الفصل العاشر
أبعاد الطقوس١
توجز المعالجةُ المقترحة هنا للطقوس الوظائفَ
الرمزية المتعددة للطقوس، التي تعمل معًا على رسم
بنية الزمن التاريخي والفضاء والوسط. إن أنماط
تكرار الطقوس، بالإضافة إلى ذلك، تدخل عقولَ
المؤدين في تماس منتظم مع خصائص رمزية، ممَّا يؤثر
على مفاهيمهم ومداركهم.
ويمثِّل التركيز على الأبعاد الرمزية عملًا
تجريديًّا، ولا يعتبر إنكارًا لأهمية الوظائف
الاجتماعية للطقوس، أو لنظام عقائدي يقدم، في كل
حالة، سياقه وحافزه. ومن ناحية أخرى، يولي استخلاص
الأفكار من هذه السمات للتركيز على رمزية الطقوس
اهتمامًا خاصًّا بأدوارها المعرفية؛ أي أدوارها في
التصور والإشارة، وبالتالي في تشكيل مدارك
المشاركين فيها وعاداتهم.
(١) التقليل من شأن الطقوس
إن مجرد تحديد أدوار معرفية للطقوس يتعارض مع
التقليل السائد من شأنها بوصفها معوقةً للشعور
الديني التلقائي. وهكذا يبدأ كتاب وليم جيمس
٢ «تنوع الخبرة الدينية» بتقسيم
المجال الديني إلى مؤسسي وشخصي، ثم ينتقل إلى
«إهمال الفرع المؤسسي تمامًا». يؤدِّي الدين
الذي يهتم به جيمس نفسه إلى «الأفعال الشخصية
وليس المتعلقة بالطقوس، يقوم الفرد بالمهمة
وحده، وتتراجع الهيئة الكنسية، بكهنتها
وقرابينها والوسطاء الآخرين إلى مكانة ثانوية
تمامًا. تسير العلاقة مباشرةً من القلب إلى
القلب، من الروح إلى الروح، بين الإنسان وخالقه.»
٣ يذكر جيمس الطقوس هنا ويستوعبها في
آلية مؤسسية تبطئ أو تعوق التدفق الحر للعاطفة
الدينية ليرفضها.
صحيح أن الطقوس، حيث لا تُرفَض، لا تُنسب إلى
المشاعر بل إلى العالم النقيض، عالم المعرفة،
لكن مع تقليل الشأن بقدر متساوٍ. ولأنها ارتبطت
هنا بالأسطورة؛ تعتبر معرفةً معيبة، علمًا
رديئًا، عقيدةً مرَضية. وسواء كانت الطقوس تعوق
العاطفة الدينية أو تجسد الزيف أو الوهم، لا
يُنظر إليها غالبًا على أنها تخدم وظائف
معرفيةً كما ينبغي.
(٢) كاسيرر ولانجر والطقوس
أقدِّم هنا مفكرَين حديثين يمكن أن يعتبَرا
رائدَين للمعالجة الرمزية: إرنست كاسيرر وسوزان
لانجر. يقترح كاسيرر طرح مواقف التقليل من
الشأن التي وصفناها للتو، مفسرًا التفكير
الأسطوري، المرتبط دائمًا بالطقوس، بأنه مرحلة
إيجابية في تطور العلم. إن الأسطورة، بالاعتماد
على وحدة الشعور التي ترى أن الطبيعة «مجتمع
واحد كبير،
مجتمع
الحياة»، تدرك
السيميائي لا السمات
الموضوعية، مشيدة «عالمًا دراميًّا، عالمًا من
الأفعال والقوى والقدرات المتصارعة … الإدراك
الأسطوري مُشرَّب دائمًا بهذه الخصائص
العاطفية.» وهذا العالم هو المرحلة الأولى في
تطور التفكير الإنساني، ويتغلب عليه بدوره
«عالم مداركنا الحسية»، الذي تتلوه، بدوره،
المفاهيم العامة المميزة للفهم العلمي للعالَم
الفيزيائي. ولا تمثِّل أية مرحلة من المراحل
الثلاث عند كاسيرر «مجرد وهم». إن العلم «لا
يستأصل جذور [أسلافه] وفروعها»، رغم أنه ينبغي
أن يستخلص منها أفكارًا عامة ليحقِّق الموضوعية
المطلوبة لوظيفته.
٤
ورغم أن كاسيرر لا يُنكر أن الأسطورة تكوِّن
«مجرد كتلة من الأفكار المشوشة غير المنظمة»
ويؤكد دورها في بناء عالم نما منه «التفكير الإمبريقي»،
٥ فإنه يرى أن مزيتها لا تكمن في
حمولتها المعرفية، بل في إفساحها مجالًا
متطورًا لعلم ناضج في النهاية. إن دفاعه عن
الأسطورة والطقوس محدود بتناقضه الضمني بين
العاطفة والعلم، معزِّزًا الرأي المريب بأن
المعرفة علمية فقط والفكرة المريبة بالقدر نفسه
بأن المعرفة العلمية تخلو من العاطفة.
تُفصِّل لانجر، عكس كاسيرر، الطقوس عن
الأسطورة، رابطةً الأسطورة بالفنتازيا والحلم،
وناسبةً الطقوس إلى المشاعر الدينية «المرتبطة
… بمجموعة من المناسبات، يتم فيها إنتاج رمز
الرب للتأمل رسميًّا.» في البداية ثمة «مسألة
لا شعورية تتعلق بالمشاعر في صِياح ورقص»، ثم
يتطوَّر الهياج إلى «تفاعل معتاد … يستخدم
لإيضاح مشاعر
الأفراد، لا لراحتهم.» صار الفعل الصريح في هذه
المرحلة تلميحًا — لم يعد عرضًا لشعور بل رمزًا
له — يدل عليه، وبالتالي يخضعه للعقل. وبوصف
الطقوس إفصاحًا عن المشاعر، لا تُنتج «عاطفةً
بسيطة بل
موقفًا دائمًا معقَّدًا … نمطًا
عاطفيًّا، يحكم كل حيوات الأفراد … الطقس الذي
يمارَس بانتظام تكرار دائم لعواطف تجاه
«الأشياء الأولى والأخيرة»؛ ليس تعبيرًا حرًّا
عن العواطف، بل تكرار منضبط لمواقف صحيحة.»
٦
تَفْصل لانجر، بشكل أوضح من كاسيرر، عرض
المشاعر عن النطق بها. ولأن الإيماءات والطقوس
بالنسبة لها رمزية أساسًا أو مرجعية، تدل على
الشعور ولا تبرهن عليه. تسجِّل المشاعر التي
تدل عليها «استجابة الإنسان للحقائق الأساسية
للوجود الإنساني» كما تم التعبير عنها برموز
الحياة المقدسة المثارة في الأسطورة. لكن إشارة
الطقوس، التي تتكرَّر بانتظام، إلى مثل هذه
الاستجابات تشكِّل في ذاتها المواقف وتشكِّل
الميول المعتادة.
