الفصل الرابع عشر
سِمات العالم واعتماد الخطاب١
أقدِّم الآن بعض التعليقات الإضافية على خلافي مع
نيلسون جودمان فيما يتعلق بصناعة العالم.
٢ وأبدأ أولًا بملاحظة تمهيدية: لا أحب
كثيرًا المصطلح المائع «العالم
world» ولا أريد أن
أبدو وكأنني أدافع عن مبدأ ما عن العالم، أجادل بأن
هناك حقًّا عالمًا واحدًا، أو بأن العالم محك
الحقيقة، أو أنه مستقل عن العقل … إلخ. لا ينبغي أن
أعبِّر عن قناعاتي الفلسفية باستخدام هذا المصطلح
بطريقة بدائية وحرْفية وجوهرية. إشاراتي التي
تستخدم المصطلح موجهة تمامًا، في مسار نقدي، إلى
استخدامات جودمان، أو بشكل آخر تستثمرها مصطلحات
تدل على كِيانات أكثر محدودية ومفهومة أكثر؛ لهذا
قدمت الإشارة إلى النجوم، التي يمكن أن تقال بشأنها
أشياء صحيحة علميًّا؛ مثلًا، لم تكن النجوم على أية
حال من صنع الإنسان.
ثمة نقطة
تمهيدية أخرى: لا أفند النسبية أو التعددية،
المقدَّمَين في كتاب جودمان «بنية المظهر»،
٣ بالنسبة له، بافتراض أية مادة قبل
فلسفية، من المرجح أن تتضارب خلال تنظيم كافٍ، وتقع
نقاط التضارب في منطقة «عدم الاهتمام». إن وجود مثل
هذا التنظيم يشكل أساس اعتناق جودمان للتماثل
الامتدادي بدلًا من الهُوية معيارًا لكفاءة ما
يسمِّيه «نظم إنشائية». ومن ثم لا يُقر تعريف منهجي
للنقط بوصفها فئات معينةً من الخطوط أن النقط
متماثلة مع هذه الفئات، لكنه يُقر فقط أنها فيما
يتعلق بهدفنا في الحفاظ على بعض «الاهتمامات» قبل
الفلسفية، لا تحتاج إلى البناء بوصفها لا تتماثل
معها. ويمكننا أن نقول، بشكل متناغم، شيئًا مماثلًا
عن تعريف منهجي متناقض للنقط بوصفها فئات معينة من
الأحجام. لا يوجد، في هذا النوع من التعليق في
«بنية المظهر» أي حديث عن العوالم، وبالتأكيد لا
يوجد حديث عن صناعة العالم، رغم تألق الشكل ذاته من
النسبية.
ما أنتقده في بحثي ليس تلك النسبية، لكن الحديث
التالي المتراكم عن العوالم وصناعتها، مشيَّدًا
«شيئيًّا» وليس «نسخيًّا» ببساطة. لا أجد صعوبة في
اعتبار العوالم مصنوعة،
إذا كنَّا نعني ﺑ «العوالم» نسخًا. لكن
لا يمكن فهم كيف يمكن أن نفترض أن العوالم مصنوعة،
إذا كنَّا نعني ﺑ «العوالم» أشياء «استجابة لنسخ
حقيقية» — تشمل، كما يقول جودمان، «المادة، أو
المادة المضادة، أو العقل، أو الطاقة، أو ما ليس
كذلك — مصممة مع النسخ نفسها.»
٤ لا يعرِّف جودمان «العالم» في كتابه،
ويستخدم المصطلح بشكل ملتبس، راسمًا ما يمكن فقط أن
أعتبره قدرًا غير مريح من الحقيقة المزعومة بأن
حديث الفيزيائيين ملتبس أيضًا. لكن حين يصر على أن
العوالم مصنوعة حرفيًّا في
كلٍّ من التفسيرين اللذين يقدمهما
لادعائه، أستنتجُ أنه لا يمكن أن يتجنب الزيف
الصريح إلا بهذا التفسير غير الطبيعي ﻟ «مصنوع»
يحدث ضررًا فلسفيًّا شديدًا. يقدم بحثي مجموعةً
متنوعة من الاعتبارات دعمًا لرأيي، ويرد جودمان
بخمسة ردود رئيسية.
