستشيرهم في الموقف وفيما يجب أن يكون عليه جواب الحكومة على الإنذار النهائي، فاستقر رأي المجلس على رفض مطالب الأميرال …
لم تعمل مصر شيئًا يقضي بإرسال هذه الأساطيل المتجمعة، ولم تعمل السلطة المدنية ولا السلطة العسكرية أي عمل يسوغ مطالب الأميرال إلَّا بعض إصلاحات اضطرارية في أبنية قديمة، والطوابي الآن على الحالة التي كانت عليها عند وصول الأساطيل، ونحن هنا في وطننا وبيتنا، فمن حقنا بل من الواجب علينا أن نتخذ عُدتنا ضد كل عدو مباغت يُقدم على قطع أسباب الصلات السلمية التي تقول الحكومة الإنجليزية أنها باقية بيننا، ومصر الحريصة على حقوقها الساهرة على تلك الحقوق وعلى شرفها، لا تستطيع أن تسلِّم أي مدفع ولا أي طابية دون أن تُكره على ذلك بحكم السلاح … فهي لذلك تحتج على بلاغكم الذي وجهتموه اليوم، وتُوقع مسئوليات جميع النتائج المباشرة وغير المباشرة التي تنجم، إما عن هجوم الأساطيل أو عن إطلاق المدافع، على الأمة التي تقذف في وسط السلام القنبلة الأولى على الإسكندرية المدينة الهادئة، مخالفة بذلك لأحكام حقوق الإنسان ولقوانين الحرب.
يتضح من البيانات والمراسلات المتقدمة أن الإنجليز كانوا مصممين على احتلال الإسكندرية، سواءً ضربوها أو لم يضربوها، وسواءً قُبلت طلباتهم في الإنذار النهائي أو لم تُقبل، ولم تكن الوسائل السلمية كافية مجدية في منعهم عن تنفيذ ما عزموا عليه … فالمجلس العام الذي اجتمع برياسة الخديو وقرَّر رفض الإنذار، كان على حق في قراره. ولو أنه قرر التسليم بمطالب الأميرال سيمور، لَما كان تسليمه ليحُول بين الإنجليز واحتلالهم المدينة، وكل ما كان يؤدي إليه التسليم أن يقع الاحتلال دون مقاومة من جانب مصر، ولم يكن هذا موقفًا مشرِّفًا. فليس الخطأ في رفض مطالب الأميرال، بل الخطأ في الانقسام الذي كان واقعًا بين الخديو والعرابيين، وكان عليهم أن يتلافوا ذلك الانقسام الذي أضعف الجبهة المصرية في ساعة الخطر، ولكن كلا الفريقين لم يبذل سعيًا جديًّا في تلافيه، وكلاهما مخطئ من هذه الناحية.
الحصون والأسطول
يجمُل بنا قبل أن نتكلم عن وقائع الضرب أن نقابل بين القوتين المتحاربتين؛ لأن من هذا البيان يتضح من كان مقدرًا له الفوز والنصر.
كان بالإسكندرية في ذلك الحين عدة حصون تُسمَّى «طوابي» جمع طابية، وهذا الاسم متداول حتى اليوم بين سكان الثغر، ولا يزال بعض هذه الحصون «الطوابي» قائمًا حتى اليوم، تبدو عليه آثار الخراب وبعضها لم يبقَ له وجود.
وهذه الحصون كانت تمتد على شاطئ البحر من ناحية العجمي غربًا إلى أبو قير شرقًا … فأولها من الغرب طابية «العجمي»، وهي قائمة في جزيرة العجمي التي يسميها الإفرنج جزيرة المرابط — أو مارابوت كما يكتبونها — ولذلك يسمُّونها قلعة المرابط، واسمها الصحيح قلعة أو طابية العجمي، وتُسمَّى أيضًا طابية العجمي البحرية؛ تمييزًا لها عن طابية العجمي القبلية التي سيرد الكلام عنها.
