العلم والعالَم١
يُعتقد عادةً أن العلم يعطينا وصفًا حقيقيًّا للواقع، صورة صحيحة للعالم، لكنه يتكون من فرضيات قابلة للتغيير، مفتوحة دائمًا على التغير. وإذا كانت هذه الفرضيات إلى حد ما، رغم ذلك، مرتكزةً على الواقع، كيف يمكن اعتبار أن العلم يعطينا مدخلًا صحيحًا للعالَم؟ تحدِّد استجابةً شائعة لهذه المشكلة السلطةَ النهائية للعلم في المُعطَيات؛ أي فيما يُعطَى بيقين للحواس، تاركةً كل ما سواها مفتوحًا على تفسير متغيِّر. لكن هذه الاستجابة مشوَّشة. يمكن أن يُعزَى الخطأ واليقين، مثل الحقيقة والزيف، للأوصاف، وليس، عمومًا، للأشياء الموصوفة.
(١) اليقين والاتساق
لكن هل يكفي هذا التصور للاستقلال لنظرية عن السيطرة الموضوعية على المعتقد؟ هل يقدِّم قيدًا كافيًا لعشوائية اختيار الفرضيات؟ يقدِّم الخلاف في أفضل الأحوال، رغم كل شيء، حافزًا لإحياء الاتساق. لكن إذا كان هذا هو الحافز الوحيد الذي أكون ملزمًا باحترامه، أكون حرًّا في أن أختار بإرادتي من بين مجموعات متماسكة بالقدر نفسه من المعتقدات المختلفة إحداها مع الأخرى؛ لا أحتاج إلى تفضيل التعليق الحقيقي المتسق على التشويه المتسق، أو على الحكاية الخرافية المتماسكة. ومواجهًا بخلاف بين تقارير ملاحظتي ونظريتي، يمكن أن أعدِّل بحرية أو أنبذ الأولى أو الأخيرة أو كليهما، طالما أستبدل بمجموعتي الأولية غير المتسقة من المعتقدات مجموعةً متماسكة. بوضوح، هذا القدر الكبير من الحرية كبير جدًّا من الحرية، ويجب الاعتراف بالقيود التي تتجاوز الاتساق.
لكن في إنكار مبدأ اليقين، ألم نجعل مجرد القيام بذلك مستحيلًا؟ إذا أصيبت كل معتقداتنا باحتمال الخطأ، إذا لم يُضمَن بأن يكون أي وصف من أوصافنا حقيقيًّا، لا يمكن لأحد أن يمدنا برباط بالواقع موثوق به بشكل مطلق. تطفو معتقداتنا متحررة من الحقيقة، وأفضل ما يمكن القيام به التأكد من الاتساق بينها. الورطة شديدة ومزعجة؛ نبتلع أسطورة اليقين أو نستنتج أننا لا يمكن أن نعرف الحقيقة من الخيال.
(٢) نيورات ضد اليقين
أنتقل أولًا إلى نيورات الذي يقترح أن العمليات العلمية تُفهَم بوصفها تنحصر تمامًا في عالم التصريحات:
إن الكلام باندفاع بهذه الطريقة عن العلاقة بين العلم والحياة يعني بوضوح ترك العالم النقي للتصريحات والاعتراف، رغم كل شيء، بأن العلم لا يمكن أن يتميز بشكل كافٍ فيما يتعلق بالاتساق وحده، أن يكون هدفه الحقيقي، أن يشير إلى ما يكمن وراءه.
بالتأكيد، ليست كل النظم المتسقة ذاتيًّا «أدوات للحياة»، بالمعنى المقصود. يشير نيورات ضمنًا إلى أن الفائدة العملية تعود على العلم بفضل نبوءاته الناجحة الطيعة. لكنه يفهم أن نجاح النبوءة يتكون ببساطة من اتفاقها مع تصريح أخير؛ وبهذا المعيار كل النبوءات تلي تلك التي تُتبَع بتكرار نفسها أو بتصريحات أخرى تترابط معها.
