الأدوار الجنسية والتصورات النمطية
هل لدَينا أدوار «اعتيادية» للذكر والأنثى؟ عادةً ما نشير إلى الأدوار الجنسية في البشر باعتبارها الصفات التي تُعد مناسبةً لكل جنسٍ من الجنسَين، وندرك أن مكونات هذه الأدوار تتأثر بالثقافة السائدة في المجتمع. على سبيل المثال، في القرون الماضية، مُنعَت النساء من السعي وراء فرص التعليم العالي في أجزاءٍ كثيرة من العالم؛ نظرًا لأن هذا النوع من التعليم كان يُعتبر غير لائق بالإناث وانتهاكًا لدورهنَّ الطبيعي، غير أن هذا التوجُّه تغيَّر الآن في بعض الدول على الأقل. وتشير مراجع كثيرة، عن الأدوار الجنسية العصرية للبشر، إلى أن التصوُّرات النمطية عن كِلا الجنسين — مثل أن النساء يتحدَّثنَ أكثر من الرجال، وأن الرجال يواجهون صعوبةً في التعبير عن مشاعرهم — بإمكانها تقيد سلوكياتنا، وأن يكون لها أيضًا تداعيات اجتماعية وسياسية.
ماذا عن الأنواع الأخرى؟ هل هناك دور نمطي للذكر أو الأنثى في الحيوانات، يمكن أن يُشكل أصل الاختلافات بين الجنسَين من بني البشر؟ تفيد إحدى صيغ الأدوار الجنسية بأن الذكور عمومًا مهيمنون والإناث خاضعات، وذلك انطلاقًا من الطريقة التي يدعم بها الانتخاب الجنسي سلوكيات مختلفة في كِلا الجنسَين. وقد يعني هذا بدوره أن الانتخاب الجنسي يُملي سلوكيات مُعينة على الذكور والإناث. ولكن في الواقع، تتنوَّع طبيعة السلوك الجنسي على نحوٍ استثنائي؛ وإن كان هذا لا يعني أننا لا يمكننا كشف أنماط كل من الشكل الخارجي والسلوك في كِلا الجنسَين.
التمنُّع في مقابل التلهف
كالعادة، يمكننا أن نبدأ فَهْم الأدوار الجنسية مع داروين، الذي وثَّق بدقة السلوكيات والمظهر الخارجي للذكور والإناث في كثيرٍ من الأنواع المختلفة للحيوانات في كتاب بعنوان «نشأة الإنسان». من المعروف أنه وصف الإناث ﺑ «التمنع» والذكور ﺑ «التلهف» عندما يتعلق الأمر بالجنس، وهذا التصنيف — الذي قد يعكس الأعراف الاجتماعية السائدة في تلك الفترة بقدْر ما يعكس الحقائق البيولوجية — أثَّر على علماء الأحياء اللاحِقين، كما ذكرنا في الفصل الأول. وتحديدًا، اقترح أنجوس بيتمان، الذي ذكرنا أبحاثه على ذبابة الفاكهة في الفصل الأول، أن الإناث بوجهٍ عام لا تستفيد من التزاوج بأكثر مما هو لازم لتخصيب بيضها، في حين تواصل الذكور زيادة كفاءتها أو صلاحيتها من خلال السعي وراء أكبر عددٍ ممكن من فرص التزاوج. وتوصل بيتمان إلى استنتاجاته من كل من مؤلفات داروين ومن تجاربه الخاصة على ذباب الفاكهة. لذا رأى أن الانتخاب الجنسي يؤثر بقوة على الذكور أكثر من الإناث. وقد طوَّر بعض العلماء هذه الفكرة أكثر، ولعلَّهم ما زالوا يصنفون أنماط السلوكيات التي تشكل الأدوار الجنسية بوصفها إمَّا «تقليدية» أو «معكوسة»، حيث تتصف الإناث في الحالة الأولى بكونهن مُدقِّقات في الاختيار، بل ومتردِّدات، بينما الذكور مستعرضون وتنافسيون، وفي الحالة الثانية يظهر النمط المعاكس.