وكانت طابية العجمي البحرية من أمنع حصون الإسكندرية، ويوجد تجاهها على اليابسة طابية أخرى تُسمى طابية العجمي القبلية، وتُعرف أيضًا بطابية «العيانة»، وهذه التسمية معروفة بين أهل هذه الجهة، وواردة كذلك في خريطة مصلحة المساحة … ولم تكن لها أهمية حربية، بل لم تشترك في الضرب إذ لم يكن إنشاؤها، ويلي هذه الطابية شرقًا طابية «الدخيلة»، ثم قلعة «المكس» وكانت من أمنع القلاع، ومهمتها الدفاع عن مدخل الميناء «البوغاز».
ويلي قلعة «المكس» على طول الشاطئ الجنوبي للميناء عدة حصون واستحكامات، وهي البرج نمرة ١٥، فطابية «القمرية»، فطابية «أم قبيبة»، ثم برج مستدير فيه مدفعان، ثم طابية «صالح».
وعند «باب العرب» طابية تُسمى طابية باب العرب تعادل طابية المكس في تسليحها، وتقفل لسان الأرض الواقع بين البحر وبحيرة مريوط، وهي واقعة إلى ما وراء المقطع القديم الذي خرقه الإنجليز عام ١٨١٠ قبل خروجهم من مصر، ليُدخلوا به مياه البحر إلى بحيرة مريوط، فأُغرقت يومئذٍ قرًى كثيرة، وتحولت به صحراء واسعة يابسة إلى مستنقع رديء.
وفي شبه جزيرة رأس التين عدة حصون تحمي الميناء من الجهة الشمالية، وهي طابية «الفنار» التي تحيط بفنار الإسكندرية وتُشرف على الميناء، فطابية «رأس التين» الواقعة شمالي سراي رأس التين، فطابية الإسبتالية.
وتلي هذه الحصون شرقًا طابية «الأطة» وهي كلمة تركية تُنطق أضه، وتعني الجزيرة، وتُسمى في الإسكندرية طابية القضاء — الواقعة شرقي حمام الأنفوشي — ثم طابية «الهلالية»، ثم طابية «قايتباي» التي يسميها الأوروبيون حصن «فاروس» ومهمتها حماية المدينة من الجهة الشمالية الشرقية وحماية الميناء الشرقي، يقابلها من الطرف الشرقي لهذا الميناء طابية «السلسلة».
ويلي طابية «السلسلة» شرقًا قلاع أبو قير، وهذه لم تشترك في القتال لبُعدها عن ميدانه، وبداخل المدينة طابية «كوم الناضورة»، وطابية «كوم الدكة» وتُعرف أيضًا بكوم الدماس.
وكان يحيط بالمدينة من جهة اليابسة سور قديم يُسمَّى السور العربي، الذي كان باقيًا منه إلى عهد قريب بعض آثاره بجهة باب رشيد «باب شرقي»، وهو سور حصين به أبراج للمدافع.
وهذه الحصون منشأة من عهد محمد علي، ماعدا كوم الناضورة وكوم الدكة، فإنهما منشآن من عهد الحملة الفرنسية، وقلعة «قايتباي» المنشأة في القرن الخامس عشر، وكانت الحصون سنة ١٨٨٢ بحالتها التي كانت عليها في عهد محمد علي وإبراهيم وعباس، وقد أجرى فيها إسماعيل بعض الترميم وجلب لبعضها المدافع الضخمة من طراز أرمسترنج، وهي التي كانت تضاهي مدافع الأسطول البريطاني، وكان عددها ٤٩ مدفعًا، أما المدافع الأخرى فلم يكن يُعتمد عليها في الضرب لقِدمها وضعفها وقرب مرماها، ولم تكن لها أية قيمة حربية في سنة ١٨٨٢، وهي معظم مدافع الحصون إذ كان عددها ٢٢٩ مدفعًا والأهوان وعددها أربعون.
