استمرار الانتخاب الجنسي بعد التزاوج
نظَر داروين إلى الانتخاب الجنسي بوصفه عملية تُفضي في النهاية إلى الظفر بشريك تزاوج، مفترضًا بذلك أن الإناث في الأساس أحادية التزاوج؛ أي تتزاوج مع ذكرٍ واحد فقط. ولكن اتضح أن هذا الافتراض خاطئ. ولم تخرج نظرية جيفري باركر، عن أن الانتخاب الجنسي يمكن أن يستمرَّ بعد التزاوج على هيئة تنافس بين الحيوانات المنوية، إلى النور إلَّا بعد مرور مائة عام تقريبًا على نشر كتاب داروين «نشأة الإنسان». أشار باركر إلى أن إناث الحشرات لا تتناسل مع عدة ذكور مختلفة قبل أن تضع البيض فحسب؛ بل أيضًا تخزن الحيوانات المنوية الخاصة بهذه الذكور في داخل أجهزتها التناسلية وتغذِّيها، داخل أعضاء مخصَّصة للتخزين تُسمى كيس المني. ونتيجة لذلك، يجب أن تتنافس الحيوانات المنوية من عدة ذكور على تخصيب العدد المحدود عادةً من البيض الذي تضعه الأنثى. ظلَّ الاعتقاد بأن الطيور هي النموذج الأمثل للتزاوج الأحادي قائمًا حتى وقعت الثورة الجزيئية. والآن، وبفضل البصمة الوراثية، صِرنا نعرف أن في أغلبية الأنواع، تُنجب الإناث أفراخًا في أعشاشها من خلال ذكرٍ واحد أو أكثر ليسوا بالضرورة شركاءها الاجتماعيين (انظر الفصل الثاني). وتبين أن إناث الطيور يمكنها أيضًا أن تختزن المَنِيَّ من ذكور مختلفة في أنابيب صغيرة على جدران أجهزتها التناسلية، وأن على الحيوانات المنوية من مختلف الذكور أن تتنافس على تخصيب البيوض المتاحة. واتضح أن تعدُّد التزاوج من جانب الإناث سمة واسعة الانتشار عبر الأنواع الحيوانية المختلفة. ونتيجة لذلك، سيدعم الانتخاب أيَّ سمة تزيد من احتمالات تخصيب مَنيِّ الذكر للبُيُوض عند التنافس مع الذكور الأخرى بسبب العدد الأكبر من النسل الذي سيتركه في الأجيال التالية.
ربما يزيد الذكر من نصيبه في الأبوة مع أنثى محدَّدة من خلال تقليل فرص تزاوج شريكته بذكَر منافس، أو من خلال التأثير على عملية التخصيب من خلال وضع مَنيِّه بالقرب من موضع التخصيب، أو من خلال جعل فرص التخصيب في صالحه عن طريق إطلاق عدد أكبر من الحيوانات المنوية. غير أن باركر أدرك أن الأُنثى لن تكون وسيطًا سلبيًّا مستسلمًا يخوض الذكور معارك التخصيب بداخلها. فربما تواصل الإناث الاختيار بين الذكور حتى بعد التزاوج من خلال المفاضلة لقَبول أو تخزين أو استخدام الحيوانات المنوية الخاصة بأكثر الذكور جاذبية لتخصيب بيضها. وفي حين وضع باركر تصورًا للتنافس بين الحيوانات المنوية باعتباره مكافئًا لمنافسة ما بعد التزاوج بين الذكور، صار مكافئ الانتقاء من جانب الإناث لمنافسة ما بعد التزاوج يُعرف بالانتقاء الخفي من جانب الإناث؛ نظرًا لأنه كثيرًا ما ينطوي على عملياتٍ تحدث داخل الجهاز التناسُلي للأنثى غير ملحوظة لنا. وفي هذا الفصل، سندرس العواقب التطورية البعيدة المدى للتنافس بين الحيوانات المنوية والانتقاء الخفي من جانب الإناث على تطور السمات التناسلية، بداية من الأمشاج وصولًا إلى الكائنات البالغة التي تنتجها.
