الفصل الأول
مقدمة وخلفية
الرمزية خاصية أولية من خصائص العقل، تبرز في كل
أشكال التفكير وفروع الثقافة. يستكشف هذا الكتاب
سِمات وظيفة الرمز في اللغة والعلم والفن، وفي
الطقوس واللعب وتشكيل الرؤى المختلفة للعالم. إنه
يعيد صياغة تيمات أساسية في أعمالي السابقة،
ويتتبَّع الخطوط السابقة للبحث في تطور هذه
التيمات، ويتناول عدة مشكلات جديدة تنبثق في سياق
استفسارات أخرى.
منذ فترة طويلة أقنعتني دراسة عن البراجماتية
بخاصية تمثيل التفكير-وظيفته كما تنقلها الرموز
دائمًا. قدَّم كتابي
«أربعة
براجماتيين»١ هذا النمط من التفكير كما ناقشه بقوة
بيرس ووليم جيمس وميد وجون ديوي،
٢ وأعاد كتابي
«عن
الإمكانيات الإنسانية» صياغة هذا الرأي
المهم عن التعليم.
٣
أولًا، ضمن
القدرات التي يفترضها الفعل الإنساني،
كتبْتُ:
قدرة
التمثيل
الرمزي، وعلى أساسها يمكن التعبير عن
النوايا، وصياغة التوقعات، وعرض الفرضيات واستدعاء
نتائج سابقة … البشر حيوانات رمزية، ومن ثم كانوا
مبدعين وكائنات ثقافية في ذات الوقت … النظم
الرمزية التي يشيِّدها البشر ليست ببساطة تغيرات
ترتكز على منشأ عام، ينبثق بدوره من معطيات
الفيزياء؛ فكلٌّ من هذه النظم العديدة لا تحدِّدها
الحقيقة الفيزيائية بقيود كافية، وليس هناك مبدأ
يضمن الانسجامَ الكامل والاتساق بينها …
النظم الرمزية ترتبط، في
أذهاننا، بمجموعات من المقولات أو المصطلحات التي
يطرحها الشخص عادةً في سياقات معينة. وبعيدًا عن
المصطلحات،
نُضَمِّن أيضًا وسائل غير لغوية للتمثيل؛ لفهم
الجرافيكي أو البياني، والتصويري والتشكيلي،
والحركي والطقوس. وتشترك النظم الرمزية في وظيفة
الإشارة الظاهرية للسمات التي اختيرت لإلقاء الضوء
عليها، ووظيفة الحساسية الناتجة عن الخصائص
والعلاقات، والتضمين، والاستبعاد، والتدرج الهرمي
والتباين الذي ينظِّم عالم الموضوع بطرق مميزة.
٤
اعتمد تقديمي للطبيعة البشرية، في نشاطها
وتشكيلها رموزًا باستمرار، بكثافة على أعمال
الفلاسفة البراجماتيين العظماء، كما ذكرت. في تصور
أن الرمزية تشمل مجالًا واسعًا من الظواهر غير
اللغوية واللغوية أيضًا، تعود بنا الذاكرة إلى فترة
سابقة على أحدث عهود الفلسفة الأمريكية التي سادت
فيها الرؤية الألسنية والمنطقية والعلمية. وتستدعي
في الحقيقة المفهوم البراجماتي الخصب لبيرس،
المهندس المعماري للعلم الحديث للعلامات، الذي
يُعنَى بالأبعاد الكثيرة لتوظيفها. ويردِّد أيضًا
أصداء التعريف الواسع لإرنست كاسيرر
٥ للإنسان بأنه حيوان رمزي وليس
عقلانيًّا، تُعرَض أعماله في الصيغ العديدة للتفكير
الذي يشمل ثقافة الإنسان.
٦ ويعكس تأثيرَ الكتاب الرائد «لغات
الفن» لنيلسون جودمان الذي اهتم بتطوير رؤية واسعة
لإشارة النظم الرمزية بوصفها تمتد إلى ما بعد اللغة
وتشمل الفنون أيضًا.
٧ ويجدر بشكل خاص في التعليق المقدَّم
هنا ملاحظة الخاصية الإبداعية للرمز، مطروحةً في
تلك البِنى الجمعية الجذرية التي تشكِّل عوالم
الموضوع؛ ومن ثم، عنوان الكتاب الحالي.