يخلص مما تقدَّم بيانه أن الدفاع عن المدينة كان ضعيفًا متخاذلًا، وأن القوة التي واجهت الضرب لم تتجاوز ٧٠٠ مقاتل، أما حامية المدينة فلم تشترك في القتال، وكانت مؤلفة من أربعة آلايات: اثنان منها كانا مرابطين أصلًا في المدينة، وهما الآلاي الخامس من المشاة بقيادة الأميرالاي مصطفى بك عبد الرحيم برأس التين، والآلاي السادس بقيادة الأميرالاي سليمان بك سامي داود، ويتألف من هذين الآلايين اللواء الثالث بقيادة خورشيد باشا طاهر، والجميع بقيادة الفريق إسماعيل باشا كامل، وقد زيدَ عليهما آلايان بعد مذبحة الإسكندرية، وهما الآلاي الثاني بقيادة خليل بك كامل، والرابع بقيادة عيد بك محمد، ويتألف من هذين الآلاليين اللواء الثاني بقيادة طلبة باشا عصمت، الذي جعله عرابي قائدًا لموقع الإسكندرية وحاميتها.
ويقول عرابي: إن كل آلاي من المشاة كان مؤلفًا من ٣٠٠٠ مقاتل، فيكون مجموع الجند يوم ضرب الإسكندرية ١٢٠٠٠ من البيادة «المشاة» و٧٠٠ من الطوبجية.
أما الأسطول البريطاني فكان مؤلفًا من ثماني مدرعات كبيرة، وخمس سفن مدفعية وسفينة للطربيد وأخرى كشافة.
ومعظم مدافع هذا الأسطول من طراز أرمسترنج وعددها ٧٧ مدفعًا، والأسطول من هذه الناحية كان أقوى سلاحًا من الحصون، وكان يفوقها في سرعة تحركه وابتعاده عن الهدف، على حين أن الحصون كانت مستقرة يسهل على الأسطول رميها بمدافعه فيصيبها. وكانت خطته في الضرب أن تجتمع عدة بوارج فتصوب نيرانها نحو حصن واحد فتدمره أو تُسكته، ثم تتحول إلى الحصن الذي يليه … وهكذا تستطيع أن تدمر الحصون حصنًا بعد حصن، بينما الحصون لا تستطيع أن ينجد بعضها بعضًا، فهذه المقابلة وحدها تنبئ مبدئيًّا بمصير الضرب، وتدل على أن كفة الأسطول البريطاني كانت أرجح بكثير من كفة الحصون المصرية.
أصدر الأميرال سيمور يوم ١٠ يوليو سنة ١٨٨٢ تعليماته إلى بوارجه، لكي تأخذ مواقفها يوم الضرب على الترتيب الذي وضعه.
واتخذت البوارج موقفها على هذا النحو ليلة الضرب … أما عن الاستعداد للضرب من ناحية الحصون، فقد استدعى عرابي في تلك الليلة الأميرالاي إسماعيل بك صبري قومندان حصون الإسكندرية، وكان عرابي وقتئذٍ «بالترسانة» يصحبه محمود باشا فهمي وطلبة باشا عصمت ومحمد باشا كامل وكيل نظارة البحرية، وأصدر إليه تعليماته، فانصرف إسماعيل بك صبري والتقى بضباط الحصون، ووزَّع كلًّا منهم في مركز عمله.
وأصدر أيضًا تعليماته بتوزيع جنود الحامية على خطوط الاستحكامات من برج السلسلة شرقًا إلى قلعة العجمي غربًا.
وفي ليلة ١١ يوليو كانت البوارج الإنجليزية على أهبة القتال، أما الأسطول الفرنسي فقد انسحب إلى بورسعيد تنفيذًا لتعليمات حكومته، ولم يترك سوى سفينتين لم تعملا عملًا ما … وهكذا ترك الفرنسيون الإنجليز وحدهم ينفردون بالضرب والقتال، ولو اشتركوا معهم لتغيَّر وجه المسألة المصرية، ولمَا استطاع الاحتلال الإنجليزي أن يثبِّت أقدامه في البلاد.