أومن بأن لانجر مصيبة دون شك في تأكيد تشكيل
الطقوس وإيماءاتها؛ أي طبيعتها الرمزية. لكن
تفسيرها مقيد جدًّا في تصور العملية الرمزية
نفسها وفي اختيارها للمواضيع التي يُرمَز إليها
في الطقوس؛ لأنها تفكر في العملية بوصفها
دلالة بشكل
قاطع، وتتصور أن المواضيع، باتساق، مشاعر. لكن الطقوس قد
ترمِّز أي شيء، وليس المشاعر فقط؛ كما عبَّر
كاسيرر «العالم الدرامي: عالم من الأفعال
والقوى والقدرات المتصارعة.» ولا تحتاج عملية
الترميز إلى الاقتصار على الدلالة لكنها قد
تشمل أشكالًا أخرى من الإشارة أيضًا. إن الطقوس
رمزية عادةً بصيغ عديدة ومتزامنة، وبذلك تجمع
القوة. إن قدرة الطقوس، التي كثيرًا ما تلاحظ،
لتنجو من التغيرات في التفسير العقائدي قد
تنبثق من مجرد ارتباطها بروابط متنوعة في
الإشارة إلى مواضيع. حين تحذف واحدة أو أكثر،
تتشدد الأخرى أثناء ذلك. وحين تتطلب واحدة
موضعًا جديدًا في ظل فكرة تفسيرية جديدة، لا
تدمر عملية الفك وإعادة الربط الارتباط كله.
وهكذا تتغير الطقوس أبطأ من العقائد، وكثيرًا
ما تنجو حتى من تعديلات متطرفة في العقيدة
وتدخل في سياقات تفسيرية جديدة دون خسارة
الحيوية بشكل خطير.
أتناول الآن خمس صيغ من ترميز الطقوس أو
إشارة الطقوس، بادئًا بثلاثة أنواع اقترحها
جودمان في دراسته عن الفنون ومن أجلها،
٧ أعني
الدلالة و
ضرب الأمثلة و
التعبير، وأكملها
بصيغتين أخريين هما
اختيار الإشارة و
إعادة الأداء، وأقترح
أنهما ترتبطان بشكل خاص بتفسير الطقوس. وسوف
أعقد، عمومًا، مقارنات بين الطقوس والفنون في
سعيٍ لتوضيح المميز في إشارة الطقوس.
(٣) الدلالة وضرب الأمثلة
قد تدل إيماءات الطقوس على أحداث تاريخية أو
يعتقد أنها تاريخية، أو تمثلها، وقد تصوِّر
أحداثًا متوقعة أو صدفًا مأمولة، وقد تدل على،
أو توحي بأنها تدل على، أشخاص أو آلهة أو
أشياء. وقد تؤدِّي هذا الدور من خلال حركات
جسدية، بأسلوب التمثيل الصامت، لكن ليس
بالضرورة. قد توظف أيضًا الصوت في أغنية أو
حديث. ويشمل مجال إيماءات الطقوس مجال
الإيماءات اللفظية؛ تلاوة الصيغ، الدعاء،
الصلوات، التعاويذ … إلخ. وهكذا، يعتبر أيضًا
أي دور دلالي يمكن أن تنجزه وسيلة لفظية ضمن
ذخيرة إشارة الطقوس. قد تعمل المواضيع
المستخدمة في الطقوس بشكل رمزي أيضًا وبشكل خاص
قد تمثِّل أو تدل بمجموعة كبيرة من
الطرق.
لا تدل
كل إيماءات الطقوس، لكن لكل إيماءة منها عادةً
مواصفات أو وصفات راسخة ينبغي أن تلبيها. وقد
تُعرَض لفظيًّا وتُدوَّن كتابة، أو تُنقل
شفهيًّا، أو قد تُفهَم في سياق، لكن هناك
طريقةً صائبة أو خاطئة لتنفيذها، طريقة واضحة
عادة. إن كل أداء ناجح مثال للطقوس المطروحة؛
أي يعرض حرفيًّا مثالًا لها. ولا يعني هذا فقط
أنه يلبي المواصفات المناسبة لهذه الطقوس، لكنه
يكوِّن عينةً
منها، وبالتالي يشير إليها. وبهذه الطريقة،
يستسلم لاستخدام إضافي بوصفه إيضاحًا في عملية
تدريس الطقوس للطلبة.
(٤) الطقوس والتدوين
هل مواصفات الطقوس مدونة بالكامل، بالمعنى
الذي يستخدمه جودمان للمصطلح؟ لا أستطيع أن
أناقش هنا المتطلبات التقنية للتدوين.
٨ لكن الهدف الرئيسي للأهداف الحالية
يستوعب بالتركيز على النوتة الموسيقية بوصفها
نظامًا للتدوين وملاحظة فكرة جودمان عن الوظيفة
الأساسية للنوتة باعتبارها «التحديد الرسمي
لعمل من أداء إلى أداء.»
٩ وكما يشرح «لا ينبغي فقط لنوتة أن
تُحدِّد بشكل فريد فئة الأداء الذي ينتمي لعمل،
لكن … ينبغي أن تُحدَّد النوتة بشكل فريد،
وتقدِّم أداء ونظام التدوين.»
١٠ ويكون السؤال إن كانت الطقوس
مدونةً أو يمكن أن تدوَّن.
ومن البديهي أنه يمكن تدوين أي شيء. حتى
الرسم، وهو فن، بمصطلحات جودمان،
خطِّي (أي معرض للتزوير)،
١١ يمكن أن يزوَّد، كما يُشير جودمان،
بنظام للتدوين «ينسب عددًا لكل لوحة طبقًا لزمن
إنتاجها ومكانه.»
١٢ والهدف من التدوين تحرير تعريف
الأعمال من الإشارة إلى تاريخ إنتاجها. وهذا ما
يفشل في تحقيقه نظام التدوين الذي ذُكر للتو.
ومن ناحية أخرى كان يمكن لنظام مختلف أنجز مثل
هذا التحرير في حالة اللوحات أن ينتهك الممارسة
السابقة بتعريف عمل بالصورة المفردة وحدها؛
ولهذا يستنتج جودمان أنه، بالنسبة للرسم، لا
يمكن ابتكار نظام تدوين لا يكون غير بديهي؛ أي
يكون متوائمًا مع الممارسة السابقة ومستقلًّا
عن تاريخ الإنتاج.