وبالإضافة إلى ذلك، ثمة سؤال وثيق الصلة بالتفسير المفترض للقَبول: قَبول بواسطة من؟ ربما يكون افتراض أن القَبول يميِّز مجموعًا واحدًا مترابطًا بشكل مفترض في كل حالة مقارنة مستساغًا إذا وضعنا في الاعتبار فردًا واحدًا. ويكون بلا أساس إذا وضعنا في الاعتبار قَبول كل الجماعة «شبه الموضوعية» في خط واحد مع الموقف العام لنيورات. إن اللجوء التام لعامل القَبول يطرح تعددية المجموعات المتضاربة للمعتقد: أيٌّ منها يكون معيارًا؟
هناك فقرات، في الحقيقة، لا يلجأ فيها نيورات إلى القبول لكنه يعترف بتعدد مجموعات متضاربة بشكل متبادل مفتوحة أمام الباحث. ليتسق الباحث مع نفسه قد لا يختار أكثر من واحدة منها، لكن لا يوجد قيد آخر على اختياره يتجاوز الملاءمة. وهكذا يكتب نيورات:
ومن المؤكد أننا نجد هنا إشارةً عابرة إلى المعقولية والقابلية، لكنها غير مفسرة تمامًا. حيث إن الاختيار بين نُظم متنافرة، يصلح كل نظام منها مثل أي نظام آخر؛ تقدم وحدها قيود الزمن والطاقة أساسًا للقرار. إن القياس مع الآلة الذي اقتبسناه من قبلُ يجعل القضية، كما يقول نيورات، «واضحةً تمامًا». تكتشف الآلة التناقض، لكن بعيدًا عن تقييد عام للغة الفيزيائية، التي قد تُفترَض، لا يوجد مبدأ للانتقاء يُقدَّم لتحديد مدخلها. يمكن لجمل البروتوكول، متميزةً فقط بشكلها، أن تُختار بشكل عشوائي للإدخال. وطالما لم يكتشف تناقض ضمن عناصر عشوائية فعليًّا، تعتبر الآلة التجسيد الحقيقي للحقيقة ومعيارها. إن الصورة صورة ترابط تام يخلو من أي أثر للحقيقة.
ماذا يدفع نيورات إلى بناء هذه الصورة الكاريكاتورية للعلم؟ إن تقديرنا لحافزه الفلسفي يعني فهمًا أعمق للورطة الأساسية التي نواجهها بين الترابط واليقين.
يبدو أن المفهوم الفعلي لمدخل معصوم إلى الحقيقة يتطلب فرضية أن التصريح والواقع قد يُحدَّدان، بمقارنة مباشرة، ليتواءما معًا. لكن هذه المقارنة خالية من المعنى من منظور نيورات.
ولا يقتصر الأمر على أن تلك النُّسَخ زائدة؛ إنها تضلِّلنا لنفترض تحديد موضعها بشكل مستقل ونرى أنها تشترك في البنية نفسها مع تصريحات لدينا طريقة أصيلة لتبرير قَبولها. لكن الحقائق، بوصفها كِيانات متميزة عن التصريحات الحقيقية، التي يُفترض أنها تُناظرها، ليس لها مسارات خاصة بها قادرة على دعم تلك الطريقة. إذا كنْتُ مترددًا بشأن حقيقة جملة «السيارة في الجراج»، أكون متردِّدًا بالقدر نفسه بشأن إن كان وجود السيارة في الجراج حقيقةً أم لا؛ لا توجد قضيتان هنا، بل واحدة. ولا أرى كيف أمضي بشأن حل التردد الأخير بطريقة تختلف عن محاولتي لحل الأول. وهكذا يتبين أن اللجوء إلى الحقائق مسألة توسل طريقة عامة لتأكيد الحقيقة. وتتطلب، حقًّا، تحديد الحقيقة بوصفها حالةً لها تأكيدُها الخاص.
الخلاصة التي يبدو أننا نُدفَع إليها أن الفكرة كلها، فكرة مقارنة المعتقدات بالخبرة مضللة. لا نذهب خارج عالم التصريحات إطلاقًا. ذلك هو استنتاج نيورات كما رأينا بالفعل، استنتاج مهما تمَّ تحفيزه ينبغي أن يُحكَم بأنه غير مقبول كتعليق للعلم.