مأساة الضرب
في الساعة السابعة من صبيحة يوم الثلاثاء ١١ يوليو سنة ١٨٨٢ أعطى الأميرال سيمور إشارة الضرب … فأطلقت البارجة «ألكسندرا» أول قنبلة على طابية الإسبتالية، وتلتها البوارج الأخرى، فأخذت تطلق قنابلها المدمرة على حصون المدينة وعلى المدينة ذاتها. أما القلاع فلم تُجِب على الضرب إلَّا بعد الطلقة الثالثة، بعد خمس دقائق، وكان الضرب من جانب الأسطول الإنجليزي شديدًا مروعًا، فكانت قنابله محكمة المرمى شديدة الفتك، أما القلاع فكانت ضعيفة متراخية وسقط كثير منها في البحر دون أن تصل إلى البوارج الإنجليزية.
وكانت البوارج أثناء الضرب تتحرك في سيرها، يحجبها عن الأعين دخان كثيف فلا يستطيع الرماة المصريون إحكام المرمى وإصابة الهدف منها، وكل بارجة بها شبكة من الفولاذ، إذا أصابتها قنبلة من قنابل الحصون صدَّت قوتها بحيث تضعف إذا نفذت إلى البارجة ذاتها، وقد ساعد على إحكام المرمى من جانب الأسطول أن الاستعداد الحربي من ناحية الإنجليز أقوى وأعظم منه من جانب القلاع المصرية، إذ كانوا مطَّلعين على دقائق الاستحكامات، ومبلغ ما بها من المدافع والميرة والذخيرة ومخازن القنابل فيها، بخلاف العرابيين فإن معلوماتهم عن قوات الإنجليز كانت مشوشة ضئيلة، وكانوا يظنون أن البوارج الإنجليزية لا تقوى على هدم القلاع ولا تقف أمام مرمى قنابلها، وقد اتضح عكس ما يظنون، فإن البوارج قد دكَّت الحصون وعطلت مدافعها، في حين أن الأسطول الإنجليزي لم يُصب بضرر يُذكر.
استمر الضرب من الساعة السابعة إلى الساعة الحادية عشرة على أقصى ما يكون من الهول والشدة، وقنابل الأسطول تقذف الخراب وتحصد الأرواح … ثم سكتت قليلًا واستؤنف الضرب بعد هنيهة حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ثم وقف هنيهة أخرى، ثم استؤنف بعد ذلك إلى منتصف الساعة السادسة مساءً قبل الغروب بساعة.
وقد تهدمت حصون الفنار ورأس التين والإسبتالية في منتصف الساعة الواحدة بعد الظهر، حيث اجتمعت عليها المدرعات ألكسندرا وسلطان وسوبرب، ولما أسكتتها صوبت قنابلها إلى قلعة «الأطة» وعاونتها في ضربها المدرعتان إنفلكسيبل وتمرير، فقذفت المدرعات الخمس نيرانها على تلك القلعة، فدمرتها بعد أن نسفت مستودع البارود فيها، ثم تحوَّلت إلى قلعة «قايتباي» وظلَّت تقذفها بقنابلها إلى الساعة الخامسة مساءً فخربتها.
وفي المنطقة الجنوبية من الساحل ضربت المدرعات إنفنسبل وبنلوب ومونارك وإنفلكسيبل وتمرير حصون المكس وأم قبيبة والدخيلة، فأسكتتها في منتصف الساعة الثانية عشرة، واتجهت السفينة كوندور إلى قلعة العجمي فضربتها بالقنابل حتى أسكتتها.
وفي نحو الساعة الأولى بعد الظهر شاهد الأميرال سيمور أن هذه الحصون قد أخلاها الجنود، فأرسل عشرين بحَّارًا إلى البر دخلوا قلعة «المكس» وأتلفوا مدافعها، ثم عادوا إلى سفنهم آمنين.