٥
أولًا، يعترف بالالتباس في استخدامه لمصطلح
«العالم»، مجادلًا بأن التفسيرين الشيئي والنسخي،
من خلال التضارب، صحيحان بالقدر نفسه وبشكل قابل
للتبادل غالبًا. لكنني لا أعترض على مجرد الالتباس،
الذي يمكن كقاعدة أن ينجلي باهتمام كافٍ وتحسين
للمصطلحات.
ثانيًا، يقول:
لا يمكن أن نجد سمةً للعالم مستقلةً عن كل النسخ.
مهما يكن ما يقال بشكل صحيح عن اعتماد العالم على
القول — ليس مهما يكن ما نقوله صحيحًا ولكن مهما
يكن ما نقوله بشكل صحيح … يتشكل رغم ذلك باللغة، أو
أي نظام رمزي آخر نستخدمه، ويرتبطا بها. لا يمكن
رسم خط قاطع بين سِمات العالم التي تعتمد على
الخطاب وتلك التي لا تعتمد عليه (ص٤١).
المشكلة في هذا الرد أنه يلجأ إلى مفهوم السمة.
لكن ما السمة؟ أفترضُ أنه بالنسبة لاسميٍّ
٦ مثل جودمان، لن تكون السمات خصائص أو
فئات بل مصطلحات أو مسندات، تشيَّد بوصفها رموزًا
من نوع ما أو تتكون منها. ومن ثم، بالطبع، يكون من
الواضح أن السمات تعتمد على القول؛ أي تُجلب بعملية
إنتاج الرموز. ومهما يكن ما نقول، سواء كان
حقيقيًّا
أو
زائفًا، فسوف يعتمد بهذا المعنى على القول،
ويتشكَّل بلغتنا أو رمزيتنا ويتعلَّق بهما. لكن،
سواء كانت سمة، أو مسندًا، من صنعنا
منعدمةً أو غير منعدمة، لا
يعتمد بالطريقة نفسها على القول. ويوافق جودمان على
استقلال صحة التصريح أو عدم صحته عن القول. وهكذا
إذا كان جودمان يعني بسمة
للعالم سمةً غير منعدمة، من ثم تستقل
عن نسختنا أية سمة تمثِّل سمةً للعالم. لا تعتمد
حالتها
بوصفها
سمةً للعالم على الخطاب.
ثالثًا، يقترح جودمان أن من التضليل افتراض «أنه
مهما يكن ما نصنعه يمكن أن نصنعه كما نحب» (ص٤١).
وأتفق على رفض هذه الفرضية. ومن المؤكد أنني لا
أُنكر صعوبة صناعة نسخة حقيقية أو صحيحة. ما أُنكره
أننا بصناعة نسخة حقيقية نصنع ما تشير إليه.
في «صناعة العالم» يتحدَّث جودمان عن «العوالم
الفعلية التي تصنع بالنسخ الحقيقية أو الصحيحة
وتأتي استجابةً لها.»
٧ لا تأتي استجابة العالم لنسخة من
صنعنا، عمومًا، كما نشاء. إذا كان «العالم الفعلي»
استجابةً لنسخة من صنعنا، من الصعب أن نفترض أننا
صنعناها. بالإضافة إلى ذلك، إذا تبيَّن أن نسخةً من
صنعنا حقيقية، من الصعب استنتاج أننا صنعنا
موضوعها. لم يصنع باستير أو نسخته من نظرية
الجراثيم البكتريا التي افترضها، ولم يخلق آدمز وليفيريه
٨ أو حساباتهما الدقيقة نيبتون.