(٣) النقط الثابتة المطلقة للعلم عند شليك
مقتنعًا بعدم إمكانية قَبول تعليق نيورات، يُصر شليك على أنه ينبغي أن تكون هناك «نقطة لا تتزعزع للتماس بين المعرفة والواقع» (ص٢٢٦). للتخلي عن «التعبير القديم الرائع «الاتفاق مع الواقع»» (ص٢١٥). وتبنَّى بدلًا منه نظريةً للترابط من قبيل تلك التي اقترحها نيورات يؤدِّي إلى نتائج لا تُحتمل.
إذا تناولنا الترابط بجدية بوصفه معيارًا للحقيقة، يمكن إذن أن نعتبر قصص الجنيات العشوائية حقيقيةً مثل تقرير تاريخي، أو تصريحات في كتاب دراسي في الكيمياء، بشرط أن تُشيَّد القصة بطريقة لا يظهر فيها أي تناقض (ص٢١٥-١٦).
وحيث إن نظرية الترابط تسمح لنا بحذف التضارب الداخلي بطرق متنوعة، مقدمةً «أي عدد من النظم المتسقة للتصريحات المتضاربة مع بعضها البعض» (ص٢١٦)، يستنتج شليك أن «الطريقة الوحيدة لتجنُّب هذه العبثية لا تتمثَّل في السماح بالتخلي عن أي تصريحات أو تُعديلها، بل في تحديد تلك التي ينبغي أن تستمر، وعلى المتبقي أن يتواءم معها» (ص٢١٦).
قد نفترض، على أساس هذا الاستنتاج، أن شليك يمكن أن يتقدَّم ليدافع عن يقين تصريحات البروتوكول، لكن الأمر ليس كذلك؛ إنه يسلِّم بأن تلك التصريحات، كما تمثِّلها التعليقات المسجلة المألوفة للملاحظة العلمية، تخضع للخطأ والمراجعة. حتى تصريحات البروتوكول التي أعلنَّاها من قبلُ يمكن سحبها. يكتب شليك:
نسلِّم بأن عقلنا في لحظة إصدار الحكم ربما كان مشوَّشًا تمامًا، وأن الخبرة التي نقول الآن إننا مررنا بها منذ دقيقتين يتبيَّن بفحص تالٍ أنها كانت هلوسة، أو حتى لم تحدث قط (ص٢١٣).
ونشعر به في اللحظة نفسها التي يحدث فيها التأكيد، التي يتم فيها تصريح الملاحظة [أي تصريح التأكيد]. وهذا بالغ الأهمية. لأن وظيفة التصريحات بشأن ما يختبر على الفور تكمن هي في التو. وقد رأينا أنه لا وقت لديها إذا جاز التعبير، أن في لحظة رحيلها ينبغي أن يتوفَّر على الفور تصريح مكان نقوشها، أو آثار الذاكرة، ويمكن أن تلعب فقط دور الفرضيات ومن ثم تفتقر إلى يقين نهائي. لا نستطيع بناء أية بنية يمكن الدفاع عنها منطقيًّا على التأكيدات؛ لأنها تتلاشى لحظة البدء في تشييدها. إذا بقيت في بداية عملية المعرفة فهي بلا فائدة منطقيًّا. ومع ذلك يختلف الأمر تمامًا إذا بقيت في النهاية؛ تكمل التحقق (أو التزييف أيضًا)، وفي لحظة حدوثها تكون قد أنجزت مهمتها. منطقيًّا لا يعتمد عليها أكثر من ذلك، ولا تستخلص نتائج منها. إنها تشكل نهايةً مطلقة (ص٢٢٢).