وفي منتصف الساعة الرابعة شوهدت مدافع طابية «القمرية» تتأهب للضرب … وعاد الجنود إلى قلعة «المكس»، فصوبت البارجتان «بنلوب» و«مونارك» مدافعهما إلى الحصن المذكور، وأخذتا في ضربه حتى منتصف الساعة السادسة مساءً، حيث أمر الأميرال سيمور بالكف عن القتال، فوقف الضرب بعد أن استمر عشر ساعات متوالية.
وقد دافعت الحاميات عن الحصون دفاع المستميت، وقام رجالها بواجبهم قدر ما استطاعوا … ولكن قوة الأسطول ومدافعه كانت لها الغلبة في هذا اليوم المشئوم، فتهدَّم معظم الحصون، وأصابت قنابل الأسطول كثيرًا من مساكن الأهلين فدمرتها وأحرقتها، كما أحرقت جناح الحرم بسراي رأس التين.
وتفانى الأهلون في الدفاع عن المدينة، على رغم أن الحرب كانت حرب مدافع وحصون وبوارج، فبذلوا كل ما في استطاعتهم من تضحية وإقدام.
وقُتل من المصريين خلال هذه الفظائع نحو ألفين، ولم تزد خسائر الإنجليز على خمسة من القتلى وتسعة عشر جريحًا …
وقد استيقن العرابيون يوم ١٢ يوليو أن الإنجليز لا بدَّ محتلون الإسكندرية بعد أن دكُّوا حصونها، فاستقر عزمهم على الانسحاب من المدينة؛ ليستعدوا للمقاومة في الداخل، وكان الأحكم أن يقاوموا نزول الجنود الإنجليزية إلى البر بأن يوزعوا جزءًا من قواتهم للمرابطة على الشواطئ، ومنع رسو القوارب المقلة للجنود الإنجليزية … فإنهم بذلك يعطلون نزولها مدة طويلة، وبخاصة لأن الأسطول الإنجليزي لم يكن قد تلقَّى المدد من جنود البر، وكانت قوته مقصورة إلى ذلك الحين على جنود البحارة، ولم يكن عددهم يزيد على ٥٧٠٠ مقاتل، وهؤلاء لم يكن في استطاعتهم أن يتغلبوا على حامية الإسكندرية.
حريق الإسكندرية
وكان في مقدور الحامية أن تصدهم عن النزول إلى البر وتدافعهم لو حاولوا النزول … ولكن العرابيين لم يفعلوا شيئًا من ذلك؛ لأنهم لم تكن لديهم قيادة صالحة تدبِّر الخطط المحكمة للقتال، فآثروا الانسحاب من الإسكندرية، ورأوا أن يتذرَّعوا بكل وسيلة لتعطيل احتلال الإنجليز للمدينة واستقرارهم فيها، فأمر سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس جنوده بإضرام النار في المدينة، لكي يحُول الحريق دون نزول الإنجليز بها واتخاذها قاعدة حربية لزحفهم، فشبَّت الحرائق الهائلة يوم الأربعاء ١٢ يوليو سنة ١٨٨٢. وبدأ إضرام النار في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، وأخذ يمتد حتى صارت الإسكندرية شعلة من النار مساء ذلك اليوم، واستمرت النار تضطرم فيها إلى اليوم التالي.
كان هذا الحريق من الوجهة العسكرية عملًا عقيمًا؛ لأنه لم يعطل نزول الجنود الإنجليزية إلى البر فقد نزلوا في صبيحة اليوم التالي، واشترك في الحريق بعض الأوروبيين، وبخاصة من الأروام والمالطيين الذين بقوا في المدينة بعد هجرة معظمهم، وكانوا يقصدون من ذلك المطالبة بالتعويضات بعد انتهاء الحرب، كما اشتركوا أيضًا في النهب.