١٣
ومع ذلك تبدو حالة الطقوس مختلفةً تمامًا؛ لا
تحدِّد الممارسة السابقة طقسًا بأداء مفرد
وحده، لكنها تحدِّده بالأحرى بمجموعة من
الأداء. وهكذا يبدو ابتكار نظام للتدوين غير
بديهي؛ أي لا يعتمد على تاريخ الإنتاج ويعكس
التصنيف السابق، يبدو ممكنًا نظريًّا، رغم أنه
بالتأكيد ليس مهمةً روتينية. إن الحافز للتدوين
في حالة الطقوس يبدو مماثلًا لذلك الذي اقترحه
جودمان بالنسبة لبعض الفنون.
حيث تكون الأعمال مؤقتة، كما في الغناء أو
الرقص، أو تتطلب أشخاصًا كثيرين لإنتاجها، كما
في العمارة أو الموسيقى السيمفونية، يمكن
ابتكار تدوين يتجاوز قيود الزمن والفرد …
يحدِّد الرقص، مثل الدراما والموسيقى
السيمفونية وموسيقى الكورال، بنظامَي التدوين
بينما لا يحدِّد الرسم بأي منهما.
١٤
ويبدو أن الطقوس تحدَّد بنظام على الأقل،
وكثيرًا ما تحدَّد أيضًا بالنظامين.
لنتذكر، بالإضافة إلى ذلك، أن الأجزاء
الحاسمة في طقوس كثيرة جدًّا تتألف من صيغ
لفظية، وهي بالتأكيد قابلة للتدوين طبقًا
للقواعد التقليدية للنطق، القواعد المستخدمة في
كتابة الأبجدية. وبشكل مماثل، يمكن تدوين
المكونات الموسيقية للطقوس، بطريقة غير بديهية،
بوسيلة أو أخرى، تقليدية أو حديثة. وكما هو
الحال مع حركة الجسد، يُفترض أنه يمكن أيضًا
تطبيق طرق تدوين الرقص في حالة الطقوس. على أية
حال، لا يوجد حاجز نظري يعوق التدوين بالنسبة
لأي بُعد من هذه الأبعاد المتعلِّقة بالطقوس.
هل يُحكم، إذن، على الطقوس بأنها غير خطية بشكل
متسق؟ يتطلَّب السؤال النظر إلى الاختلافات بين
الفن والطقوس، وهو ما نتحوَّل إليه
الآن.
(٥) التدوين والعدد
ينبغي طرح اختلافين يتعلقان بالتدوين؛ بين
الفن والطقوس. يتعلَّق أحدهما بعدد المواد التي
ينبغي تعريفها؛ ويتعلق الثاني بالشروط المفروضة
على المؤدين. نتناول أولًا مسألة العدد. نتذكر
أن الدافع إلى التدوين في الفنون، طبقًا لرأي
جودمان، هو الحاجة إلى تعريف العمل من أداء إلى
أداء. ومع ذلك، ثمة حقيقة إضافية عن الفنون وهي
التيار المستمر من الأعمال الجديدة التي ينبغي
الاعتراف بها، عدد لا يحصى من الأعمال ينبغي
تدوينها للتعريف بها. لا يوجد، مثلًا، حد لعدد
الأعمال الموسيقية التي ينبغي تدوينها بطريقة
تتفق مع الممارسة الموسيقية السابقة. ويستوعب
نظام التدوين القياسي في الموسيقى عددًا لا
نهائيًّا من الأعمال.
وتختلف الطقوس فيما يتعلق بذلك اختلافًا
تامًّا، على الأقل في أي نظام ديني أو ثقافي
معين؛ لأن الطقوس التي ينبغي تعريفها في أي من
هذه النظم تشكل عددًا محدودًا، صغيرًا عادة،
يمكن معالجته. ويبدو أن مشكلة التدوين ليست
تقريبًا بالحِدة التي تمثِّلها في حالة الفنون.
لا ينبغي ابتكار نظام «عام»؛ أي نظام بإمكانية
لا نهائية، نظام قد يتخيل لغةً مقيدة تستخدم
لكل طقس وصفًا مناسبًا، وتلبِّي مجموعة الأوصاف
كلها متطلبات التدوين.
١٥ ومع قائمة بكل أوصاف الطقوس
المنسقة أمامنا، نطبِّق النظام بتصفُّح القائمة
كلها قبل اتخاذ أي قرار. ويبدو لي أن هذا
النظام يقرِّب النظام «العام» للتدوين الموسيقي
المعياري أكثر ممَّا يقرِّب عملية التعريف
الرسمي التي يقدمها معتنقو الطقوس. وتختلف
المسألة تمامًا بالطبع إذا لم نفكِّر في
المعتنقين وفكَّرنا في الأنثروبولوجيين، الذين
يهتمون بتعريف الطقوس عبر الثقافات بأسلوب
يُحتمَل أن يكون عامًّا. ولا يسعى هذا الاهتمام
إلى نظام تدوين بإمكانية لا نهائية، مثل نظام
التدوين الموسيقي المعياري.
(٦) الشروط المفروضة على المؤدِّي
لننظر الآن إلى الاختلاف الثاني بين الفن
والطقوس، وهو يتعلق بالشروط المفروضة على
المؤدِّي. نتذكَّر أن الفن غير الخطي، عند
جودمان، يعتمد على التمييز بين السمات
التكوينية والطارئة لعمل، بشكل مستقل عن تاريخ
الإنتاج، تسجِّل السِّمات التكوينية بالتدوين.
إن توفُّر مثل هذا التدوين هو ما يجعل تزييف
عملٍ فارغًا.
ولأن التزييف خداع فيما يتعلَّق بظروف الإنتاج،
وهذا الخداع عاجز عن تعديل أداء ينتمي لعمل
معين، يمكن إقراره بالإشارة إلى هذا التدوين
فقط. لكن تزييف أداء يبقى ممكنًا بالنسبة للعمل
غير الخطي؛ حيث يبقى الخداع ممكنًا فيما يتعلق
بما إن كان لأداء معين خصائص تاريخية — أي إن
كان أداءً رئيسيًّا أم لا — تميزه عمَّا إذا
كان عينةً من العمل.
تفرض
الطقوس عادةً شروطًا تكوينية على مؤديها وعلى
أدائهم أيضًا. يتطلب الأمر أن يكون المؤدون
أشخاصًا موصوفين أو مكوَّنين كما ينبغي أو
مصطفَين أو مكرَّسين أو معينين؛ أي أن يلبوا
المواصفات الرسمية. إن أداء الطقوس بشكل زائف
يوحي بتلبية تلك الشروط لا يمثِّل فقط تزييفًا
لأداء معين، بل للطقوس نفسها. بينما يمثِّل
أداء أوركسترا مطابق بالضبط لتدوين سيمفونية
معينة شاهدًا على العمل السيمفوني بصرف النظر
عن العازفين، لن يكون، عادة، أداء طقوس بشكل
يمتثل تمامًا للمواصفات المحددة شاهدًا على هذه
الطقوس إذا لم يلبِّ المؤدون أنفسهم شروطًا
إضافية. قد تميِّز هذه القيود، على سبيل
المثال، المؤدين الشرعيين فيما يتعلق بسلسلةٍ
من تحولات السلطة تؤدي إلى العودة إلى أصول
معينة، وهكذا تعلِّق أصالة الطقوس على تاريخ
الإنتاج وتجعله خطيًّا نتيجةً لذلك.