كان لبيتمان تأثيره على اختصاصي آخر مُهم بعلم الأحياء التطوري، هو روبرت تريفيرس، الذي أوضح في بحث مهم نُشر في عام ١٩٧٢ أننا لسنا مضطرين لأن نناقش التمنع والتلهف لتفسير الأنماط الاعتيادية للقدرة التنافسية من جانب الذكور والانتقاء من جانب الإناث. وعوضًا عن ذلك، لاحظ تريفيرس أن الإناث والذكور يختلفون بالفطرة بسبب طريقة استثمارهم للموارد والجهد في الجيل التالي، أو ما أطلق عليه تريفيرس الاستثمار الأبوي. فالإناث مقيدة بعدد الذرية التي يمكنها إنجابها وتنشئتها بنجاح. ونظرًا لأنها الجنس الذي يقدم بيضًا غنيًّا بالمغذيات، وعادةً ما تكون الجنس الذي يرعى الصغار، فإنها تورث أغلب الجينات إلى الجيل التالي من خلال إنجاب صغار بأعلى جودة ممكنة. قد يكون من المهم جدًّا انتقاء الذكر الذي تقترن به؛ لأن أي خطأ يتجلى في وجود جينات ضعيفة أو تملص من المساعدة في رعاية الصغار قد يعني أنها خسرت كل جهودها للتناسُل على مدار سنة كاملة.
أمَّا الذكور، من ناحية أخرى، فتستطيع أن تورث معظم الجينات إلى الجيل التالي من خلال تخصيب أكبر عدد ممكن من الإناث. ونظرًا لأن كل تزاوج يتطلب قدرًا قليلًا نسبيًّا من الاستثمار من جانبه، فإن الذكر الذي يتزاوج بالكثير من الإناث ينجب عددًا أكبر بكثير من النسل مقارنة بالذكر الذي يقترن بأنثى واحدة فقط. ومن ثم، يُتوقَّع أن تتنافس الذكور فيما بينها للوصول إلى الإناث، وأن تدقق الإناث في اختيارها، وأن تقترن بأفضل ذكر ممكن. وفي بعض الحالات، وبناءً على نوعية الاستثمار المُقدم، ربما يدقق الذكور، لا الإناث، في اختياراتهم، وربما تتسم الإناث بالتنافسية، كما سنرى في هذا الفصل.
بالطبع، هذا هو نفس تقسيم الانتخاب الجنسي الذي اقترحه داروين بالأساس؛ إلا أن تريفيرس منحه تبريرًا منطقيًّا جديدًا. وكذلك سلط الضوء مرة أخرى على أهمية الانتقاء من جانب الإناث في الانتخاب الجنسي، واقترح ميزة أساسية حديثة أكثر لها. علاوة على ذلك، تقدمت الأفكار بخصوص تطور سلوك الحيوان لدرجة أنه لم يَعُد أحدٌ يقلق بخصوص «الحس الجمالي» لدى الحيوانات؛ فلم يَعُد يهم «كيف» ترى الإناث ذكورًا مُعينة، وحتى وإن فعلت، فإن جينات السمة التي تنجذب إليها الإناث قد تُصبح أكثر انتشارًا في المجموعة. وطرح اختصاصي علم الأحياء التطوري جورج ويليامز أفكارًا مشابهة في كتاب «الجنس والتطور»، المنشور في عام ١٩٧٥م.
أما بخصوص صفة التمنع، فليس بالضرورة أن تحجم الإناث عن التزاوج أو تظهر ترددًا واضحًا أثناء فترة التودُّد والمغازلة؛ فكما ناقشنا في الفصل الثاني عن أنظمة التزاوج، فالإناث من نطاق واسع من المجموعات الحيوانية تتزاوج عدة مرات أكثر مما هو ضروري لتخصيب بيضها، وعادة ما تتزاوج مع عدة شركاء حتى في الأنواع التي من المفترض أن تكون أحادية التزاوج. ويُعد أقرب أقربائنا من الكائنات الحية، الشمبانزي والبونوبو، أوضح مثال على التزاوج المتعدد من جانب الإناث، بل إن الإناث تستعرض أعضاءها التناسلية المزدانة بألوان زاهية أمام الذكور، وهو شيء لا يبدو أن داروين أدركه. إضافةً إلى ذلك، عندما يُشير العلماء إلى «الدور الجنسي»، فقد يقصدون بذلك أي جنس يُدقق في اختيار شريك التزاوج، وأي جنس يؤدي الرعاية الأبوية، وأي جنس يبادر بالتودُّد والمغازلة أو يتمتَّع بخصائص جنسية ثانوية أكثر تطورًّا، أو مزيجًا من هذه المهام. وتحديدُ أي الأدوار تقليدية، وأي منها أدوار معكوسة، مرهونٌ بنوع الحيوان الذي نناقشه. على سبيل المثال، في الأسماك يرجَّح أن تعتنيَ الذكور بالنسل مثلما تفعل الإناث، ومن ثم لا تُعد الرعاية الأبوية الذكورية خروجًا عن المألوف. من ناحية أخرى، في أنواع مُعينة من الطيور الساحلية، تضع الإناث حضنة بيض مخصبة من ذكَر مُعين ثم تترك البيض للأب الذي يحتضنه ويحميه بعد الفقس. ومن الممكن أن توصَف الأنواع التي تسلك هذا السلوك الأخير بأنها تظهر دورًا جنسيًّا معكوسًا، لأن الذكر عادةً ما لا يلعب دورًا بارزًا في الرعاية الأبوية في الطيور.