لماذا تكون الحيوانات المنوية بالغة الصغر وكثيرة العدد؟
تحتوي قَذفة واحدة لمَنيِّ الرجل الواحد في المتوسط على نحو ٢٠٠ مليون حيوان منوي. ووَفقًا لموسوعة جينيس للأرقام القياسية، أنجب سلطان المغرب، إسماعيل بن الشريف (١٦٧٢–١٧٢٧)، المعروف باسم «السلطان الدموي»، ٨٨٨ ابنًا. وبحسب التقديرات، تعيَّن على السلطان إسماعيل أن يضاجع واحدةً من زوجاته الأربعة و٥٠٠ جارية نحو مرة واحدة في اليوم على مدار ٣٢ عامًا، ليقذف بذلك حوالي ٢٫٣ تريليون حيوان منوي. وهو ما يعادل ٢٫٦ مليار حيوان منوي لكل طفل أنجبه. في الغالب، قد يتوقع أن يُنجب زوجان لا يستخدمان أي وسيلة لمنع الحمل من ٨ إلى ١٢ طفلًا خلال سنواتهما الإنجابية، مما يثير التساؤلات حول ضرورة إنتاج الحيوانات المنوية بمثل هذه المعدلات المرتفعة. ثمة سمة أخرى ملحوظة للحيوانات المنوية ألا وهي حجمها. إن البويضات بطبيعتها من أكبر الخلايا في جسم الكائن الحي، بينما تُعد الحيوانات المنوية بطبيعتها هي الخلايا الأصغر حجمًا. فيمكن أن يصل وزن بويضات النعام إلى ١٫٤ كيلوجرام، في حين يصل طول حيواناتها المنوية إلى ٠٫٠٧ ملِّيمتر تحت عدسة المجهر.
صار الطريق الآن ممهدًا أمام المنافسة بين الحيوانات المنوية. فالأمشاج الصغيرة التي تندمج مع أمشاج صغيرة أخرى سينتج عنها لاقحات ذات احتمالات محدودة للبقاء على قيد الحياة. وأي تعديل تكيُّفي في منتجي الأمشاج الصغيرة يزيد من احتمالية اندماج أمشاجها بالأمشاج الكبيرة الغنية بالمغذيات سيحظى بالمحاباة والدعم. غير أنه نظرًا لأن منتجي الأمشاج الكبيرة الحجم أقل إنتاجية نسبيًّا، لن يكون هناك أمشاج كبيرة بالقدر الكافي متاحة لجميع الأمشاج الصغيرة للحصول على شريك تندمج معه، مما يؤدي إلى محاباة الانتخاب لأوجُه التكيف التي تزيد من احتمالية تخصيب منتج الأمشاج الصغيرة للمخزون المحدود من الأمشاج الكبيرة. وإحدى الطرق الواضحة لزيادة فرص نجاح الإخصاب لمنتجي الأمشاج الصغيرة هي زيادة عدد الحيوانات المنوية، بما يترتب عليه من انخفاض في حجم الحيوانات المنوية. فكلما زاد عدد بطاقات اليانَصيب التي بحوزة الفرد، زادت احتمالية فوزه. وهذا هو الحال مع تنافس المني الذي يُعتقد أنه يحابي تطور الحيوانات المنوية الصغيرة في الحجم والكثيرة في العدد.
ألعاب تنافس المنيِّ
يُوضح عددٌ كبير من النماذج النظرية إلى أي مدًى ينبغي أن يؤثر تنافس المني على ما يستهلكه الذكر من موارد لإنتاج الحيوانات المنوية. ففي ألعاب تنافس المني الخاصة بباركر — وهو الاسم الذي يُطلق على النماذج النظرية التي وضعها باركر — يمكن للذكر أن يستهلك موارده إمَّا في الظفر بفرص التزاوج (على سبيل المثال، الأسلحة ومظاهر الزينة المستخدمة من أجل الوصول إلى الإناث) أو لإنتاج الحيوانات المنوية. ومن المفترض أن يؤدي ما يستهلكه الجسم لإنتاج الحيوانات المنوية إلى زيادة كفاءة الذكر فيما يتعلق بنجاح الإخصاب مع أنثى بعينها؛ ولكنه يقلل عدد مرات التزاوج المحتملة. لذا فإن كفاءة الذكر هي نتاج عدد مرات التزاوج التي يظفر بها وعدد الذرية التي يُنجبها من كل زيجة. النقطة الأهم لمناقشتنا هنا هي أنَّ ثمة افتراضين وراء ألعاب تنافس المني. الافتراض الأول أن الذكور تواجه موازنة بين ما يستهلكه الجسم لإنتاج الحيوانات المنوية وغيرها من الأنشطة التناسلية الأخرى، والافتراض الثاني أن نجاح عملية الإخصاب لدى ذكَرٍ معين سوف يعتمد على عدد الحيوانات المنوية التي يُطلقها في موقع التخصيب، نسبةً إلى الذكور الأخرى.