وتشمل العوالم الرمزية التي أُشير إليها هنا
العلومَ والفنون، كما تشمل الطقوس الدينية، ولا
تقتصر على تصرف البالغين برزانة، بل تشمل أيضًا لعب
الأطفال. وهذه العوالم لا تشمل الوصف الأدبي فقط،
بل تشمل أيضًا الإبداع الاستعاري، سواء كان لغويًّا
أو تصويريًّا، وتشمل التمثيل الملتبس كما تشمل
التمثيل الصريح. وهكذا تشمل الأقسام الرئيسية هنا
علاج الالتباس والاستعارة، وتحليل اللعب والطقوس،
ومناقشةً موسَّعة للعلاقات بين نظم الرمز العلمي
والواقع.
يتناول كتابي
«ما وراء
الحرف» الالتباس والإبهام والاستعارة في اللغة.
٨ ويعالج العمل الحالي مسائل معينة جاءت
نتيجة التفكير في المشاكل المطروحة في ذلك الكتاب.
أدَّى علاج الالتباس اللغوي، على سبيل المثال، كما
نشأ في
«ما وراء
الحرف» إلى مسألة كيفية تأويل تنوع
التصوير؛ ومن هنا جاء تحليل الْتباس التصوير في
الفصل الرابع. كما تتبَّع وساعد التوسُّع في السمات
الأخرى، في «ما وراء الحرف»، لتأويل الطقوس واللعب
على تحفيز تأملات معينة في العلاقات بين الفن
والعلم والدين، ممثلًا في الفصل التاسع.
لكن «ما وراء
الحرف» ليس شرطًا ضروريًّا لفهم العمل
الحالي. حاولت تأليف هذه الفصول بحيث تقف مستقلة،
مستدعيًا، مع ذلك، إذا لزم الأمر، مواد معينة تُعاد
طباعتها من أعمال سابقة لي. باستثناء هذه الحالات،
ظهر كل فصل هنا في صورة مقال في مجلة أو في مجلد من
أعمالي السابقة، أو كُتب حديثًا. وتُذكر المعلومات
التفصيلية عن المصادر في هوامش أولية لفصول
الكتاب.
قلْتُ إن معالجتي للرمزية تعود إلى فترة تسبق
أحدث المعالجات في الفلسفة الأمريكية، وقد سيطر
عليها كما سيطر على الأخيرة تركيز على اللغة
والمنطق والعلم. ومع ذلك، ينبغي ألَّا يُظَن أنني
أُعارض بأية طريقة المنطق أو العلم أو الوضوح
اللغوي لأغراض نظرية. أرفض فقط قيود الفلسفة على
المنطق أو العلم أو اللغة بوصفها مواضيع للدراسة.
أهتم رغم كل شيء بدعم نظرية الرمزية. تحتاج هذه
النظرية إلى الامتثال لقواعد منهجية صارمة حتى وهي
تدرس كل أنواع الظواهر الرمزية التي تقع خارج نطاق
الخطاب المنطقي. على النظرية أن تقدِّم فهمًا أو
تفسيرًا أو رؤية؛ إذا لم تمتثل لضوابط خاصة، لا
يمكن أن تفعل ذلك. وهذا يفسِّر سبب تعامل معالجتي
نظريًّا مع أدوات منطقية وسيمنطيقية متناثرة جدًّا،
بينما أطرح هذه الظواهر بوصفها الْتباسًا لغويًّا —
بغيضًا بوصفه سمةً للغة النظرية — ووظائف رمزيةً
للفنون أو الطقوس، التي تقع تمامًا خارج مجال اللغة
النظرية.
كانت مقاربتي هنا، كما في كتابَي
«تشريح البحث»٩ و
«ما وراء
الحرف»، طبقًا لذلك اسمية
١٠ باستمرار، متحاشيةً الكِيانات المجردة
والمكثفة، ومسلِّمةً فقط بالكِيانات التي تشير إلى
الأفراد والكِيانات الفردية التي تشير إليها. وهذه
المقاربة في حالة اللغة، بشكل خاص، نقشية
inscripitionalistic،
لا تفترض إلا النماذج
tokens
الفردية (ألفاظًا ونقوشًا) للغة والأشياء الفردية
التي قد تشير إليها هذه النماذج. يحفِّز هذا
الاستبعاد الانتقادات الفلسفية في العقود الأخيرة.