ولكن في ضوء هذه المحاذير، لا يزال بوسعنا أن نلاحظ عبر المملكة الحيوانية أنماطًا ناتجة عن اختلاف آلية عمل الانتخاب الجنسي في الذكور والإناث. فقد وجدت دراسة أُجريت على ٦٦ حيوانًا، تتنوَّع ما بين اللافقاريات والثدييات، أن الانتخاب الجنسي يعمل فيما يبدو على نحوٍ أشد في الذكور، وأن هذا الاختلاف في الشدة يعني أن زينة الذكور يرجَّح أنها لافتة أكثر مقارنةً بالإناث. وهذا النمط يتوافق مع أفكار داروين وبيتمان، وإن لم يَكُن ضروريًّا الإشارة إلى تمنُّع الإناث في سلوكهن.
عندما تُعكَس الأدوار
تكمن إحدى أفضل الطرق لمعرفة ما إذا كانت التعميمات بشأن الصفات المُتوقَّع ظهورها بنجاح على كل جنس في النظر ليس إلى الذكور أو الإناث في حد ذاتها، وإنما النظر إلى أنماط الاستثمار التي يحكمها الانتخاب الجنسي، حسبما اقترح تريفيرس. والمتغير الأساسي هو كيف يورث أفراد جنس معين أغلب الجينات إلى الأجيال التالية. وربما يحدث هذا عندما يتَّسِم الذكور بالتنافسية وتتَّسِم الإناث بالتدقيق في الاختيار، وهو نمط أوضح بيتمان أنه نمطي، والعكس صحيح.
تعني هذه التكلفة الباهظة للهدية أن الذكر لا يستطيع التزاوج مرات عديدة متتالية؛ لأنه بحاجة إلى الوقت والطاقة لتعويض مخزونه. وتعني أيضًا أن الذكر يمكنه الاستفادة لا من خلال المنافسة المعتادة على الوصول إلى الأنثى؛ وإنما من خلال التدقيق في اختيار الإناث التي يتزاوج معها. والواقع أنه في أنواع كثيرة من النطاطات الطويلة القرون، يفضل الذكور التناسُل مع أسمن الإناث، التي من المرجح أن تحمل بيضًا أكثر ومن ثم تُنجب للذكر عددًا أكبر من النسل. وفي المقابل، ربما تتنافس الإناث على الوصول إلى الذكور. إذا تغيرت كمية الغذاء المتاحة في البيئة، قد يتغير سلوك كِلا الجنسين أيضًا؛ فعندما يكون الغذاء وفيرًا، لا تتنافس الإناث كثيرًا على الذكور وتستطيع الذكور إنتاج هدايا عُرس بوتيرة أكبر، بينما في فترات الشح والندرة، يكون العكس صحيحًا، وتصبح المنافسة بين الإناث على أشدها. ويوضح هذا الموقف نموذج تريفيرس للانتخاب الجنسي من منظور الاستثمار الأبوي؛ نظرًا لأن الإناث في هذه الحالة تستثمر في أي عملية تزاوج بدرجةٍ أقل من الذكور عندما يكون الغذاء شحيحًا.
خضع مثال، ربما يكون أكثر غموضًا، على الدور الجنسي المعكوس للدراسة على خنافس صغيرة تعيش داخل البذور تُسمى خنافس شجرة خروب العسل. تكون إناث هذه الخنافس في البرية نشطةً أثناء فترة التودد والمغازلة وتكون الذكور مُدققة في الاختيار، وربما تنبذ الإناث التي تحاول التزاوج معها. وكما هو الحال في جندب النطاط الأمريكي، يقدم ذكر خنافس شجرة خروب العسل هدية عُرس مُغذية بالإضافة إلى السائل المنوي. وتستطيع الإناث أن تتزاوج بوتيرةٍ أكبر من الذكور لأن الذكور بحاجة إلى وقتٍ لتعويض هذه الهدايا. أخذ الباحثون مجموعات مختبرية من الخنافس وأخضعوها إلى «تطور تجريبي»، حيث كان في بعض المجموعات خمس إناث جاهزة للتزاوج لكل ذكر جاهز للتزاوج والعكس صحيح للمجموعات الأخرى؛ أي خمسة ذكور مقابل أنثى واحدة. وهكذا، خضعت الأخيرة لانتخابٍ متمهل من جانب الأنثى المتلهفة على التودُّد والمغازلة؛ نظرًا لأن عدد الذكور — وكذلك هداياها — كان وافرًا.