تأثير تنافس المني على تطور حجم الخُصيتَين
سُجلت أنماط مشابهة لتباين حجم الخُصيتين في جميع أنواع المجموعات الحيوانية التي خضعت للدراسة تقريبًا. على سبيل المثال، في أنواع الطيور التي تتردَّد فيها الإناث على ساحات استعراضات التزاوج للاختيار بين الشركاء المحتملين، تتزاوج هذه الإناث عادةً بذكرٍ واحد فقط أو عدد قليل جدًّا من الذكور (انظر الفصل الثاني لمزيد من التفاصيل). تتمتع الذكور المنتمية للأنواع التي تشارك في ساحات استعراضات جذب الإناث بخُصيتين صغيرتين نسبةً إلى حجم الجسد مقارنة بذكور أنواع أخرى مثل اليقنة، حيث تتردَّد الإناث ذات الشركاء المتعدِّدين على كثير من الذكور المختلفة بهدف التزاوج وترك بيضها للذكر ليرقد عليه. وتحظى أنواع من الحشرات التي تتزاوج فيها الإناث بالعديد من الذكور بخُصيتين أكبر نسبيًّا من الأنواع الأحادية التزاوج، وتتمتع الأسماك التي تتزاوج فيها الإناث بعدة ذكور بخُصيتين أكبر نسبيًّا من الأنواع الأحادية التزاوج أيضًا. ولذا، من الشائع استنتاج أن كتلة الخُصيتين النسبية تُعد الآن وعلى نطاق واسع مقياسًا لقوة الانتخاب بناءً على تنافس المني.
يقدم التطور التجريبي وسيلة فعَّالة لدراسة السبب والنتيجة. وفي ظل وجود كائن حي مناسب، ينتمي إلى جيلٍ ذي عمر قصير نسبيًّا ويمكن تربيته بأعداد كبيرة تحت ظروف مختبرية محكومة، يمكن إعداد مجموعات معزولة جينيًّا والتلاعب في قوة الانتخاب الجنسي تجريبيًّا على مدار عدة أجيال قبل فحص المجموعات من أجل استكشاف سمات مثل حجم الخُصيتين أو عدد الحيوانات المنوية أو نجاح الإخصاب التنافسي. وتستعين مثل هذه الدراسات عادةً بذبابة الفاكهة من جنس الدروسوفيلا، غير أن هناك دراسات أُجريت على لا فقاريات أخرى بل وعلى الفئران المنزلية أيضًا. وقد أثبتت هذه الدراسات أن في المجموعات التي تتطور في ظل تراجع الانتخاب الجنسي بعد التزاوج تتطور الذكور بها بحيث يتراجع لديها إنفاق موارد الجسم على إنتاج الحيوانات المنوية، بينما المجموعات التي تتطور في ظل تزايد الانتخاب الجنسي بعد التزاوج تتطور الذكور بها بحيث يتزايد إنفاق موارد الجسم لإنتاج الحيوانات المنوية. ويمكن أن تحدث هذه التغيرات التطورية في إنفاق الذكر لموارد الجسم بوتيرة سريعة، في غضون عشرة أجيال من التطور التجريبي، ويمكن أن تقدم أدلة مباشرة على أن الانتخاب الجنسي بعد التزاوج يحفز تطور إنفاق الذكر لموارد الجسم على إنتاج الحيوانات المنوية، وهو ما يعني إنفاق موارد أقل على الأسلحة اللازمة للانتخاب الجنسي السابق على عملية التزاوج.