وكما كتبت في «ما وراء الحرف»:
ربما تُرَى أهمية مثل هذا الاستبعاد بالإشارة إلى
التخطيط السيمنطيقي الموروث من الماضي والمنتشر في
الاستخدام المعاصر.
لا يعترف هذا التخطيط فقط بألفاظ معينة ﻟ «كلب»
أو نقوش معينة ﻟ «كلب» تحدث تاريخيًّا، لكنه يعترف
أيضًا بموضوع إضافي يتماهى مع كلمة «كلب» يُشيد
بوصفه كيانًا مجردًا لنوع ما — شكل، أو فئة، أو
تتابُع لنماذج أصوات أو حروف. لا يعترف فقط بالكلاب
الفردية التي تدل عليها الكلمة، لكن بدلالة الكلمة
— كِيان مجرد يتماهى مع نوع الكلاب المشار إليها.
تُشيَّد الدلالة أكثر ليحدِّدها معنى الكلمة،
تتماهى مع خاصية أن الكلب كلب أو ترتبط بها،
ويقدِّم هو نفسه مثالًا لأعضاء الدلالة. ويمكن،
بالإضافة إلى ذلك، إدخال المفاهيم، والفرضيات،
والحقائق، والحالات العامة، وعلاقتها بطُرق متنوعة
بالمواضيع السابقة. وفي النهاية يعتمد تفرد
الكِيانات عند نُقَط متنوعة على المترادفات
المفترضة، والخصائص الجوهرية، والأحكام الشكلية،
والجوهر، والتأكيدات المناقضة للحقيقة،
١١ أو الأوصاف الحدسية للكِيانات المفترضة
في السؤال.
١٢
ولا تسلِّم النقشية inscriptionalism، في
المقابل، إلا بالأشياء الفردية المترابطة
سيمنطيقيًّا، وحيث إن هذه الأشياء يفترضها أي تخطيط
سيمنطيقي، فإن النظرية:
لا تضيف للكِيانات التي تحظى باعتراف عام؛ ومن ثم
تُقبَل تفسيراتها وجوديًّا من غير النقشيين
non-inscriptionalists،
لكن العكس لا يصح. وبالتالي ربما يظل القراء الذين
لا يوافقون على الفرضيات النقشية للبحث الحالي
مهتمين بتفسيراته. إنهم لا يحتاجون إلى فهم ما
يستبعد بمعنى مطلق، لكنهم يحتاجون فقط إلى فهمه
نظريًّا، وهو يُعرِّف القيود المنهجية للدراسة. ومع
ذلك، يمكنهم التأكد من أن المفاهيم التي تستبعدها
هذه القيود يمكن إعادة تضمينها بناءً على رغبة كل
من لا يراها مبهمة.
١٣
ذكرت أن العمل المذكور هنا يقع في الإطار الواسع
لنظرية الرموز كما تصوَّرها نيلسون جودمان. ويدين
أيضًا لجودمان بالطرح الاسمي، وأيضًا باستخدام
أدوات سيمنطيقية خاصة — مثلًا، «ضرب الأمثلة
exemplification» —
طوَّرها جودمان ليكمل المفاهيم المعيارية للدلالة
denotation والأفكار
المرتبطة بها. ثمة خيط آخر سيمنطيقي حديث يمر عبر
عدد من المعالجات هنا وهو مفهوم اختيار الإشارة
mention-selection،
الذي قُدِّم أول مرة في الالتباس في اللغة، أقدم
الدراسات التي يضمها هذا الكتاب، الفصل
الثالث.
وينطبق هذا المفهوم على استخدام رمز ليس للإشارة
إلى شواهده فقط، لكن إلى الرموز المصاحبة له أيضًا.
وقد استُخدِم أولًا للتمكين من تحليل جوانب معينة
للالتباس، واستُخدِم بعد ذلك في تحليل الغموض في
«ما بعد الحرف»،
الذي ذكر أيضًا بإيجاز علاقته بتأويل سحر الكلمة
وطريقة تعليم الأطفال. وفي تطبيقات أخرى، أثبت
المفهوم بشكل مدهش أنه مفيد في تحليل الالتباس
التصويري (الفصل ٤)، وتأويل الاستعارة (الفصل ٧)،
وفهم اللعب (الفصل ٨)، وتحليل الطقوس (الفصل ١٠).
وبالتالي يكون من الملائم أن يقدم الفصل التالي
لهذا الفصل عرضًا عامًّا لاختيار الإشارة ومراجعةً
تمهيدية للتطبيقات السابقة وغيرها.