ويقول جون نينيه عميد الجالية السويسرية — وكان شاهد عيان لهذه الحوادث: إن الحرائق الأولى شبَّت في الأحياء الأهلية من قنابل الأسطول الإنجليزي يوم الضرب، وكان الحريق الذي أمر به سليمان سامي داود على غير رأي عرابي والوزراء، فانفرد بإحداثه سليمان داود قائد الآلاي السادس، الذي كان مشهورًا بالتهور والحمق، وكان يعتبر نفسه عرابي آخر بالإسكندرية، وقد صمَّم على ألَّا ينسحب الجيش من الإسكندرية إلا بعد أن يجعلها خرابًا، وهذا يدلُّك على تشعب آراء العرابيين وعدم وجود وحدة في قيادتهم؛ لأن عملًا خطيرًا كحريق الإسكندرية ما كان يجب أن يحدث إلَّا إذا صدرت به الأوامر مجمعة من قيادة الجيش، ولكن الواقع أن عرابي لم يكن له دخْل فيه، ولما وقع لم يستطع أن يمنعه.
واستقر رأي عرابي وصحبه على الانسحاب من الإسكندرية ثاني يوم الضرب، فأخذ الجيش يخليها يوم الأربعاء ١٢ يوليو. وفي مساء ذلك اليوم غادرها عرابي ووصل إلى «حجر النواتية» على ترعة المحمودية بعد الغروب وقضى الليلة هناك، وفي الصباح ركب رفاصًا سار به في الترعة حتى وصل إلى «عزبة خورشيد» ومنها إلى «كنج عثمان» بالقرب من كفر الدوار، وهناك أمر بإنشاء الاستحكامات وهي التي اتخذها الجيش المصري معسكرًا له، وعُرفت بمعسكر كفر الدوار. واتخذ عرابي عزبة «كنج عثمان» مقرًّا لقيادة الجيش … وفي صباح يوم ١٣ يوليو تحقق الأميرال سيمور من انسحاب العرابيين، وأنه لم يبقَ منهم أحد في المدينة، فأنزل كتيبة من جنوده البحارة واحتلوا سراي رأس التين وشبه جزيرة رأس التين.
أوروبا وضرب الإسكندرية
انسحبت فرنسا من الميدان، وأمرت أميرال أسطولها بمغادرة الإسكندرية قبل الضرب … فبارحها مساء ١٠ يوليو سنة ١٨٨٢. ومعنى ذلك أن الحكومة الفرنسية تركت إنجلترا تفعل ما تشاء، وتعتدي ذلك الاعتداء الغشوم على المدينة، فتدك حصونها وتهدم مبانيها وتحصد أرواح أهلها، دون أن تُبدي حراكًا … قابلت فرنسا هذا الاعتداء الوحشي بالجمود، ولو أرادت منعه لكان لها من مركزها الممتاز في المسألة المصرية ما يحُول دون وقوعه … وكذلك فعلت دول أوروبا العظمى، فإنها ظلت جامدة لا تحرك ساكنًا أمام هذه المأساة … ولو وقع مثل هذا الاعتداء على أُمة أوروبية كاليونان أو الجبل الأسود أو بلغاريا، لاهتزت الحكومات الأوروبية، وتوعدت وأنذرت المعتدي بالضرب على يده …
ولعلك تذكر موقفها حيال مصر ذاتها حين لبَّت نداء تركيا في محاربة الثوار اليونانيين، وما فعلته أوروبا إذ ائتمرت بأسطولها فأحرقته غدرًا وخيانةً في «نافارين» سنة ١٨٢٧ … ولا تنسَ ما فعلته مع مصر فقد حرمتها ثمرة انتصاراتها على التُّرك في عهد محمد علي، وائتمرت بها وانقضت المزايا التي نالتها بحد السيف. أما في سنة ١٨٨٢ فقد تركتها لبطش الإنجليز دون أن تحرك ساكنًا!