القذف الاستراتيجي
ذهب بيتمان إلى أن النجاح التناسلي للذكور ينبغي أن يُقيَّد فقط بعدد الإناث التي يمكن الوصول إليها، هذا بافتراض أن مخزون الحيوانات المنوية لا نهائي (الفصل الرابع). غير أننا نعرف الآن أن الأمر ليس كذلك. فالدراسات التي أُجريت على الحشرات والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات، بما فيها البشر، تظهر أن الذكور تعاني من استنفاد الحيوانات المنوية والسائل المنوي عقب حدوث التزاوج، وقد يستغرق استعادة المخزون إلى مستواه قبل التزاوج مدةً تتراوح من ساعات إلى أيام. ولقد رأينا بالفعل إلى أي مدًى قد يأتي إنفاق الذكر لموارد الجسم على قذف المني على حساب إنفاقه على تطوير الأسلحة ومظاهر الزينة بهدف الظفر بشريك تزاوج. ويمكن أيضًا أن تؤثر القيود الغذائية على عدد الحيوانات المنوية المُنتَجة وعلى جودتها، وقد يُقصر إنتاج الحيوانات المنوية عمر الكائن الحي أيضًا. ففي الجرابيات الأسترالية، في جنس الدصيوريات أو الأنتكينوس (ويُعرف باسم الفأر الجرابي)، يصل إنفاق الذكر لموارد الجسم من أجل إنتاج الحيوانات المنوية إلى حدٍّ بالغ. فموسم تزاوج هذا الحيوانِ الثدْيِيِّ قصير جدًّا ويتزامن إلى حدٍّ كبير مع توافر غذائه القائم على الحشرات بالأساس. وتستطيع الإناث أن تتزاوج مع العديد من الذكور المختلفة، ويكون إنفاق الذكر للطاقة عاليًا جدًّا من أجل قذف المني. ومن اللافت للنظر أن الذكور تستثمر الكثير جدًّا من مواردها في إنتاج الحيوانات المنوية لدرجة أنها تعاني من انهيار جهازها المناعي وتهلك، تاركةً وراءها مجموعة من الأمهات العازبات. وبالوضع في الاعتبار أن الذكور لديها مخزون محدود من الحيوانات المنوية، تتكهن ألعاب تنافس المني بأن التأني في قذف حيواناتها المنوية استنادًا إلى مستوى الخطورة الحالية لتنافس المني سيكون مفيدًا لها. وهذا يعني أنه عندما تكون أعداد الإناث وفيرةً وتكون أعداد الذكور المنافسة قليلة، من المتوقع أن تقذف الذكور العدد الكافي من الحيوانات المنوية الذي يضمن التخصيب فقط، وتحافظ على مخزون الحيوانات المنوية لزيادة عدد الإناث التي يمكن تخصيبها. على النقيض، عندما تكون أعداد الإناث قليلة والمنافسة على الوصول إليها شديدة، ينبغي أن تقذف الذكور أعدادًا كبيرة من الحيوانات المنوية من أجل التنافس على عمليات التخصيب.
وقد وُجِد أن الذكور في العديد من الأنواع تتَّسِم بالحساسية الشديدة تجاه خطر تنافس المني من جانب المنافسين، وتجاه زيادة أعداد الحيوانات المنوية التي تخصب بها الإناث عندما تكون المخاطر عالية. وقد كان أول من درس هذه المرونة في الحشرات ماثيو جيدج وزملاؤه الذين أحصَوا عدد الحيوانات المنوية التي تقذف عند تزاوج ذكر ذبابة فاكهة البحر المتوسط أو ديدان الطحين في وجود ذكر منافس؛ إذ وجدوا أنه عند تزاوج ذكر وأنثى في حضور ذكر منافس، يقذف الذكر الذي يضاجع الأنثى ضعف عدد الحيوانات المنوية التي يقذفها عندما يكونان بمفردهما. وامتدت هذه الدراسة لتشمل عددًا كبيرًا من أنواع الحشرات الأخرى، وكذلك الطيور والأسماك والزواحف والثدييات.