يتناول القسم الثاني، عن الالتباس، الالتباس
اللغوي والتصويري؛ حيث يقدم الفصل الثالث تحليلًا
نقشيًّا للمصطلحات الملتبسة سيمنطيقيًّا في جهد
لتجنب غموض الحسابات المعتادة وصعوباتها. يعتمد
التحليل المقترح على مفهوم
النَّسْخ المتطابق
replication؛ أي تماثل
الهجاء بين النقوش. وهكذا يمكن، على سبيل المثال،
الحكم على نموذجين لكلمة
word-tokens بأنهما
ملتبسان إذا كانا نسختين متطابقتين لكنهما لا يدلان
على الأشياء نفسها بالضبط. ومن ناحية أخرى، لا يمكن
بوضوح تطبيق النَّسْخ المتطابق على الصور، التي لا
تتألف من نقوش بهجاء محدد. وهكذا تطرح مشكلة تأويل
الالتباس التصويري (مثلًا، البطة الأرنب، مكعب نيكر)
١٤ نفسها وحلها في الفصل الرابع، باستخدام
مفهوم اختيار الإشارة. وتؤدِّي المعالجة نفسها إلى
تأويل الاستعارة التصويرية أيضًا.
يهتم القسم الثالث بالمشكلة العامة للاستعارة،
وهي نفسها نوع من الالتباس يشكِّل فيه الحرفي
المعنى الاستعاري لمصطلح؛ حيث يقدم الفصل الخامس
نقضًا لعشر أساطير رائجة عن الاستعارة. تحث القضية
العامة في الفصل على تقدير الاستعارة أداةً للتفكير
الجاد، وفهم بعض سِماتها الرئيسية. ويتضمن الفصل
السادس مناقشةً نقدية للمنظور السياقي للاستعارة
عند جودمان ويدافع عن سياقية منقحة. ويستجيب الفصل
السابع لنقد المقاربات الامتدادية للاستعارة،
ويتناول الخطوط العريضة لموارد النزعة الامتدادية
للتأويل الاستعاري، ومن بينها بشكل عَرَضي مفهوم
اختيار الإشارة.
يقدِّم دَور اختيار الإشارة في التعليم، الذي
نناقشه في الفصل الثاني، طريقةً لتأويل إشارات
الطفل في اللعب. كيف يسمِّي الطفل عصا المقشة
«حصانًا» بشكل مفهوم، من منظور حقيقة أن الطفل يعرف
جيدًا أنها ليست حصانًا؟ واستجابةً للمناقشة
المؤثرة لجومبريتش
١٥ لهذا السؤال، يقدِّم الفصل الثامن
مقاربةً جديدة لمشكلة فهم الإشارة في اللعب،
مستخدمًا مرةً أخرى مفهوم اختيار الإشارة. ويمتد
مثل هذا الفهم أيضًا إلى الجانب الإبداعي للفن —
رؤية شيء باعتباره شيئًا آخر. وهكذا يدمج القسم
الرابع اللعب والفن، ليطرح الفصل التاسع العلاقات
ضمن المشاريع الرمزية الثلاثة، مشاريع الفن والعلم
والدين. ويتساءل بشكل خاصٍّ عن سبب الاعتقاد بأن
العلم والدين في حرب، بينما يتعايش العلم والفن في
سلام. وإذا لم يكن هذا السؤال خادعًا ببساطة، فهل
تعتمد إجابته على الخاصية العاطفية المزعومة للفن،
مقابل الطبيعة المعرفية لكل من العلم والدين؟ هل
تعتمد على الخصائص السيمنطيقية للفن في وظائفه
التعبيرية والتمثيلية، التي تتعارض، رغم أنها
معرفية، مع جهود العلم والدين، وهي دلالية أساسًا؟
أم إنه ينبغي العثور على اختلافات أخرى مناسبة في
العالم البراجماتي؟ يستكشف الفصل التاسع هذه
الاحتمالات بإظهار بعض التشابهات والمقابلات في
الوظيفة الرمزية التي لم تحظَ بالاعتراف عمومًا
وبإبراز دَور السلطة في كل من العلم والدين.
يتناول القسم الخامس الخاصية الرمزية للطقوس.