وليس من العسير علينا أن نفهم سبب هذا التباين في المعاملة … فأوروبا لا تنظر إلى مصر بالعين التي تنظر بها إلى الأمم الغربية، ولا تراها جديرة بالعطف الذي حبت به اليونان وبلغاريا، ومما يدلك على مشاركة أوروبا لإنجلترا في مسئولية حوادث سنة ١٨٨٢ أنه لم يكد الجيش الإنجليزي ينتصر على العرابيين في واقعة التل الكبير، حتى بادر المسيو تيسو سفير فرنسا بلندن إلى مقابلة اللورد جرانفيل وزير خارجية إنجلترا، وهنأه باسم الحكومة الفرنسية على هذا الانتصار، وكان جواب جرانفيل على تهنئته: «إن واقعة التل الكبير هي انتصار أوروبي، ولو انهزم الجيش الإنجليزي لكان ذلك كارثة على كل الدول التي تحسب حسابًا للتعصب الإسلامي.»
وقد هنأ المسيو دكلرك رئيس وزارة فرنسا السفير البريطاني في باريس بهذه الواقعة قائلًا: «إن انتصار الإنجليز على العرب في مصر، يُنتج ثمرة طيبة لفرنسا في تونس والجزائر.»
وقوبل نبأ الضرب في «مؤتمر الآستانة» بالفتور والجمود، ولم يكن المؤتمر قد انفض بعد … ولو كانت الدول الأوروبية حريصة على الدفاع عن حقوق مصر بل عن الحقوق عامة، لكان لضرب الإسكندرية صدى عاجل في المؤتمر يحفزه إلى وضع حد لهذا الاعتداء، ولكنه على العكس قابله بالصمت والبرود، ولم يبدِ أي اعتراض على إنجلترا في نقضها عهودها، وخاصةً عهودها في ذلك المؤتمر بالذات … لم يكن لهذا الاعتداء أي أثر فعلي في نفوس المؤتمرين، وهم سفراء الدول الأوروبية الكبرى في الآستانة، وكل ما فعله مندوب روسيا أن نفض يده من المؤتمر، وامتنع مؤقتًا عن حضور جلساته، وهو عمل سلبي لا يمنع الاعتداء ولا يحُول دون استمراره.
وفي ١٥ يوليو سنة ١٨٨٢ اجتمع المؤتمر لأول مرة عقب ضرب الإسكندرية، وتحرك إلى دعوة تركيا لإرسال جيش عثماني إلى مصر تنفيذًا لقراره الذي أصدره في جلسته السابقة — ٦ يوليو — ولم يكن قد أبلغه إليها من قبل، ورضي السلطان — أخيرًا أيضًا — بالاشتراك في المؤتمر للمباحثة في إقرار الوسائل الكفيلة بإعادة الأمور إلى نِصابها … بدأت إذن تركيا تشترك في المؤتمر بعد أن أصبح لا عمل له، وأرسلت وزارة الخارجية العثمانية في ١٩ يوليو، تبلغه أنها تقبل الاشتراك فيه، وعينت مندوبيها به، وهما سعيد باشا وزير الخارجية وعاصم باشا وزير الأوقاف، فحضرا جلسة ٢٤ يوليو — الجلسة العاشرة — وتولى سعيد باشا رياسة المؤتمر بصفته وزير خارجية الدولة التي انعقد المؤتمر في عاصمتها، وصرَّح بأن الحكومة العثمانية قبلت مبدأ إرسال جنود إلى مصر، وبجلسة ٧ أغسطس أعلن أن حكومته قبلت شروط التدخل التي قررها المؤتمر في ١٥ يوليو …
وكانت هذه الأقوال مهزلة أخرى — إذ لم تكن تركيا قد أعدت جيشًا ما … وأبطأت في إنفاذ عزمها حتى انتهت الحرب بهزيمة العرابيين، ودخول الإنجليز القاهرة قبل أن يتحرك الجيش العثماني إلى مصر!