في الوصول بدورة اختبار إلى نهاية مطلقة، يساعد تصريح التأكيد على توجيه مسار آخر للفحص العلمي: تُرفَض فرضية زائفة ويبدأ البحث عن بديل مناسب؛ تُدعَم فرضية محققة «ويتم البحث عن صياغة فرضيات أكثر عمومية، ويستمر التخمين والبحث عن قوانين عامة» (ص٢٢٢). كان للذروة المعرفية الممثَّلة بتصريحات التأكيد، في الأصل، طبقًا لرأي شليك، مضمون عملي صرف: أشارت إلى فاعلية الفرضيات الأساسية بالنسبة لطبيعة بيئة الإنسان، وساعدت على تكيُّف الإنسان مع هذه البيئة. في العلم، لم تعد متعة التأكيد مرتبطةً ﺑ «أهداف الحياة» (ص٢٢٢)، لكنها تُلاحَق لذاتها:
هذا ما تُحدثه تصريحات الملاحظة [تصريحات التأكيد]. بها يحقِّق العلم، إذا جاز التعبير، غايته: من أجلها يوجد … تبدأ مهمة جديدة بمتعة تصل بها إلى الذروة، ولا تنشغل بالفرضيات التي تتركها خلفها. لا يعتمد العلم عليها لكنه يؤدي إليها، وتشير إلى ما أدَّى إليه بشكل صحيح. إنها النقط الثابتة المطلقة؛ يمتعنا الوصول إليها، حتى لو لم نستطع إثبات صحتها (ص٢٢٣).
ومع ذلك ماذا يمكِّن تصريحات التأكيد من تشكيل «نقط ثابتة مطلقة»؟ يتصوَّر شليك أن هذه التصريحات تحتوي دائمًا على مصطلحات توضيحية. وأمثلته هي «هنا حدود صفراء على زرقاء»، «هنا نقطتان سوداوان متطابقتان»، «هنا ألم الآن». الإيضاحات المكونة بمثابة إيماءات. «ومن ثم لفهم معنى تصريح ملاحظة [تصريح تأكيد] من هذا النوع ينبغي على المرء في الوقت نفسه تنفيذ الإيماءة، أن يشير بشكل ما إلى الواقع» (ص٢٢٥). وهكذا يرى أن المرء يمكن أن يفهم تصريح ملاحظة «فقط بمقارنته بالحقائق وعند مقارنته بها، وهكذا ينفِّذ تلك العملية الضرورة للتحقق من كل التصريحات التركيبية» (ص٢٢٥). ولفهم معناه ينبغي في الوقت ذاته إدراك الواقع الذي تشير إليه مصطلحاته التوضيحية:
بينما في حالة كل التصريحات التركيبية الأخرى أن يكون تحديد المعنى منفصلًا عن تحديد الحقيقة ومتميِّزًا عنها، يتزامنان في حالة تصريحات الملاحظة … لحظة فهمهما هي في الوقت ذاته لحظة التحقق منهما: أستوعب معناها وأنا أستوعب حقيقتها (ص٢٢٥).
باختصار، إذا تأملنا ببساطة هيكل التصريحات العلمية، نرى أنها كلها فرضيات، وكلها غير مؤكدة. وإذا نظرنا أيضًا إلى علاقة هذا الهيكل من التصريحات بالواقع يتطلب الأمر أن نعترف بالدور الخاص لتصريحات التأكيد أيضًا. ويمكننا فهم هذه التصريحات من رؤية العلم على «أنه، بالتحديد، وسيلة يعثر بها المرء على طريق وسط الحقائق؛ للوصول إلى بهجة التأكيد، الشعور بالحقيقة النهائية» (ص٢٢٦). وهذه التصريحات لا «تكمن في قاعدة العلم؛ لكنها مثل اللهب، يلعقها الإدراك، إذا جاز التعبير، يصل إلى كل منها لكن للحظة ويستهلكها على الفور. تدعم وتقوى من جديد، وينطلق اللهب إلى التالي (ص٢٢٧).
هنا بالضبط يفشل مبدأ شليك؛ لأنه يحدد تصريحات التأكيد بوصفها وحدها «النقط الثابتة المطلقة»، وهي تصريحات تفشل خارج العلم، ويصر، بالإضافة إلى ذلك، على أن هذه التصريحات لا تقدِّم أي حاجز مهما يكن لتنقيح التصريحات العلمية الحقيقية. وبشكل خاص، يؤكد شليك على أن تصريحات البروتوكول، وهي النظائر الأقرب لتصريحات التأكيد في العلم، «تتسم أساسًا بالخاصية نفسها التي تتسم بها كل التصريحات الأخرى في العلم: إنها فرضيات، مجرد فرضيات» (ص٢١٢-١٣). لدينا هنا، على ما يبدو، اعتراف واضح بأن في عالَم العلم، يستمر الترابط في السيطرة، رغم اليقين المنسوب لتصريحات التأكيد. وتنفصل الأخيرة فعليًّا بحدة عن هيكل العلم حتى إنها لا يمكن أن تقدِّم له أية مزية منبثقة من ثباتها المفترض.