وبعد ١٩ جيلًا خضع لهذه المعالجات، خضع ذكر وأنثى الخنفساء من كل مجموعة على اختلاف أنواعها إلى الملاحظة بعد اقتران كلٍّ منهما بخنفساء من الجنس الآخر من مجموعة لم تخضع لأي معالجة. ضاعفت الإناث في المجموعات التي تسيطر عليها الإناث مجهوداتها في التودد والمغازلة، مما جعلها أكثر جاذبية بالنسبة إلى الذكور. وما أثار الدهشة إلى حدٍّ ما، أن الذكور لم تكتسب الكثير من الفوارق في سلوكها بعد التطور التجريبي. ولم يكن تعريض الخنافس لظروف ندرة أو وفرة الغذاء أمرًا مهمًّا كما كان يظن العلماء؛ ففيما يبدو أن المواد في هدايا العُرس تصنعها ذكور الخنفساء بنفسها وتوفير المزيد من الطعام لا يعوض الموارد المكتسبة أثناء التزاوج.
ربما يعتمد تصنيف الأدوار الجنسية، سواء أكانت تقليدية أم معكوسة، على الظروف البيئية، حتى داخل نفس النوع. ففي أحد أنواع الأسماك البحرية، وتُدعى سمكة الجوبي ذات الرقعتين، تعتني الذكور بالبيض، وقد تودع أكثر من أنثى واحدة بيضها لدى ذكر معين. ولا تُشكِّل مثل هذه الرعاية الأبوية من جانب الذكر في حد ذاتها دورًا جنسيًّا معكوسًا، كما رأينا. فلربما ينبذ كلا الجنسين محاولات التزاوج من جانب الآخر، ولكن في وقت مبكر من موسم التزاوج، تكون كثافة الذكور مرتفعة نسبيًّا، وتدقق الإناث في الاختيار؛ أمَّا في وقتٍ لاحق من العام، فتصبح الذكور أكثر ندرة، وربما تتنافس عدَّة إناث على الذكر نفسه. ويتزين كِلا الجنسَين وربما يؤديان استعراضات التودُّد والمغازلة، ويحدث انتقاء متبادَل للتزاوج. لذا فإن الأدوار الجنسية مرنة، وتتخذ أشكالًا مختلفة في أوقات مختلفة من العام.
عندما يؤدي فرد واحد الدورَين معًا
يُعد الكائن الخنثوي أو ثنائي الجنس، وفيه يتمتع فرد واحد بأعضاء جنسية ذكرية وأنثوية، حالة مرجعية مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى الكثير من أفكارنا عن الانتخاب الجنسي والأدوار الجنسية. نرى الكائنات الخنثوية في الكثير من النباتات، حيث تنتج الزهرة نفسها حبوب اللقاح والبيوض (بيضات)، إلا أنها موجودة أيضًا في مجموعة متنوعة من الحيوانات، لا سيما اللافقاريات. وربما تكون الخنوثة متعاقبة، بمعنى أن الأفراد تغير جنسها خلال فترة حياتها، مثلما تفعل بعض الأسماك والرخويات ونجوم البحر، أو ربما تكون متزامنة، بمعنى أن الأعضاء الجنسية بنوعيها تُوجَد في فردٍ واحد على نحو متزامن، كما هو الحال في ديدان الأرض وبعض أنواع البزاقات.
ورغم أن الكائنات الخنثوية قد تبدو كما لو أنها حلَّت مشكلة التزاوج، وأن التنافس الجنسي غير مرجَّح في مثل هذه الحيوانات، فقد لوحظت جميع خصائص الانتخاب الجنسي تقريبًا، بداية من التنافس على شركاء التزاوج وصولًا إلى تطوير مظاهر الزينة الجنسية الثانوية، لدى الكائنات الخنثوية. فمن النادر أن يزاوج الكائن الخنثوي بين حيواناته المنوية وبويضاته لينجب ذرية؛ فهذا الإخصاب الذاتي، كما يُسمى، يمكن أن يتسبب في ظهور طفرات جينية ضارة، كما هو الحال عندما يتزاوج الأقارب المقربون وينجبون ذرية. وبدلًا من ذلك، تبحث أغلب الكائنات الخنثوية عن شركاء تزاوج ثم تتصرف إمَّا كفرد متبرع بالحيوانات المنوية أو متبرع بالبويضات، بينما يتولى الفرد الآخر الدور المكمل.