يقدِّم جريث ماتيوس،
١٦ مؤكِّدًا على هذه القضية، القداس
المسيحي مثالًا، متطلبًا أن يكون القائم
بالقداس كاهنًا رسَّمه أسقفٌ ممثلًا للتتابع
الرسولي؛ أي أسقفًا رسَّمه أسقف، رسَّمه أسقف …
رسَّمه أحد الرسل. وتكوِّن سِمةُ تاريخ الإنتاج
الطقوس هنا. وهكذا يكون الخداع بشأن امتلاك هذه
السمة بأداء معين يكون كافيًا من ناحية أخرى
لتزييف الطقوس نفسها، وينبغي، طبقًا لذلك،
الحكم عليه بشكل خطيٍّ وليس بشكل غير خطي.
١٧
واضعين في الاعتبار استحالة تزييف عمل
باعتباره معيارًا لخاصيته غير الخطية، هل
نُدفَع إلى استنتاج أن الطقوس، عمومًا، ليست
غير خطية، على الأقل في كل حالة تُفرض فيها
شروط تكوينية على المؤدين؟ ونظرًا لذلك تتطلب
منا كل حالة أن نسأل: «من أدَّى الطقوس؟» ألَا
نلجأ بالضرورة إلى تاريخ الإنتاج، لنعترف بأن
الطقوس خطِّية؟ أظن أن الاستنتاج العام لا يتبع
ذلك؛ لأن السؤال «من أدَّى الطقس؟» يمكن أن
يُفسَّر بأكثر من طريقة.
يكتب جودمان:
حيث يكون هناك اختبار حاسم نظريًّا لتحديد أن
موضوعًا يتمتع بكل الخصائص التكوينية للعمل
المطروح دون تحديد كيفية إنتاج الموضوع ومن
أنتجه، لا يكون هناك تاريخ ضروري للإنتاج ومن
ثم لا يكون هناك تزييف لعمل معين.
١٨
لكن تعبير «من أنتج الموضوع» يغطِّي نوعين من
الحالات؛ نوعًا حيث لا يوجد تمييز مستقلٌّ عن
تاريخ الإنتاج، بين الخصائص التكوينية والطارئة
للمنتجين أنفسهم، والآخر؛ حيث يوجد هذا
التمييز. يهتم جودمان بالحالة الأولى وحدها،
ويوضحها على النحو التالي «الطريقة الوحيدة
للتأكد من أن
لوكرتيا١٩ التي أمامنا أصلية هي
بالتالي إثبات الحقيقة التاريخية بأنها الموضوع
الحقيقي الذي صنعه رمبرانت.»
٢٠ رمبرانت الخاصية الإنتاجية الحاسمة
هنا، ولا تُحلَّل أكثر إلى سمات تكوينية يمكن
أن يشارك فيها أشخاص غير رمبرانت. وهكذا يكوِّن
الخداع بوصفه خاصيةً للوحة معينة تزييفًا
للعمل، والسؤال «من رسم اللوحة؟» يسأل «رمبرانت
أم شخص آخر؟»
لكن حالة الطقوس تختلف أحيانًا على الأقل. إن
القيود المفروضة على مؤدِّي الطقوس قد تشمل
شروطًا تتجاوز الأداء الذي يشكل بؤرة الطقوس.
لكن ما قد تتطلبه هذه القيود من المؤدين أداءً
سابقًا أو إضافيًّا قابلًا للتدوين بشكل مستقل
عن تاريخ الإنتاج؛ قد تتطلب، مثلًا، قيام
المؤدين بتطهير تمهيدي بطرق محددة، أو خضوعهم
لفترة سابقة أو متزامنة من الصمت أو الصيام، أو
القيام بمجموعة من المجموعات الكبيرة غير
المحددة من الإجراءات الإضافية الأخرى. وهكذا
يمكن تعريف الأداء الناجح للطقوس ككل بتدوين لا
يشير فقط إلى السمات التكوينية للأداء المركزي،
لكنه يشير أيضًا إلى السمات التكوينية للمؤدين؛
أي إلى إنجازهم بشكل صحيح للمتطلبات التمهيدية
أو الإضافية. «من أدَّى الطقوس؟» لا يعني هنا
«زيد أم عمرو؟» لكنه يعني «أشخاص لبوا مجموعة
المواصفات كلها أم لا؟» وإذا تمَّت تلبية
التدوين ككل، لن يشكل خداعٌ يتعلق بالظروف
الأخرى للإنتاج أو هُوية المنتجين تزييفًا
للطقوس بوصفه متميزًا عن الأداء الخاص.
بالطبع، كما قد تؤدِّي للحركة الرابعة من
سيمفونية برامز،
٢١ وهي نفسها غير خطية، بشكل زائف
يزعم بأنها سُبِقت بأداء الحركات الثلاث
السابقة، قد يؤدي الجزء المركزي من الطقوس، وهو
نفسه غير خطي، بشكل زائف يزعم أنه سُبِق بأداء
إجراءاته التمهيدية التكوينية. لكن يجب تمييز
هذا التزييف للأداء الخاص عن تزييف السيمفونية
أو الطقوس نفسها. إن هُوية الطقس، مثل هُوية
الجزء المركزي وحده، يحدِّدها تمامًا (بالضبط
كما هو الحال بالنسبة للسيمفونية والحركة
الرابعة وحدها) الاتساقُ مع التدوين المناسب،
بشكل مستقل عن تاريخ الإنتاج. وهكذا يتبين أن
الطقوس من النوع الذي تناولناه للتو، متضمنة
الشروط التكوينية المفروضة على مؤديها، غير
خطية رغم كل شيء.
وقد يُثار السؤال عن نية المؤدين بوصفها
تهديدًا مستقلًّا للخاصية غير الخطية للطقوس.
ولأن بعض الطقوس، كما قد يُقترَح، لا تتطلب فقط
أسلوب أداء بل تتطلب أيضًا نيةً خاصة من جانب
المؤدين، يعوَّق التدوين لأن تقييم النية بالغ
الصعوبة. وعلى أية حال لا تتطلب الطقوسُ نيةً
بانتظام. بالإضافة إلى ذلك، حتى حيث يعتقد أن
طقسًا معينًا يتطلب نية، ينبغي أن نسأل عن قوة
المطلب: هل انتهاكه يبطل الطقوس أم يقلل فقط من
قيمتها، ويجعلها، بتعبير أوستين،
٢٢ مجوفة؟
٢٣ أخيرا، نفترض أن طقسًا معينًا
يتطلب نيةً لتعريفه وليس فقط لصلاحيته. لا توجد
هنا عقبة نظرية أمام التدوين؛ لأن التدوين في
ذاته لا يفترض ضمنيًّا سهولة التطبيق؛ ومن ثم
لا تعوقه الصعوبة. إذا كان من الممكن نظريًّا
على الأقل أن نحدِّد إنجاز نية مناسبة، قد
يجسِّد نظام التدوين سمات النية مع السمات
التكوينية الأخرى.