وليس من السهل توضيح التعليق العام لشليك على الدور العلمي لهذه التصريحات. توصف بأن لها دورًا أساسيًّا في العمل العلمي، وخاصةً في اختبار الفرضيات والتحقق منها. «إنها تُكمل التحقق من صحتها (أو زيفها أيضًا) … منطقيًّا لا شيء أكثر من ذلك يعتمد عليها، وليست هناك نتائج تستخلص منها. إنها تشكِّل غايةً مطلقة» (ص٢٢٢). وفي تسويق النبوءات العلمية، يقال إن تصريحات التأكيد لا تقدِّم فقط إشباعًا مميزًا، لكنها تؤثر على مسار البحث التالي: «الفرضيات التي ينتهي التحقق منها تُعتبر مؤيَّدة، ويتم البحث عن صياغة لفرضيات أكثر عمومية، ويستمر التخمين والبحث عن قوانين عامة» (ص٢٢٢). وتكمن المشكلة في إمكانية أن تتصالح معًا هذه السمات المتنوعة التي تُعزى لتصريحات التأكيد.
ولأن هذه التصريحات، من الناحية الأخرى، تشكِّل غايةً مطلقة، ليس لها وظيفة منطقية حين توجد في بداية عمليات معرفية إضافية؛ حيث «ينبغي أن يوجد لحظة رحيلها تصريح متاح على الفور مكان نقوشها، أو آثار الذاكرة، يمكن أن تلعب فقط دور الفرضيات ومن ثم تفتقر إلى يقين نهائي» (ص٢٢٢). ومن الناحية الأخرى، تمكِّننا من تأييد الفرضيات التي تتحقق صحتها ورفض تلك التي تدحض، وتقودنا في الحالتين إلى القيام ببحث تالٍ بأسلوب مختلف إلى حد كبير. لكن إذا كان تصريح تأكيد يشكل حقًّا غايةً مطلقة، كيف يعمل إذن على تحديد معالجتنا الإضافية للفرضيات المناسبة؟ يبدو أن تصريحات التأكيد لا يمكن أن تصل بعمليات الاختبار إلى اكتمال مطلق دون تحديد بحث إضافي بأسلوب تعوقه مدتها الخاطفة. لكنها لو لم تصل بهذه العمليات إلى اكتمال مطلق، لا يكون لها، في رأي شليك، أية وظيفة في اقتصاد العلم.
إن مفهوم أن تصريحات التأكيد يمكن ألَّا يكون لها وظيفة منطقية بالنسبة للعمليات المعرفية التالية يعتمد على فوريتها الجذرية. إن تدوين تصريح تأكيد أو حتى الاحتفاظ به في الذاكرة، بكل دقة، مستحيل؛ لأن معنى التوضيحات الحاسمة يتغيَّر بالحفظ؛ وبالإضافة إلى ذلك، يؤدِّي حتمًا تبديل هذه التوضيحات «بتحديد زمان ومكان» إلى خلق «تصريح بروتوكول له طبيعة مختلفة تمامًا» (ص٢٢٦). لكننا قد نشعر بأن الفورية ينبغي أن تكون ذات حدين؛ إذا استُبعد الارتباط بالعمليات التالية، ينبغي بالقدر نفسه استبعاد هذا الارتباط بالعمليات السابقة. لكن شليك يعتقد، كما رأينا، بأن تصريحات التأكيد تصل بعمليات الاختبار إلى اكتمال مطلق:
هل صحَّت نبوءاتنا حقًّا؟ في حالة تحقق «تأكيد» [تصريح تأكيد] أو دحضه تكون الإجابات بشكل غير ملتبس بنعم أو لا، بمتعة الرضا أو بالإحباط. التأكيدات نهائية (ص٢٢٣).