تستطيع الذكور أن تستغل مجموعة متنوعة من الإشارات الموجودة في بيئتها لتقييم مدى الخطورة التي ينطوي عليها تنافس المني، ولا تعتمد ببساطة على وجود المنافسين في المكان وحسب. على سبيل المثال، يزيد كل من ذكر فأر الأراضي العشبية الكَستنائي المُعرض لخطر روائح المنافسين والجدجد الحقلي المُعرض لخطر صرير الذكور الأخرى إنفاقها من الطاقة على القذف، وتشير الدراسات التي أُجريت على ذبابة الفاكهة إلى أنه بالرغم من وجود إشارات فردية في معزل عن الإشارات الباقية غير كافٍ لإحداث تعديلات في معدل إنفاق الذكر على قذف المني، فإن وجود إشارتين من صوت أو رائحة أو ملمس تستثير استجابات لدى الذكر. وهكذا، تبدو الذكور قادرة على تقييم بيئتها الاجتماعية بطريقة تمكنه من الانخراط في تنافس المني من أجل التخصيب عند الضرورة، مع الاحتفاظ بحيواناتها المنوية من أجل فرص تزاوج إضافية عندما يكون عدد المنافسين قليلًا.
تجنب تنافس المني
أدرك باركر أن تنافس المني من شأنه أن يحابي تعديلات تكيفية متعارضة لدى الذكر أتاحت له تحقيق الأفضلية على أي حيوانات منوية تختزنها الإناث من ذكور سابقة، وفي الوقت نفسه الحيلولة دون استبدال مني المنافسين بمنيِّه. كيف يحدث ذلك؟
وتُعد حراسة شريك التزاوج ملمحًا بارزًا لسلوكيات التزاوج لدى الحيوانات. ففي حشرات الرعاشة الصغيرة، بعد أن تُحرِّر الأنثى عضوها التناسُلي، يحافظ الذكر على إمساكه بها ويطير معها في وضعية ترادفية إلى مناطق النباتات المائية حيث تضع الأنثى بيضها. ولا يُطلق سراح الأنثى إلا بعد أن تضع حضنة البيض كاملة. وفي أنواع كثيرة من الحشرات، تتم إطالة العملية الجنسية إلى ما بعد قذف الحيوانات المنوية، وهذا لمنع الذكور المنافسة من التزاوج بالأنثى. وهذه الحراسة لشريك التزاوج تستمر أيامًا أو حتى أسابيع، رغم أن الحيوانات المنوية تُقذَف خلال الثواني أو الدقائق الأولى من العملية الجنسية. وفي الطيور، بمجرد أن تحدث الإباضة، يكون البيض متاحًا للتخصيب لمدة ٤ إلى ٥ أيام قبل أن يُحاط بقشرته ويتم وضعه. وهناك فرصة سانحة، بدءًا من بضعة أيام قبل وضع البيضة الأولى وحتى وضع البيضة قبل الأخيرة، يمكن أن يسفر خلالها التلقيح عن تخصيب، وخلال هذه المدة تكون خطورة فُقدان الذكر أبوة النسل في أَوجِها. وخلال هذه المدة، تحتفظ ذكور الطيور عادةً بمنطقة نفوذ أكبر حول أعشاشها، وتزيد من تَكرار العملية الجنسية مع شريكة التزاوج، وتشارك بمعدلات أكبر في نشاط التغريد لطرد المنافسين، وتبقى عمومًا على مقربةٍ من شريكة التزاوج إلى أن تضع البيضة الأخيرة.
تشير دراسات علم النفس البشري إلى أن حراسة شريك التزاوج ربما تُفلح أيضًا في الجنس البشري لزيادة احتمالية التمتُّع بالأبوة. ويبدو أن استخدام «أكواخ الحيض» عند شعب الدوجون في مالي يتيح للرجال مراقبة دورات الخصوبة لدى شريكات الحياة وتقليل مخاطر الخيانة الزوجية بدرجة كبيرة. وبصفة أعم، ذهب اختصاصي علم النفس التطوري ديفيد بوس إلى أن لجوء الرجال إلى سلوكيات مثل السيطرة على أنشطة النساء أو التصرف بعدوانية تجاه الأصدقاء الرجال لشريكات الحياة أو غيرها من السلوكيات التي تندرج عمومًا تحت الغيرة الجنسية، تؤدي نفس دور حراسة شريكة التزاوج. ولا شك أن هذه السلوكيات الذكورية تبدو واسعة الانتشار؛ إذ سُجل وجودها في ٨٤٩ مجتمعًا من المجتمعات البشرية باستثناء أربعة مجتمعات فقط.