رابعًا، يسألني جودمان «عن سمات النجوم التي لم
نصنعها» (ص٤٢) ويتحداني «أن أُعلن كيف تختلف هذه
السمات عن تلك التي تعتمد بوضوح على الخطاب» (ص٤٢).
من المؤكد أننا صنعنا الكلمات التي نصف بها النجوم،
وأن اعتماد هذه الكلمات على الخطاب حقيقي بشكل
تافه. لكن حقيقة أن كلمة «نجم» ليست منعدمة المدلول
ليست بالتالي من صنعنا؛ لا يتضمن اعتمادها على
الخطاب أن صناعتنا لها سبب وجود النجوم، أو
باختصار، صناعتنا للنجوم: لا يتضمن أن
النجوم نفسها تعتمد على
الخطاب. يكتب جودمان، في «لغات الفن»، «يمكن
استخدام حزينة لصورة رغم عدم استخدام أحد لهذا
المصطلح لوصف الصورة؛ ووصف الصورة بالحزن لا يجعلها
حزينةً بحال من الأحوال.»
٩ وبشكل مماثل، يمكن استخدام «نجم» لشيء
ما رغم عدم استخدام أحد لهذا المصطلح لوصفه، وتسمية
شيء نجمًا لا يجعله نجمًا بحال من الأحوال.
أخيرًا، يحاول جودمان تبديد عبثية افتراض أننا
صنعنا النجوم بحجة أننا صنعنا «فضاءً وزمنًا
يحتويان تلك النجوم … إننا نصنع نجومًا كما نصنع
مجموعةً من النجوم، بوضع أجزائها معًا وتحديد
حدودها» (ص٤٢). أرى هذا غير مقنع بشكل غريب. من
المؤكد أننا صنعنا المخططات العلمية التي نصوغ بها
الأوصاف الزمنية والمكانية، لكن القول بأننا
بالتالي صنعنا الفضاء والزمن ليس أقل لامعقولية من
القول بأننا صنعنا النجوم. لم نصنع الدب الأكبر أو
الجوزاء بمجرد تعريف حدودهما الخاصة.
يخلص جودمان إلى القول:
الصناعة هنا ليست باليد بل بالعقل، أو باللغات أو
النظم الرمزية الأخرى. لكنني حين أقول إن العوالم
مصنوعة، أعني ذلك حرفيًّا … من المؤكد أننا نصنع
نسخًا، والنسخ الصحيحة تصنع عوالم (ص٤٢).
يوحي هنا أن نقدي لصناعة العالم يراها عمليةً
فيزيائية لا عملية رمزية.
لكن حجتي مستقلة تمامًا عن هذا التناقض. دعواي
أننا بأي فهم عادي للكلمات لم نصنع النجوم، سواء
باليد أو العقل أو الرمز. من المؤكد أننا نصنع
أشياء بالعقول؛ وهكذا نصنع كلمات ورموزًا ونسخًا.
وتتمثل القضية فيما إن كُنا بصناعة أوصاف النجوم
نصنع نجومًا أيضًا. أنا أقترح، كما يفعل جودمان،
أننا قد يقال إننا نصنع شيئًا ما حينما نبتكر وصفًا
حقيقيًّا له محتمل بالتأكيد، حتى لو كان غير طبيعي
على نطاق واسع؛ من المؤكد أننا يمكن أن نصنع لغةً
ونعني أي شيء نريد منها أن تعنيه. لكن مثل هذه
الفرضية تبدو لي مؤذيةً بشكل غير عادي باستدعاء
الارتباك والمفارقات وسوء الفهم، وتشجِّع على التطوُّعية
١٠ المفرطة. وتطمس التمييز العادي بين
صناعة طبق أومليت وكتابة وصفة لها. بدلًا من قول
جودمان «إننا نصنع نسخًا، والنسخ الصحيحة تصنع
عوالم»، يمكن أن أتبنَّى الشعار «إننا نصنع نسخًا،
والأشياء (التي يصنعها الآخرون أو نصنعها أو لا
يصنعها أحد) تجعلها صحيحة.»