ونظرًا لأن إنتاج الحيوانات المنوية أقل تكلفة عمومًا من إنتاج البويضات، فإنه يُقال أحيانًا إن الكائنات الخنثوية المتزامنة تستفيد دومًا إذا استطاعت أن تلعب دور الذكر عند محاولة التزاوج بفردٍ آخر من النوع نفسه. وبالفعل في بعض أنواع الديدان المسطحة البحرية، يتخلص الأفراد على نحوٍ نشط من الحيوانات المنوية التي يستقبلونها من فُرَص تزاوج سابقة بمجرد تخصيب البويضات، ثم يواصل الفرد التزاوج كمتبرعٍ بالحيوانات المنوية. وتنخرط ديدان بحرية أخرى في «مبارزات» بقضبانها يحاول فيها كل شريك من الشريكين تخصيب الآخر، ويحاول في الوقت ذاته الإفلات من محاولات تخصيب الشريك الآخر له.
يُلاحظ أسلوب أكثر حذقًا قليلًا للتأثير على أي الكائنين يلعب دور الذكر وأيهما يلعب دور الأنثى في الكثير من الحلزونات الأرضية، بما فيها حلزونات الحدائق المعتادة. تنتج هذه الحيوانات الخنثوية «أسهمًا جنسية» مكونة من كربونات الكالسيوم أو الكيتين كجزء من عملية التزاوج. ومثل هذه الأسهم ليست تراكيب لنقل الحيوانات المنوية؛ وإنما تخترق جلد شريك التزاوج وتفرز مركبات إمَّا تمنع الشريك المستقبل للأسهم من الاستمرار في التزاوج أو تزيد من معدل تخصيب الحيوانات المنوية التي أُطلِقت.
غير أن مزايا أداء دور الذكر ليست دائمة بالنسبة إلى الكائنات الخنثوية؛ فثمة ظروف أخرى قد تدعم أيًّا من الدورين وتميزه عن الآخر. على سبيل المثال، إذا كانت احتمالية العثور على شريك تزاوج منخفضة، فربما يُستحسَن للفرد الاستثمار في البويضات، بحيث تتعاظم فرصة التكاثر إلى أقصى حدٍّ عند العثور على شريك محتمل؛ نظرًا لأن كل بويضة سينتج عنها نسل، في حين أنه من غير المرجح أن يجد كلُّ حيوانٍ منوي بويضة ليخصبها. خلاصة القول أنه لا يمكن تحسين وظائف الذكر والأنثى في آنٍ واحد، وهو ما يعني أن الكائنات الخنثوية لا بدَّ أن توازن بين تكاليف وفوائد إنتاج كل من البويضات والحيوانات المنوية. ويمكن القول إنه نظرًا لأن أغلب الجينات نفسها في الكائنات غير الخنثوية يُعاد دمجها معًا في كل جيل لإنتاج كل من الذكور والإناث، فإن الانتخاب ينتج توافقات مماثلة؛ لأن ما يدعم الأنثى — سواء أكانت فردًا مستقلًّا أم جزءًا داخل كائن خنثوي — لا يدعم الذكر بالضرورة. سنناقش التعارض الذي ينشأ حين يكون الشيء الذي يفيد الإناث (أو الاضطلاع بدور الأنثى) مضرًّا للذكور، والعكس صحيح، في الفصل السادس.