ويركز هذا القسم انطلاقًا من السياق الاجتماعي
والتاريخي للطقوس للتركيز على الوظائف السيمنطيقية،
على الأدوار المعرفية للطقوس. بتأمل آراء إرنست
كاسيرر وسوزان لانجر،
١٦ يضع الفصل العاشر الخطوط العريضة
للجوانب المرجعية للشعائر. يناقش ترميز الطقوس،
الشروط المفروضة على مؤدي الطقوس، والشعائر
المحاكاة، التي يلعب مفهوم اختيار الإشارة
بالارتباط معها دورًا مرةً أخرى. وفي سياق
المناقشة، يطور مقابلةً مهمة بين الفنون والشعائر.
وأخيرًا، يؤكد على أثر تكرار الطقوس وإعادة أدائها
في ترتيب مقولات الزمن والفضاء والفعل والمجتمع.
ويتبنى الفصل الحادي عشر مسألة تغير الطقوس، ويسأل
عن متى يصبح التغير في طقس تغيُّرًا للطقس. وهنا
يتم التمييز بين شكلية الطقوس وهُويتها، ويتم النظر
إلى تعديل الطقوس بجانب ميلادها وموتها، ويتم وضع
تنوع مواصفات الطقوس في الاعتبار، وفحص انتقال
الطقوس عبر الجماعات.
وأخيرًا، يتحوَّل القسم السادس إلى السؤال العام
عن العلاقات بين العالم والتمثيل، وقد أثارت كثيرًا
من الجدل في الفلسفة الحديثة. اقتُرِحتْ مجموعات من
الواقعية، وضد الواقعية،
١٧ والنسبية، والذاتية، وتم الدفاع عنها
وانتقادها؛ حيث يراجع الفصل الثاني عشر المناظرة
التي جرت في «حلقة فيينا» في ثلاثينيات القرن
العشرين حول الارتباط المفترض بين العلم والواقع.
وتركَّزت المُناظرة على وضع تقارير الملاحظة
العلمية، مع إصرار أوتو نيورات
١٨ على أن العلم لا يستطيع مقارنة
ملاحظاته بالعالَم؛ لأنه محصور تمامًا في مجال
الفرضيات، بينما ألحَّ موريس شليك
١٩ على أن تصريحات التأكيد في العلم
تمثِّل نقاطًا ثابتة بشكل مطلَق للتواصل بين
المعرفة والواقع. يدعم الفصل الثاني عشر، رافضًا
هذين المبدأين عن اليقين والترابط، الرأي القائل
بأن مضمون بياناتنا العلمية مرجعي لا محالة، وأن
هذه البيانات موضوع دائم لضوابط مزدوجة، ضوابط
المنطق والمصداقية.
وتركِّز الفصول الثلاثة الأخيرة على مفهوم جودمان
عن صناعة العالم، المقدَّم في كتابه
«طرق صناعة العالم»٢٠ وهو مفهوم يرى أن النُّسخ الصحيحة التي
نصنعها، سواء كانت لغويةً أو غير لغوية، تصنع
بدورها العوالم التي تشير إليها. وأتفق مع تعددية
جودمان وأشاركه في توجهه البراجماتي العام، داعمًا
نسبية النظم متحاشيًا الذاتية والعدمية. إن تعدديتي
وتعاطفي البراجماتي واضحان في كتابي
«أربعة براجماتيين»، ورفضي
للذاتية جلي في كتابي «العلم والذاتية».
٢١
ومع ذلك يوجد اختلاف جوهري بيني وبين جودمان في
قضية واحدة: لم أستطع قط أن أقبل فكرته عن صناعة
العالم، بقدر ما يؤكد أننا لا نصنع النسخ فقط، بل
نصنع مواضيعها أيضًا. على العكس، يبرهن القسم
السادس على أننا ونحن نصنع نسخنا لا نحدد نحن أو
نسخنا صحتها؛ وهكذا، لا نصنع نحن أو نسخنا الصحيحة
عوالمها؛ حيث يقدم الفصل الثالث عشر نقدي العام
لصناعة العالم. ويقدم الفصل الرابع عشر ردًّا على
رد جودمان على هذا النقد. وأخيرًا، يرد الفصل
الخامس عشر على دفاع آخر لجودمان عن بحثه «مخاوف
عالمية». في هذا الفصل الأخير، أبرهن على أن صناعة
العالم تعطينا في الحقيقة سببًا للقلق، وأدافع عن
الرأي القائل بأننا ونحن نصنع نسخنا لا نصنعها
بشكلٍ صحيح.