كيف يمكن هذا؟ التنبؤ، رغم كل شيء، فرضية علمية ذات «طبيعة مختلفة تمامًا» عن طبيعة تصريح التأكيد المطروح. كيف يمكن توليد أية منفعة من يقين الأخير أكثر ممَّا يمكن لتصريح البروتوكول السابق؟
يقدِّم شليك، مثالًا للتنبؤ، «إذا نظرْتَ في وقت ما خلال تليسكوب مضبوط بأسلوب ما فسترى نقطة ضوء (نجمة) متطابقةً مع علامة سوداء (أسلاك متقاطعة)» (ص٢٢١). لنفترض أن لدينا الآن تصريح التأكيد «هنا الآن نقطة ضوء متطابقة مع علامة سوداء.» للمناقشة، نسلِّم بأن التصريح الأخير مؤكد في اللحظة الحاسمة. هل يستتبع ذلك أنه يشكل إجابةً نهائية غير ملتبسة للسؤال عمَّا إن كان التنبؤ قد جاء صحيحًا؟ لا إطلاقًا؛ لأن التنبؤ يشترط، في الفقرة السابقة، شروطًا معينة ترتبط بالأداة الفيزيائية والزمن ونشاط المراقب. إذا لم توصف الخبرة بتصريح التأكيد المفترض أنه حدث بالتوافق مع الشروط المفروضة، لا يمكن حتى الحكم بأنها ترتبط بالتنبؤ، ومن المؤكد أنها لا تفي بالحقيقة النهائية. ومن ناحية أخرى، إذا افترضنا أن هذه الشروط تم الوفاء بها حقًّا، فإن هذه الفرضية الحاسمة تساهم في الشك في التنبؤ، ولا تكون أكثر من فرضية فيزيائية. ويكون السؤال عمَّا إن كان التنبؤ صحيحًا مجرد سؤال عمَّا إن كان تصريح علمي قابل للإصلاح، وليس تصريح التأكيد، صحيحًا. إن اليقين المزعوم لتصريحات التأكيد لا يمكِّنها من تقديم اكتمال مؤكد بشكل مطلق للعمليات العلمية السابقة أكثر ممَّا يجهِّزها لتشكل أصولًا مطلقة.
وينبغي، أخيرًا، وضع اليقين المزعوم لهذه التصريحات موضع الشك. طبقًا لرأي شليك، لا يمكن أن أُخدَع في حقيقة تصريحات التأكيد التي أقدِّمها، وكما يكتب، رغم أن «احتمالات الخطأ لا تُحصى» (ص٢١٢). وكما يعبِّر «هذا هنا له معنًى فقط بالارتباط بإيماءة» (ص٢٢٥). لفهم معنى تصريح تأكيد «ينبغي على المرء أن يشير إلى الواقع بشكل ما» (ص٢٢٥). ويستتبع ذلك، في رأيه، أنني لا أستطيع فهم تصريح تأكيد دون أن أحدِّد بذلك أنه صحيح. وهنا المصدر الأساسي ليقين تصريحات التأكيد: يستلزم فهمها التحقق منها. لكن، تصور شليك للقضية يرتكز على موقف مشوش.