استراتيجيات التكاثر البديلة
ربما تختلف الاستراتيجيات المستخدمة للتزاوج حتى داخل إطار الدور الجنسي، أو داخل إطار مجموعة السلوكيات والأنماط الشكلية في جنس بعينه. ففي العديد من الحيوانات، ربما يتبع بعض الأفراد من كلا الجنسين ما يُطلق عليه تكتيكات التكاثر البديلة، وهي سلوكيات تُعد طرقًا مختلفة لتحقيق النجاح التناسلي. على سبيل المثال، في الكثير من الأسماك، تحقق ذكور منطقة النفوذ التلاقح من خلال ملاحقة المنافسين وطردهم وتوفير مواقع تعشيش للإناث، غير أن الذكور «المتسللة» التي تقلد الإناث تستطيع أن تسبح بسرعة إلى داخل منطقة النفوذ وتضع حيواناتها المنوية على البيض الموجود داخل العش. ومن غير المحتمل أن يكتشف الذكر صاحب منطقة النفوذ الذكور المتسللة؛ ولذا تستطيع تحقيق قدْر من النجاح التناسُلي دون الاضطرار إلى تكبد مشقة ومخاطر تأسيس منطقة النفوذ الخاصة بها. نجد مثل هؤلاء المتسللين في أسماك الجوبي ذات الرقعتَين المذكورة آنفًا، ويحتوي حتى ثلث الأعشاش على بيض مُخصَّب من جانب هؤلاء الذكور. وقد تشتمل التكتيكات البديلة الأخرى على ذكر «تابع» يعترض طريق الإناث أثناء اقترابها من ذكر له منطقة النفوذ أو أصدر إشارات تزاوج. وجرى توثيق وجود كل من الذكور المتسللة والتابعة في عدد من أنواع الحيوانات، من ضمنها الحشرات والطيور وكذلك الأسماك.
تتخذ السلوكيات التناسلية البديلة شكلين. أولًا، ربما يتبع الأفراد سلوكيات مختلفة — الذكر المتسلل في مواجهة صاحب منطقة النفوذ — في مراحل مختلفة من حياتها. على سبيل المثال، تقوم ذكور أفيال البحر على حراسة مجموعات من الإناث تتواجد في مواقع التزاوج على مدار عدة أشهر، لمطاردة جميع الذكور المتطفلة وطردها خارج هذه المواقع. ثم تتقاتل بشراسة فيما بينها، وينجح فرد واحد أو بضعة أفراد في إنجاب معظم الجِراء الصغيرة داخل المستعمرة. ويحابي الانتخاب الجنسي الذكور الأكبر حجمًا، مما ينتج عنه ثنائية شكل مفرطة قائمة على اختلاف الحجم بين الجنسَين. غير أن الذكور المرافقة الأقل حجمًا والأصغر سنًّا تتسلل أحيانًا إلى داخل إحدى مجموعات الإناث وتحاول التزاوج، لتبقى غير ملحوظة للعِيان وتتصرف وكأنها إناث. وعادةً لا تنجح الذكور المتسللة في محاولاتها؛ نظرًا لأن الإناث كثيرًا ما تعترض بإصدار أصوات مميزة عند امتطائها، وهذا يجذب انتباه ذكر فيل البحر المهيمن على المنطقة، الذي يقوم بدوره بمطاردة الذكور المتسللة وطردها. كذلك تحاول الذكور الصغيرة الحجم أن تتناسل مع الإناث عند مغادرتها المستعمرة، ولكن عادةً لا تكون تلك الإناث خصبة. غير أن الذكور الأصغر سنًّا لا تجد أيَّ خيار آخر لتحقيق النجاح التناسلي؛ ولذا ربما تتبع تكتيك المتسلل ثم تتحول إلى القتال مع الذكور الأخرى من أجل الهيمنة حين تصير أكبر حجمًا.
في أفيال البحر والحالات المشابهة الأخرى، يُقال أحيانًا إن المتسللين أو المتبعين للسلوكيات البديلة «يحققون أقصى استفادة تحت أسوأ الظروف»؛ إذ إنهم لا يستطيعون الحصول على أية فرص للتزاوج بالطرق التقليدية، من خلال إصدار إشارات التزاوج، أو امتلاك منطقة نفوذ، ومن ثم ربما تسفر الاستراتيجية البديلة عن تحقيق قدْر من النجاح التناسلي على الأقل. وفي مثل هذه المواقف، ربما يكون أحد التكتيكات هو الأفضل؛ إلا أنه متاح فقط لمجموعة فرعية من الأفراد.
على سبيل المثال، في حشرات تُسمى ذبابة العقرب، تستطيع الذكور إجراء العملية الجنسية بثلاث طرائق. فيمكنها تزويد الإناث بحشرات ميتة تصطادها؛ وكلما كانت الهدية أفضل، صار التزاوج أطول وأكثر نجاحًا، كما هو الحال مع الجندب النطاط الأمريكي المذكور آنفًا. غير أن الظفر بفريسة أمر صعب، وربما يفرز الذكر أيضًا لعابًا على الأوراق كهدية للأنثى. وفي النهاية، ربما يحجم الذكر عن تقديم الهدايا ويحاول إجبار الإناث على التناسل. وفي التجارب المختبرية التي أتاحت للذكور الاستعانة بأيٍّ من هذه التكتيكات، اتضح أن أفضل استراتيجية (من حيث نجاح التزاوج) هو تقديم الحشرات الميتة. غير أن هذا ممكن فقط للذكور الكبيرة الحجم القادرة على اصطياد فريسة. ومن ثم، يمكن أن تستعين الذكور الأصغر حجمًا، التي ربما تكون صغيرةً لأنها لم تتلقَّ التغذية الكافية أثناء النمو، بالتكتيكَين الآخرين الأقل نجاحًا فقط.