(٧) الطقوس والتعبير
قد لا تمثل الطقوس سماتٍ معينةً حرفيًّا فقط،
بل تمثلها استعاريًّا أيضًا. بهذه الطريقة تدخل
مجال التعبير، بالمعنى الذي توضِّحه نظرية
جودمان. إن السمة التي يعبر عنها رمز يمثلها
استعاريًّا؛ أي يمتلكها استعاريًّا كما يشير
إليها أيضًا (رغم أن العكس لا يصح). بالنسبة
لهذه النظرية، قد تعبر الطقوس (أو أداؤها
النموذجي) طبقًا لذلك عن مجال واسع من الخصائص،
وتشير إليها أيضًا. وهكذا، قد تعبِّر الطقوس،
مثلًا، عن البهجة أو الأسى أو التواضع أو
الحنين أو الندم أو الانتصار أو الحزن أو الثقة
أو الثبات أو الانتشاء أو التسامي أو التضرع أو
العرفان بالجميل.
وينبغي هنا تذكر تضاعف الخاصية الرمزية
للطقوس. لا يتعلق التعبير بما يدل عليه الرمز
أو يصفه، لكن بما يدل على الرمز أو يصفه.
الإشارة التعبيرية التي يقدمها الرمز إشارة ضرب
الأمثلة، لا الدلالة. وبصرف النظر عمَّا قد
تصوِّره طقوس معينة، فإنه قد يمثِّل في الوقت
ذاته، حرفيًّا أو استعاريًّا، أشياء مختلفة
تمامًا. ممثلًا صراحةً أحداث قصة مقدسة، وقد
يعبِّر في الوقت ذاته، بدل أن يمثل، عن تبعية
أو انتصار، أو كفارة، أو عطش للإصلاح.
ترى هذه النظرية عن التعبير أن التعبير عن
سمة برمز لا ينبغي أن يُعتبر مماثلًا لامتلاك
مستخدم أو مشاهد لها. يكتب جودمان: «إن الخصائص
التي يعبِّر عنها رمز هي خاصيته. إن كون الممثل
مكتئبًا، أو الفنان سعيدًا، أو المشاهد كئيبًا
أو متلهِّفًا أو مبتهجًا، أو الموضوع فاقد
الحيوية، لا يحدِّد إن كان الوجه، أو الصورة،
حزينًا أم لا. يعبِّر الوجه المبتهج للمنافق عن
الهم، وقد تعبِّر عن الإثارة صورة باردة رسمها
رسام لصخور.»
٢٤ بالطريقة نفسها، يجب التمييز بين
المشاعر أو الأفكار أو الحالات الذهنية الأخرى
لمؤدِّي الطقوس أو مشاهديها والسمات التي
تعبِّر عنها الطقس نفسها، على الأقل في ظل
التفسير الحالي للتعبير.
لكن يبدو أن الطقوس تمثِّل بُعدًا يختلف
اختلافًا جذريًّا؛ لأن الطقوس في السياقات
الدينية مميزة عن السياقات السحرية، وتسعى
عادةً إلى اختراق القلب. مؤدو الطقوس ليسوا
ممثلين. ورغم أن الممثلين ومؤدي الطقوس الدينية
قد يحقِّقون أداءهم الخاص بشكل لا تشوبه شائبة،
بينما أفكارهم أو مشاعرهم بعيدة عن السمات التي
يعبِّرون عنها، ثمة قضية رئيسية في الطقوس لا
توجد في الدراما، وهي التأثير على الأفكار
والمشاعر، جزئيًّا من خلال التعرض لهذه السمات.
وعلى عكس الأداء الدرامي، للطقوس الدينية عادةً
نمط متميز من التكرار؛ يجب أن تتكرر مع فصول
السنة أو مع وحدات زمنية أخرى، أو مع مراحل
مهمة في الحياة. ويسعى هذا التكرار المنتظم
لتشكيل أحاسيس المعتنقين، إلى حدٍّ كبير باتصال
متكرر بالسمات الممثَّلة والمعبَّر
عنها.
وصحيح أنه ليست كل سمة يتم التعبير عنها، حتى
نظريًّا، ينبغي أن يكون هناك ما يوازيها في
المشارك، في الطقوس كما في الفن؛ مثلًا، قد
يؤمَّل من طقوسٌ تعبِّر عن العظمة أن تحث على
الإيمان أو الثقة. وحتى حيث نأمل حقًّا في
السِّمات المتوازية، لا يعتمد التنفيذ الناجح
لطقس في حالة معينة على تلبية هذا الأمل؛ حين
تتنافر الحالة الذهنية للمشارك مع التيمة
المعبر عنها في الطقس تقلل من منزلته، لكنها،
عمومًا، لا تنم على أن الطقس لم يحدث. ويبقى أن
هناك، في حالة الطقوس، رابطًا معينًا بين
الخصائص المعبَّر عنها وذكاء المشاركين
وحساسيتهم. إن إدراك السِّمات المعبَّر عنها،
معزَّزًا بالأداء المتكرر، وسطٌ رئيسي لهذا
الرابط. بينما في الرسم أو الدراما، قد تعبِّر
القوة المبهجة للمنافق، كما يقول جودمان، عن
الهم، ويكون النفاق غير ذي صلة، من العبث أن
نفترض أن النفاق غير ذي صلة بالنسبة لأداء طقس
ديني معبر، مثلًا، عن الندم أو التوبة. بينما
يكون النفاق في الحالتين مستقلًّا عمَّا يعبر
عنه الأداء، يهدف بالفعل النمط الكامل المرتبط
بالأداء، في حالة الطقوس المتصلة بالفهم فقط
إلى تقليل النفاق في المشاركين أنفسهم.
٢٥
(٨) مشكلة تماهي المحاكاة
تطرح
طقوس المحاكاة مشكلةً صعبة تتعلق بالتفسير في
تلك الحالات التي يبدو فيها أن المحاكاة تمر
إلى التماهي. ويقودنا تناول هذه المشكلة إلى
دراسة صيغة رمزية أخرى تتجاوز تلك الصيغ التي
ميَّزناها بالفعل. أقدِّمُ المشكلة في سياق
مثال من الشرق الأدنى القديم.