لافتراض التسليم بأن معنى المصطلحات التوضيحية ينبثق من وظيفتها بوصفها إيماءات، يتم بها، كما يلاحظ شليك «توجيه الانتباه إلى شيء ملاحَظ» (ص٢٢٥). وبفرض الاعتراف بأنه «لفهم معنى» تصريح تأكيد «على المرء في الوقت ذاته أن يقوم بإيماءة، ينبغي على المرء أن يشير إلى الواقع بشكل ما» (ص٢٢٥). ماذا نستنتج من هذه الاعترافات؟ إنها تتضمَّن فقط أن فهم تصريح تأكيد يتطلَّب انتباهًا إلى العناصر الملاحَظة التي تشير إليها مصطلحاته التوضيحية المكوِّنة. وبهذا المعنى وبه فقط يمكن القول بأن فهم التصريح يتضمَّن «إشارةً إلى الواقع.» ويتضمَّن هذا لا محالة أنه ينبغي أن نشير إلى الواقع بمعنًى يختلف تمامًا عن التحقق من الصفة التي يمثِّلها التصريح ككل. إن معادلة هذه المعاني يعني اقتراف مغالطة. بمجرد كشف هذه المغالطة، يتهاوى جدل شليك بشأن يقين تصريحات التأكيد: إن فهم تلك التصريحات، رغم كل شيء، لا يستوجب التحقق من صحتها. قد أفهم تصريح تأكيد وأتردَّد في قَبول حقيقته؛ والأكثر من ذلك، قد أفهم، وأؤكد حتى، تصريح تأكيد زائفًا. وهكذا يتبيَّن أن النظرية الإيجابية لشليك، بشكل لا يقل عن نظرية نيورات، يتعذَّر الدفاع عنها.
ربما يولِّد فشل هاتين النظريتين اليأس؛ لأنه يبدو أنهما تستنفدان، فيما بينهما، احتمالات التعامل مع المأزق الأساسي بين الترابط واليقين. ينبغي أن تكون بعض معتقداتنا صحيحةً حقًّا بشفافية وتتجاوز مجال الخطأ والتنقيح، أو نكون أحرارًا في اختيار أية مجموعة متسقة من المعتقدات مهما تكن باعتبارها معتقداتنا، ونعرِّف «الصواب» أو «الحقيقة» طبقًا لها. ونفترض أن معتقداتنا تعكس الحقائق، وفي هذه الحالة نسلم بمسألة الحقيقة ذاتها ونُسقط لغتنا بشكل غير مبرر على العالم، أو نتخلَّى تمامًا عن نية وصف الواقع، وفي هذه الحالة تتقلَّص جهودنا العلمية إلى مجرد لعبة بالكلمات.
(٤) طريق ثالث
رغم هذا التقييم المحبط أومن بإمكانية تجنُّب اليأس. أرفض اليقين، ومن المحتمل أن أعتنق المضمون المرجعي للعلم، أن أفرض قيودًا مؤثرة على الترابط الذي لا يحتاج إلى التسليم بمسائل تتصل بالأمر أو ملء العالم بنسخ باهتة من لغتنا.
أعود أولًا إلى التضاد الجوهري بين الترابط واليقين. رأينا أن هذا التضاد مركزي في تفكير كل من نيورات وشليك، اللذين يتبنيان موقفين متناقضين. لكن، شليك ونيورات يتفقان في ربط الإشارة خارج اللغة باليقين بحسم، من ثم يشتركان في تقليص البدائل المؤثرة إلى اثنين: (١) رفض اليقين، واللجوء إلى الإشارة خارج اللغة، والإذعان لمنظور الترابط، (٢) رفض منظور الترابط لصالح اللجوء إلى الإشارة خارج اللغة، والاذعان للالتزام باليقين. لكن ينبغي رفض هذا التقليص نفسه. ليست هناك حاجة إلى افتراض أن البدائل تُستنفد بالترابط واليقين؛ ثمة طريق ثالث مفتوح.
من الواضح أن الترابط الداخلي شرط ضروري لكنه غير كافٍ لحقيقة نظام … ويُدَّعى أنه ينبغي أن يكون هناك ارتباط بالحقيقة من خلال بعض التصريحات الفورية.
النقطة الجوهرية بالنسبة لأهدافنا الحالية هي: بينما يتعذر الدفاع عن اليقين إلا أنه مفرط أيضًا بوصفه قيدًا على الترابط. ولا يتطلب مثل هذا القيد أن نضمن بقاء جملة من الجمل التي نؤكِّدها محصنةً ضد التنقيح إلى الأبد؛ يكفي أن نجد أنفسنا الآن مكرهين، بدرجات مختلفة، على تأكيدها والإبقاء عليها، ساعين قدر المستطاع إلى تلبية كل المتطلبات الحالية لها. وتتنوَّع المتطلَّبات الحالية بالنسبة للتصريحات المختلفة حتى لو كانت متسقةً بالقدر ذاته، ويمكن أن نميِّز، وإن يكن بشكل تقريبي، خصائص المصداقية والمحافظة للنظم المترابطة البديلة، بما يكفي لتقديم قيد مهم على الترابط.