نُشر الأساس الجيني لهذه المجموعة المعقدة الاستثنائية من أشكال ذكر طائر الدريجة المطوقة في عام ٢٠١٦، عندما استعان العلماء بتقنيات الجينوم المتطورة واكتشفوا أن «جينًا فائقًا» يتألف من ١٢٥ جينًا متقاربًا يحدد ما إذا كان الذكر تابعًا أم فيدر. ويبدو أن الجين الفائق قد ظهر عن طريق حدوث انقلاب، ينقلب فيه جزء من الحمض النووي، وهو ما حدث قبل نحو ٤ ملايين عام مضت، وهي فترة طويلة تكفي لاستمرار هذا التباين. ووجود نسختَين من هذا الجين الفائق هو أمر مُهلِك، إلا أن تركيب الجينات في الأفراد التي لدَيها نسخة واحدة يحدد شكلها. ويبدو أن الانقلاب الأول قد ميَّز بين الذكور أصحاب منطقة النفوذ والذكور الأخرى. بعد ذلك، يبدو أن جزءًا من الجين الفائق انقلب مرةً أخرى قبل ٥٠٠ ألف عام مضى، لينتج عنه نسخة أخرى. وصارت الذكور التي تمتلك النسخة الوراثية القديمة من امتداد الحمض النووي هي الشكل السائد للذكر صاحب منطقة النفوذ، في حين أن الذكور التي تحمل نسخةً واحدة من الجين الفائق الأصلي المقلوب صارت طيور «فيدر»، وتلك الذكور ذات النسخة الأحدث هي الطيور التابعة. إن إمكانية تأثير جزءٍ وحيد من الحمض النووي على شكل الذكر وسلوكه وخصوبته لهو أمر استثنائي، ويبدو أنه ناتج عن أنواع الجينات الموجودة في الجين الفائق، التي يؤثر بعضها على مستويات الهرمونات مثل التستوستيرون.
من الواضح أن الجينات أو البيئة، أو مزيجًا من هذا وذاك، يمكن أن يؤثر على تطور سلوكيات التزاوج البديلة. فعندما تتحدد الأشكال جينيًّا، عادةً ما نفترض أن الأنواع المتنوعة تحقق حتمًا نجاحًا تناسليًّا متكافئًا؛ نظرًا لأن الانتخاب كان سيستبعد الأشكال الأدنى لولا ذلك. غير أن الموقف ربما يكون أكثر تعقيدًا من ذلك في الطبيعة، والانتخاب الجنسي يحفز تطور استراتيجيات التزاوج البديلة وبدوره يتأثر بها.
ماذا عن الجنس البشري؟
بالطبع، يُقال إن بني البشر لديهم أدوار جنسية أيضًا، ورغم وجود تأثيرات ثقافية على توجهاتنا وسلوكياتنا، كما أشرنا في بداية هذا الفصل، فقد حاول كثيرون أن يطبقوا مبادئ بيتمان على الجنس البشري. وقد اتضح أنه من الصعب على نحوٍ مثير للدهشة الحصول على بيانات ذات صلة بجوانب مثل عدد شركاء الحياة أو عدد الأبناء الذي يُرجَّح أن يحظى بهم الأشخاص من مختلف الثقافات. وتشكل المجموعات البشرية تحديات فريدة أمام الدراسات المعنية بوجود الأدوار الجنسية أو أهميتها من المنظور البيولوجي، لا لسبب غير أنه يكاد يكون مستحيلًا إجراء دراسات تجريبية بمتغيرات عدة. وفي الوقت نفسه، فإن القدرة على الاطلاع على السجلات التاريخية أو إجراء المقابلات الشخصية تتيح إجراء أبحاث يستحيل إجراؤها على أنواع أخرى غير البشر.