يصف ثوركيلد ياكبسون
٢٦ مهرجان طائفة دينية في نهاية
الألفية الثالثة في مدينة إسين،
٢٧ وكانت حينذاك مقر حكم جنوب بلاد
الرافدين. كان يحتفل سنويًّا بزواج الربة إنانا
Inana من الرب
دوموزي
Dumuzi، في طقس لا
يقوم به فقط كاهنة والملك الإنسان بهذه الأدوار
الخاصة لكنهما كانا يتماهيان مع إنانا ودوموزي.
يتساءل ياكبسون: «لماذا ينبغي لحاكم إنسان و…
كاهنة أن يتجاوزا حالتهما الإنسانية، ويتقمصا
هُويتي الربين دوموزي وإنانا، وينفِّذا
زواجهما؟» في الإجابة على هذا السؤال يلجأ إلى
ما يصفه بأنه:
عقيدة منطق شعري أسطوري يندمج فيها التشابه
والهُوية؛ «إنه يشبه» تعني «أنه يكون». ومن ثم،
بالتشابه، بتمثيل دور رب، مثل قوة في الطبيعة،
يمكن للرجل في طائفة دينية أن يندمج مع هُوية
هذه القوى، مع هُوية الأرباب، ومن خلال أفعاله،
وهو متماهٍ بهذا الشكل، يجعل القوى المتورطة
تعمل كما كان يمكن أن يجعلها تتصرف. بالتماهي
يكون دوموزي الملك دوموزي؛ وبشكل مماثل تكون
الكاهنة إنانا، وتنص نصوصنا على هذا
بوضوح.
تتكرر ظاهرة التماهي أيضًا، طبقًا لرأي
ياكبسون، في طقوس كبرى مختلفة.
٢٨
التفسير الذي يفترضه ياكبسون ليس مقنعًا، في
أنه يفترض مقدمًا المحاكاة ليعتمد على التماثل.
لكن بينما التقليد قد يمثل حقًّا بعض الحركات
المتضمنة في النشاط الممثل، لا يستتبع ذلك أن
ما يفعله التقليد
مماثل لِما يمثله. ولا يستتبع ذلك
أن لقطة «٣ × ٥» من ممر الجراند كانيون
٢٩ تمثِّل عدة مستويات له، تكون
مماثلة
للجراند كانيون. ماذا يمكن أن يُقصَد، على أية
حال، بالقول، كما يقول ياكبسون، بأن الإنسان
كان
مثل قوة
في الطبيعة؟ يجب التمييز عمومًا بين التمثيل أو
الدلالة والتماثل، وللتمييز أهمية خاصة بالنسبة
للمحاكاة؛ حيث يمكن أيضًا أن يمثِّل الفعل
المحاكَى بعض سمات الشيء المشار إليه.
وإذا كان اللجوء إلى التماثل يعني الاستسلام
في تفسير تماهي المحاكاة، كيف يمكن، بدلًا من
ذلك، فهم هذه الظاهرة؟ لنبدأ من حقيقة أن
المحاكاة تعتبر رمزًا ممثلًا أو دالًّا. يبدأ
الانتقال إلى التفسير بهذه الحقيقة وينتهي
باعتبار المحاكاة نفسها ما تمثله أو ما تدل
عليه.
ترك بعض المنظرين المسألة بهذا الشكل، رافعين
مكانة الانتقال نفسه إلى مبدأ للتفسير خالٍ من
كل إشارة إلى التماثل. ويصبح المبدأ الجديد
«التحام الرمز والشيء الذي يمثله»، بصياغة
فرانكفورت وفرانكفورت،
٣٠ اللذين يقدِّمان مثال «معالجة اسم
شخص بوصفه جزءًا جوهريًّا منه، كما لو كان،
بطريقة ما، مماثلًا له.»
٣١ لكن هذا البديل غير وافٍ أيضًا.
إذا كان المرور من المحاكاة إلى التماهي يحتاج
إلى تفسير، فإن الانتقال من الرمز إلى الشيء
مربك أكثر. اعترفت نظرية التماثل على الأقل
بالاحتياج إلى مفهوم وسيط لتسهيل الانتقال من
المحاكي إلى المحاكَى. وبدلًا من ذلك تُعمم
النظرية الحالية، دون أن تقدِّم أي مفهوم وسيط،
الانتقال الإشكالي إلى انتقال لا يميِّز
المحاكاة فقط بل يميِّز كل الرموز الدالة.
وبالإضافة إلى ذلك؛ حيث إن الانتقال المعمم
يبقى غامضًا، تُحفَّز النظرية بقوة لافتراض
تشوُّش جذري تعيس خاص بعقول القدماء. يقول
فرانكفورت وفرانكفورت: «بالنسبة لنا يوجد
اختلاف جوهري بين فعل وطقس أو أداء رمزي.»
٣٢ يمكننا، ولسنا قدماء على ما يفترض،
أن نعرف الاختلاف بين رمز وما يمثله؛ بين حصان
والكلمة المنطوقة «حصان»، بين صورة أسد والأسد،
بين المطر ومجرد وعد بالمطر.
تكمن المشكلة في الحقيقة في فهم الانتقال
السيكولوجي بين رمز شيء والشيء المرموز له، لكن
المطلوب لمثل هذا الفهم فكرة إضافية تتوسط
الانتقال. وهذه الفكرة ينبغي، بشكل أفضل، أن
تتحرر من اللجوء إلى التماثل، وينبغي ألَّا
تفترض اختلافًا جذريًّا بين عقلية القدماء
والمحدثين.
(٩) الطقوس واختيار الإشارة
أقترح أن اختيار الإشارة قد يفي بالغرض هنا.
إن العادات المتعلقة بالدلالة واختيار الإشارة
ترتبط، كما أوحيت، ارتباطًا وثيقًا بتطور
المصطلحات وانتشارها. يشير المصطلح نفسه
بشكل دلاليٍّ
إلى موضوع معين و
يختار الإشارة إلى
نفسه، كما يشير أيضًا إلى التمثيل الموازي
للموضوع، ومن ثم يقدم موضع قدم للانتقال الذي
نبحث عنه. وفي التعليم الحقيقي للمصطلح نفسه
تكون له وظيفة مزدوجة تتمثل في الدلالة واختيار
الإشارات الموازية أيضًا. وارتباك هاتين
الوظيفتين الحقيقيتين للكلمة نفسها، سواء مع
الأطفال أو الكبار، القدماء أو المحدثين، يبدو
أكثر قابليةً للفهم من الارتباك المجرد للرمز،
باعتباره يدل فقط، مع موضوعه الحقيقي.
٣٣
يقدم هذا الاقتراح، على أية حال، التفسير
التالي لطقوس المحاكاة: إيماءة المحاكاة التي
تصور تصرف رب دلالية هذه القدرة، بالإضافة إلى
أنها تختار الإشارة إلى تمثيل التصرف ذاته،
التي تحتويه. لكن بخلط هذه الاختيار للإشارة
بالدلالة، تُعتبَر هذه الإيماءة نفسها تصرف رب،
لا مجرد تصوير لمثل هذا التصرف.