إن ادعاءات الجمل في وقت معين تُصدر الحكم المنهجي في ذلك الوقت، فتكبح عشوائية الترابط. إن التخلي عن الجملة في وقت لاحق لا يعني أن ادعاءها الحالي ضدنا أننا قد نتجاهلها بسعادة. إن فكرة أن مجرد الاعتراف بأن تصريحًا يمكن تنقيحه نظريًّا، لا يمكن أن تحمل أية قيمة معرفية لا تُستساغ أكثر من الاقتراح بأن رجلًا يفقد صوته الانتخابي بمجرد أن يتبيَّن أن القواعد تجعل من المحتمل أن يكون صوته مجرد صوت زائد في الجانب الفائز.
يمكن، مثلًا، تحدِّي توقع الملاحظة أقنعنا بنظامنا المُرْضِي حتى الآن، بملاحظة تجريبية تزيد بشدة مصداقية تصريح غير متوافق مع هذا التوقع، ويقلص جذريًّا مصداقية التوقع نفسه. وتتمثَّل المشكلة في تحديد البديل المتسق الذي يُحدث توازنا أشمل لادعاءات المصداقية ذات الصلة. إن إسقاط التوقع الأولي لصالح التصريح المتنافر والأكثر مصداقيةً يتطلَّب مراجعةً منهجية داخلية في أمر الاتساق. إن استبعاد التصريح المتنافر وإبقاء النظام سليمًا يخفض قيمة المصداقية الكلية للأخير؛ لأن فقدان مصداقية توقعه الأساسي ينعكس للداخل. لكل حل لصدام، باختصار، ثمن. وفي بعض هذه المواقف، قد يكون الاختيار سهلًا نسبيًّا؛ وفي بعضها الآخر قد يكون دقيقًا إلى أبعد حد، وقد يستعصي على الحل في بعض الظروف.
ومن الواضح أننا لسنا بحال من الأحوال أحرارًا ببساطة في أن نختار بإرادتنا من بين كل النظم المترابطة مهما تكن. ومن الواضح، بالإضافة إلى ذلك، أن التحكم الذي تمارسه تصريحات الملاحظة لا يتعلَّق باليقين. إنه لا يتطلب إلا أن تكون المصداقية التي تكتسبها في أوقات معينة قادرةً على أن تتحدَّى، بالطريقة التي وُصفت من قبل، التوقعات المنبثقة من مصادر أخرى. ينطلق التحكم، بالإضافة إلى ذلك، من روابط مميزة بأي نوع خاص من التصريحات وينتشر خلال عالم التصريحات ككل.
(٥) الحقيقة والواقع
ما يُقال الآن يتناول المفاهيم الصعبة للحقيقة والواقع. رفض بعض الفلاسفة ومنهم نيورات، متجنبين اليقين، أي حديث عن الواقع والحقيقة، مشيرين إلى أن اللجوء إلى مقارنة فورية مع الحقائق بوصفها طريقةً لتأكيد الحقيقة بأنها مسألة تعسُّف، وأن الحقائق، مشيدة حرفيًّا بوصفها كِيانات، مجرد نسخ باهتة للجمل الحقيقية، تشكِّك في كل تفكير في الإشارة الخارجية، كما تتجسد في الحديث الساذج فلسفيًّا عن الواقع والحقيقة، وفي الحديث الساذج كما في الحديث العميق عن الحقيقة. ومثل هذا النزوع إلى الشك يؤدِّي إلى صعوبات مستعصية؛ لأن العلم، دون إشارة خارجية، لا يكون له هدف. إذا بقينا في دائرة التصريحات تمامًا، نقع في فخ لعبة الكلمات، ولا يمكن لها أن تُرضي نيورات تمامًا (كما تدل على ذلك إشارته إلى العلم بوصفة أداةً للحياة). إن مبدأ نيورات، بشكله المتطرف يثير بشكل مفهوم نوعًا من النقد الذي يقدمه راسل.