وتماشيًا مع مبدأ بيتمان الذي ينص على أنه من المتوقع أن يُظهر الذكور تباينًا في النجاح التناسُلي أكثر من الإناث، وجدت بعض الدراسات أن الرجال من عدة مجتمعات مختلفة يحظَون بمتوسط تباين أعلى في عدد الأطفال الذي يُنجبونه مقارنة بالنساء. غير أن المجتمعات حول العالم تختلف اختلافًا كبيرًا في درجة ظهور هذه النزعة لديهم، أو فيما إذا كانت تظهرها من الأساس. ولا شك أن الرجال في المجتمعات الغربية أكثر عُرضة للزواج مرة أخرى مقارنة بالنساء، مما يؤدي إلى تفاوت في قابلية النجاح التناسلي للتغير أو التباين. ويتمثل أحد تعقيدات هذا المعيار في أنه على الرغم من أن المرء قد يفترض أن التفاوت في النجاح التناسلي ينبغي أن يكون أعلى في المجتمعات التي يسود فيها تعدد الزوجات؛ أي تلك المجتمعات التي قد يكون فيها للرجل أكثر من زوجة واحدة، فإن الغالبية العظمى من الرجال في مثل هذه المجتمعات، بنسبة تفوق ٩٥ بالمائة، لا تزال أحادية التزاوج؛ أي لديهم زوجة واحدة فقط. ورغم أنه يمكن للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة في آنٍ واحد، فإن المرأة ربما تحظى بعدَّة أزواج على مدار حياتها.
علاوة على ذلك، وكما هو الحال مع الجندب النطاط الأمريكي والسمكة الأنبوبية، حين تسهم الذكور في النسل، لا يضمن الاقتران بعدة شريكات تزاوج دومًا تحقيق نسبة أعلى من النجاح التناسلي. ففي الكثير من المجتمعات البشرية، يكون إنجاب الأطفال ذا تكلفة عالية بالنسبة إلى الأمهات والآباء على حدٍّ سواء، سواء بالمعنى الحرفي للكلمة أو فيما يتعلق بمقدار الوقت والطاقة اللازمَين لتنشئة الذرية. وفي مجتمعات أخرى، تتحمل الأم نسبةً غير متكافئة من التكلفة. غير أن عددًا محدودًا من الدراسات التي أُجريت على البشر تطرقت بالتفصيل إلى العَلاقة بين عدد شركاء الحياة وعدد الأطفال، كشرطٍ أساسي ضروري لاختبار صحة مبدأ بيتمان. ويتجلى هذا النقص على نحوٍ صارخ عندما يتعلق الأمر بالنساء، سواء أكنَّا نُجري الدراسة على مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية مثل فنلندا القديمة أم مجتمعات الجمع والالتقاط المعاصرة.
مرة أخرى وكما هو الحال مع الحيوانات الأخرى دون البشر، فإن عوامل مثل نسبة الجنس البشري ربما تكون ذات أهمية. فقد كشفت إحدى الدراسات عن أنماط الزواج منذ عام ١٩١٠ في الولايات المتحدة أن في تلك الولايات التي تحظى بنسبة جنس بشري أكثر انحيازًا للذكور، كانت العَلاقة بين الوضع الاجتماعي الاقتصادي للرجل واحتمالية زواجه أقوى، مما يشير إلى أن النساء كن أكثر انتقائية حين كان عدد الرجال المتاحين أكبر. ووجدت استطلاعات رأي أخرى أجريت للبشر المعاصرين أنه حين تكون نسبة الجنس متحيزة للإناث، ربما تبدأ النساء التناسل في وقت أبكر، لا سيما في المناطق الأكثر ثراءً. ولا يزال هناك الكثير من الأبحاث التي يجب إجراؤها لبيان كيف يمكن لأنماط التكاثر بين البشر أن تعكس الانتخاب التفاضلي على الجنسَين.
إذَن، هل هناك أيُّ فوائد من وراء الإشارة إلى أدوار التكاثر البديلة؛ نظرًا لأن الأخيرة توحي بأن نمطًا تكاثريًّا معينًا هو النمط الطبيعي أو الاعتيادي؟ لا شك أن المصطلحات تقدِّم مختصرًا مفيدًا للإشارة إلى الأنماط الثابتة الموجودة، رغم وجود استثناءات، عبر مجموعة متنوعة تنوعًا مذهلًا من أنواع الحيوانات. وقد دعا بعض العلماء إلى التخلي عن مفهوم الأدوار الجنسية بالكامل، بسبب تغير المعاني باختلاف مجموعات الحيوانات، وبسبب الالتباس بين المفاهيم المستمدة من الثقافة والمفاهيم البيولوجية. وتساوِرُنا الشكوك حول صمود هذه المصطلحات وتقبلها، ولكن نأمُل ألا تعوق الناس عن الاعتراف بالتنوع الهائل للسلوك الجنسي عبر المملكة الحيوانية.