ويمكن أيضًا تقديم ملاحظات مماثلة عن الآلية
التي لا يُنظر بها إلى المواضيع المقدسة
المستخدمة في الطقوس باعتبارها رمزيةً فقط لكن
بكلمات لانجر: «باعتبارها مانحي الحياة وتُجار
الموت … لم تُعكَس فقط، لكنها أيضًا التُمِست،
ووُثِق فيها، وخُشيَت، واستُرضِيَت بالخدمة والتضحية.»
٣٤ إن الهجوم العنيف الذي تشنه
التوراة ضد عبادة الأوثان يجعل من الصعب جدًّا
استيعاب عقلية أولئك الذين كانوا ينسبون قوى
الحياة والموت لعِصي وحجارة؛ الهجوم مقصود
للسخرية من هذه العقلية. ألَا يستطيع «عُباد
الأوثان» أن يرَوا أن صورهم المحفورة مجرد
أشياء خاملة وعاجزة؟ «أصنامهم فضة وذهب، من عمل
الناس، لها أفواه ولا تتكلم، لها عيون ولا ترى
… إلخ.»
٣٥ وقدَّم العديدُ من الدارسين
المحدثين تفسيرًا أكثر تعاطفًا لعبادة الأصنام،
كما تسمى. لكنها بالاعتراف فقط بالصيغة
الدلالية للإشارة، تقدم أساسًا ضئيلًا لفهم
الظاهرة الأصيلة التي ناقشناها والمتعلقة
بالتماهي أو الفاعلية العلية المنسوبة للرموز
المقدسة، التي لاحظناها في الاقتباس السابق من
لانجر. حتى الكتاب المقدس يوحي بمثل هذه
الفاعلية، لمواضيع مقدسة أخرى إن لم يكن لصور
الإله. كما تلاحظ لانجر: «السفينة
٣٦ المقدسة التي تسير أمام أطفال
إسرائيل تمنحهم انتصارهم. ويعتقد الفلسطينيون
أنها تصيب آسريها بالمرض. تُرَى فعاليتها في كل
انتصار في المجتمع، وكل إنجاز وكل فتح.»
٣٧ ويتمثل اقتراحي في أن اختيار
الإشارة وظيفة رمزية إضافية تتجاوز الدلالة،
ويسعى أيضًا إلى جعل هذه الظاهرة أكثر قابليةً
للفهم.
(١٠) الطقوس التذكارية
تتمحور الكثير من الطقوس الدينية على أحداث
معينة في قصة مقدسة. وأسميها «الطقوس
التذكارية». إن الارتباط بين الطقس والأسطورة،
بين الاحتفال والقصة، وثيق جدًّا بدرجة تجعل من
الصعب غالبًا فصل أصولها. سواء، كما يفترض
البعض، اشتق الطقس في البداية من الأسطورة أو،
كما يعتقد البعض، نشأت الأسطورة في طقس مسألة
لا نحتاج إلى إقرارها. الواضح حاليًّا وجود
ارتباطات حميمة بين الطقس والقصة، وفي الحالات
الكبرى من الطقوس الدينية لا تكون القصص
مجرد قصص،
لكن يُعتقد أنها تحكي أحداثًا تاريخية حقيقية
وخطيرة.
أميز
علاقتين مختلفتين ترتبطان بالطقوس التذكارية؛
العلاقة بين الحدث التاريخي المعين والفعل
الطقسي احتفالًا به، والعلاقة بين أحد هذه
الأفعال الطقسية والأفعال الطقسية الموازية له،
بصرف النظر عن وقت تأديتها أو من يؤدونها.
العلاقة الأولى دلالية؛ أي إن الفعل الطقسي
يصوِّر الحدث التاريخي أو يمثِّله.
٣٨ وتربط العلاقة الثانية بين أشكال
أداء الطقس نفسه؛ إنها تتصل بالمكافئات الطقسية
أو النسخ المتطابقة.
هاتان العلاقتان مختلفتان بوضوح. أن يكون
أداءان مكافئين طقسيين لا يتضمَّن أن هناك
حدثًا تاريخيًّا معينًا يدلان عليه بالطريقة
نفسها. قد يدلان على شيء آخر غير الحدث
التاريخي؛ وقد تكون لهما دلالة منعدمة، وقد لا
يزعمان بأنهما يدلان على شيء، مفتقرتين حتى
للدلالة المنعدمة. وأن يدل فعل طقسي على فعل
تاريخي خاص بوضوح لا يتضمَّن أنهما مكافئان
طقسيان، حتى لو كان الأول يمثِّل سمات معينة
للأخير. إن الحدث التاريخي عمومًا في ذاته ليس
طقسًا؛ وبالإضافة إلى ذلك، يُدَل عليه عادةً أو
يُصوَّر لكن لا تقدَّم له نسخ متطابقة في
الطقس، بالضبط كما أن النشاط المحاكَى عمومًا
يصوِّره المحاكِي ولا يقدِّم نسخًا متطابقة منه
أو يضرب أمثلةً له.
(١١) الطقوس وإعادة الأداء
يوحي هذا بتوخي الحذر في تطبيق مفهوم إعادة
الأداء حتى لتفسير الطقوس التذكارية، ناهيك عن
الطقوس الأخرى. حتى حيث تكمن النية الصريحة
لطقس في تشجيع اتحاد تعاطفي وروحي مع الممثلين
التاريخيين له، لا يتبع ذلك أن الطقس يقدِّم
نسخًا متطابقة لأنشطة هؤلاء الممثلين. قد يصور
الطقس بطريقة أو أخرى الحدث المعين، المرتبط به
في القصة، ممثلًا بعض سماته التكوينية، أو
معبِّرًا عن المشاعر المرتبطة بها، وكل ذلك
بهدف تشجيع الاتحاد التعاطفي. لكن ينبغي تمييز
هذا الاتحاد المستهدف من إعادة الأداء الحرفي
أو النَّسْخ المتطابق.
في عيد الفصح اليهودي يُحتفل بالخروج من مصر،
يُتلى نص الهجاداه،
٣٩ وتقول فقرة منه: «في كل جيل ينبغي
على كل فرد أن يعتبر نفسه كما لو كان خرج
شخصيًّا من مصر.»
٤٠ يهدف طقس عيد الفصح كله إلى تعزيز
التماهي الروحي مع الإسرائيليين المحررين في
الخروج وتأجيج إحساس حي في المشاركين بمتعة
العتق من العبودية. لكن الوسيلة الرمزية التي
يكافح الطقس خلالها ليحقِّق هدفه لا تؤثر على
إعادة أداء حرفي للخروج التاريخي المصوَّر.
توصف قصة الخروج، وتُوضَّح، وتؤكَّد؛ يُصوَّر
الخروج باعتباره حدثًا أساسيًّا في التاريخ.