(٢) قناة السويس
وكل ما عُني به المؤتمر أنه بحث بجلسته التاسعة يوم ١٩ يوليو سنة ١٨٨٢ في حماية قناة السويس من أن تصيبها الحرب بسوء؛ وذلك بناءً على ما تظاهرت به إنجلترا من الخوف على القناة أن يسدَّها العرابيون بعد ضرب الإسكندرية، وكان هذا الخوف مع الأسف لا محل له؛ لأن عرابي لم يفكر جديًّا في سد القناة إلَّا بعد احتلال الإنجليز الإسماعيلية؛ أي في ٢٠ أغسطس. ولكن إنجلترا بادرت بمبادلة الدول تخوُّفها من هذه الناحية لكي تنتحل لنفسها حق حماية القناة، إذا لم تتفق الدول على حمايتها دوليًّا …
وقد عرض سفيرا إنجلترا وفرنسا في المؤتمر بجلسة ١٩ يوليو رأي حكومتيهما في أن يَكِل المؤتمر إلى من يختار من الدول حماية القناة إذا أصابها اعتداء، ولم يلقَ هذا الاقتراح قبولًا من المؤتمر، فاتفقت إنجلترا وفرنسا على أن يصرح سفيراهما في المؤتمر بأنهما مستعدتان عند الحاجة إلى حماية القناة، وقد صرَّح السفيران بذلك في جلسة المؤتمر الحادية عشرة التي انعقدت يوم ٢٦ يوليو، فلم يعترض المؤتمر ولم يبدِ احتجاجًا.
وأبلغ الباب العالي أعضاء المؤتمر في ٢٤ يوليو ثم في ٢٧ منه أن جنوده على أهبة السفر إلى مصر وأنه مستعد للتدخل فيها، ولكن بلاغه لم يقترن بأي عمل، وعرضت وزارة المسيو دي فريسينيه على البرلمان الفرنسي فتح اعتماد، لإعداد القوات الكفيلة بجعل القناة في مأمن من كل اعتداء وحماية السفن المارة فيها، ولكن البرلمان قرَّر في ٢٩ يوليو رفض الاعتماد المطلوب … مما أدى إلى استقالة وزارة فريسينيه واضطرار الوزارة التي خلفتها — وزارة دكلرك — إلى أن تنفض يدها من المسألة المصرية نزولًا على قرار البرلمان … فكان هذا القرار من فرنسا إعلانًا بنفض يدها بل بإفلاس سياستها في المسألة المصرية، والسبب الذي حدا بالبرلمان الفرنسي إلى رفض الاعتماد هو الخوف من توزيع قوات فرنسا، في وقت كانت تخشى فيه على كيانها في القارة الأوروبية من تحفز ألمانيا، فهو نفس السبب الذي حدا بالوزارة الفرنسية إلى الإحجام عن مشاركة بريطانيا في تدخُّلها الحربي، حين عرضت عليها ذلك في يوليو ١٨٨٢ قبل ضرب الإسكندرية.
وفي الوقت الذي أصدر البرلمان الفرنسي هذا القرار، قرر البرلمان البريطاني في ٢٧ يوليو الاعتماد المطلوب من الحكومة الإنجليزية للحملة على مصر، وذلك بأغلبية ٢٧٧ ضد ٢١ صوتًا؛ أي بأغلبية تشبه الإجماع، وبلغ الاعتماد الذي قرره ٢٣٠٠٠٠٠ جنيه.
يتضح مما تقدَّم أن المؤتمر لم يكن يعنيه رد الاعتداء عن مصر؛ بل كل ما همه وشغل باله أمر قناة السويس … وقد انتهى من مباحثاته العقيمة إلى ترك الإنجليز يتصرَّفون كما تهوى أطماعهم الاستعمارية.
اجتمع المؤتمر للمرة الأخيرة يوم ١٤ أغسطس سنة ١٨٨٢، وكانت الجنود البريطانية قد زحفت في داخل البلاد، وظهرت بوادر انتصارها على العرابيين … فلم يجد المؤتمر عملًا يشغله سوى تأجيل انعقاده إلى أجل غير مسمًّى، ولم يجتمع بعدها إذ كانت قوات الإنجليز قد تغلَّبت على العرابيين، وبذلك انطوت صفحة المؤتمر بدون أن يعمل عملًا ما في صون حقوق مصر، ورد عادية الإنجليز عنها، وأخفق إخفاقًا جعله مضرب الأمثال في المهازل السياسية، الخالية من روح النزاهة والصراحة والإخلاص.