ولا يهدف التماهي التعاطفي الذي يُبحَث عنه إلى
أن يضع حدثًا معينًا في الماضي بوصفه علامةً
زمنية رئيسية فقط، لكن إلى أن يُبعث ذلك الحدث
حيًّا الآن؛ أي أن يجلب بعض سماته الرئيسية إلى
مقدمة زمنية. إنه ليشجع الاستيعاب المعاصر
للحرية التي يعلن عنها الهجاداه: «لم يعتق
أسلافنا وحدهم القدوس، تبارك، لكننا نحن أيضًا
عتقناه معهم.»
٤١ ومع ذلك لا تعيد الأفعال التي تشكل
الطقس الأداء، لكنها تصور العتق التاريخي
المحتفل به.
ومن الناحية الأخرى، مفهوم قد تصف إعادة
الأداء بشكل ملائم علاقة أداء طقس بنسخه
المتطابقة في الماضي، وكل أداء من هذا النوع
يشير بشكل غير مباشر لتلك النسخ المتطابقة في
الماضي؛ أي يلمح إليها، بينما يدل بشكل مستقل
على ما قد يدل عليه ويرمز له بالصيغ الأخرى
المتميزة إلى حد بعيد. وبالتكرار المنتظم لطقس
معين، يتراكم إحساس، في كل أداء جديد، بالأداء
السابق الذي حدث خلال حياة المشاركين، وعادة
بما يتجاوزهم أيضًا، إلى زمن أصل الطقس الأقرب
إلى الحدث التاريخي المحتفل بذكراه.
أقترح أن لدينا، في مثل هذا التلميح، صيغةً
رمزية إضافية. وصيغة الإشارة المتضمنة هنا ليست
الدلالة أو ضرب الأمثلة أو التعبير أو اختيار
الإشارة. إن علاقة الأداء بنسخة متطابقة علاقة
تقع بين أداء تدل عليه وتمثله المواصفات
الطقسية نفسها. وهذا الأداء، إذا جاز التعبير،
على المستوى الرمزي نفسه. إذا صورنا الدلالة
تنحدر من الرمز إلى الموضوع، فإن ضرب الأمثلة
والتعبير يصعدان من موضوع مشار إليه إلى رموز
(معينة). ويجري اختيار الإشارة، في هذه الصورة،
جانبيًّا من رمز إلى رموز موازية. وتجري
جانبيًّا أيضًا علاقة النسخ المتطابقة المتضمنة
في إعادة الأداء من موضوع إلى مواضيع موازية؛
أي من أداء إلى آخر من النوع نفسه.
وقد يفسَّر هذا النَّسْخ الإشاري بأنه إشارة
تُنقَل خلال سلسلة مؤلفة من روابط رمزية مميزة
بالفعل. يرتبط أداء معين بالخاصية الطقسية التي
يمثلها. وترتبط بدورها المواصفة المذكورة بأداء
آخر (ماضٍ) يمثلها. قد يُعتقد أن التلميح
بالأداء الأول إلى البقية يُنقل خلال سلسلة
تمثيل من رابطين.
٤٢
بينما تتوفر نظريًّا هذه السلاسل، المتنوعة
الطول والتعقيد، في كل مكان، تكون فعالةً
مرجعيًّا في حالات معينة فقط، وغير فعالة في
الأخرى، أو على الأقل غير فعالة في الحالات
الأخرى بالدرجة نفسها. وهكذا لا يلعب مفهوم
الأداء دورًا، أو لا يلعب دورًا فعليًّا، في
الفنون، على الأقل مقارنةً بالطقوس الدينية. لا
يشير أداء معين لعمل موسيقي إلى أداء العمل
نفسه في الماضي أكثر ممَّا يدل على حدث تاريخي مهم.
٤٣ في المقابل، أقترح أن أداء طقس
يُلمح إلى قريبه في الماضي، بالضبط كما قد يشير
إلى حدث يحتفل به. إن الإحساس بأن إعادة الأداء
إجراء مهم، بإعادة تجريبه، قوي هنا. تُنشَّط
السلسلة المناسبة مرجعيًّا، وربما تكون عرضًا
للوعي الديني الذي ينشط بهذا الشكل.
يقدِّم هذا التنشيط تجسيدًا لمفهوم التقاليد،
وهو مفهوم قوي جدًّا في السياقات الدينية. إن
التقاليد ليست مجرد سلسلة متكررة من الأفعال؛
إن أية مجموعة من الأفعال غير المتزامنة تشكِّل
سلسلةً من نوع ما. لكن حتى حين تُقيَّد إلى حدٍّ
ما الأنواع المباحة، لا يصنع التكرار العَفْوي
تقاليد. المطلوب بعض الإحساس مع كل تكرار، بأنه
تكرار؛ أي بعض الإحساس بسوابقه. وقد يكون ذلك
قابلًا للتفسير، طبقًا لاقتراحي، بأنه إشارة
بكل فعل عن طريق سلسلة تجري خلال مواصفات ممثلة
بشكل عام، إلى سوابقه المناسبة.
إن رسم الأحداث التاريخية المهمة التي تحدِّد
منشأً زمنيًّا، والإشارة المصاحبة المعاد
أداؤها إلى تقاليد طقس، تؤدي أيضًا إلى تشكيل
تصور الجماعة؛ لأن مؤدي النسخ الطقسية السابقة
يشكلون مجموعة ممثلين ينسب المؤدون الحاليون
أنفسهم إليهم بشدة بهذه الإعادة للأداء، ومن
ثم، بشكل غير مباشر، إلى بعضهم البعض بشكل
متزامن. ولا تحمل الجماعة، معرفةً بهذا الشكل،
مثل كل الجماعات، روابط مشتركةً فقط بالماضي،
لكنها تحمل أيضًا توجهات مشتركةً في الحاضر.
باختصار، يتم تسهيل تنظيم الزمن، وأيضًا الفضاء
الذي تحتله الجماعة التاريخية.
وحيث اعتمدت المناقشة السابقة عمومًا على
مثال ديني قديم، أُنهيها بمثال علماني معاصر.
متحدثًا عن البرلمان يلاحظ كاتب إنجليزي
حديث:
هناك كثيرون تأثرت … سخريتهم بالمشاركة في
بعض طقوسه الفخمة، ومعظمها غارق في الأهمية
التاريخية. تساعد مثل هذه الطقوس على توحيد
الماضي والمستقبل ونقل الإحساس بالمشاركة في
شكل مشترك من الحياة. إنها تفعل شيئًا ما
لتخفيف الشعور الذي لا بد أن ينتاب أي كائن
عاقل بشأن تفاهة حياته وسرعة زوالها على الأرض.
وتفعل الكثير، أيضًا، لتطوير الشعور بالأخوة
وهي نبع الحياة بالنسبة لأية مؤسسة فعالة.
٤٤