وبالرغم من الفوائد الواضحة لحراسة شريكة التزاوج في تجنب تنافس المني، يمكن أن تكبد هذه الحراسة الذكر تكاليف باهظة أيضًا. فبينما يحرس الذكر الشريكة الحالية، يعجز عن البحث عن المزيد من الإناث أو الدفاع عن مناطق نفوذه. ففي الطيور، يمكن أن يفقد الذكر الكثير من وزنه أثناء فترة وضع البيض. وحينئذٍ سيكون من المفيد للذكر أن يعدل أنشطة حراسة شريكة التزاوج بناءً على نسبة الخطورة المباشرة الخاصة بتنافس المني. والواقع أن حراسة الذكر لشريكة التزاوج عند الطيور تكون على أشدها في الأيام السابقة على وضع البيض. أمَّا بين الحشرات التي تمارس عمليات حراسة شريكة التزاوج بعد إجراء العملية الجنسية، فتعتمد مدة امتداد العملية الجنسية على نسبة الجنس المحلية أو نسبة الإناث إلى الذكور. ومن ثم، عندما تكون أعداد الذكور قليلة وأعداد الإناث وفيرة، ينهي الذكر على الفور ارتباطات التزاوج بمجرد أن يُطلق حيواناته المنوية. ولكن عندما تكون أعداد الإناث قليلة وأعداد الذكور وفيرة، تمتد فترة حراسة شريكة التزاوج ساعاتٍ أو أيامًا بعد التخصيب. وفي بعض الأنواع، طوَّر الذكور طرقًا لمنع الذكور المنافسة من ممارسة العملية الجنسية دون البقاء مع شريكات التزاوج. لذا في الكثير من الحشرات والزواحف والثدييات، يضع الذكور سدادات عائقة لحدوث التزاوج في الجهاز التناسلي للأنثى، وهي عبارة عن مواد لزجة تؤدي دورًا شبيهًا بسدادة الحوض. يمكن لهذه المواد أن تُعيق المنافسين عن الوصول إلى الجهاز التناسلي للأنثى. يفرز ذكر فراشة الهِلْكُونِيُوس أو الفراشة الطويلة الأجنحة مركبات كيميائية تجعل الأنثى منفرةً بالنسبة إلى المنافسين الآخرين، بينما في مجموعة متنوعة من الحشرات تفرز الذكور مركبات في السائل المنوي يؤثر على فسيولوجيا الأنثى بحيث تجعلها غير مُستجيبة لمحاولات التزاوج من جانب الذكور التالية. وفي أنواع كثيرة مثل ذباب الفاكهة والجندب النطاط الأمريكي، قد يكون مفعول هذه المركبات المثبطة لاستقبال السائل المنوي قصير الأجل، بينما في أنواع أخرى يمكن أن يكون لها آثار دائمة على سلوك الأنثى، مما يسفر عن أحادية التزاوج مدى الحياة.
الانتقاء الخفي من جانب الإناث
لا تتيح الإناث التي تتناسل مع أكثر من ذكر واحد فرصة لتنافس المني فحسب؛ وإنما قد تستفيد أيضًا من وجود حيوانات منوية من العديد من شركاء التزاوج داخل أجهزتها التناسلية. ناقشنا في الفصل الثالث ما يُسمَّى بنموذج «الأبناء الذكور المثيرون جنسيًّا» ونموذج «الجينات الجيدة» لتطور تفضيلات الإناث في سياق الانتخاب الجنسي السابق على عملية التزاوج الذي يؤثر على مظاهر الزينة لدى الذكور. وامتدت هذه المفاهيم لتشتمل نطاق ما بعد التزاوج لتفسر تطور تعدُّدية التزاوج. ووفق الفرضية المسماة ﺑ «الأبناء الذكور المثيرين جنسيًّا»، تستفيد الإناث من تعدُّد شركاء التزاوج؛ لأن السمات التي تجعل الذكور تحقق النجاح في تنافس المني قابلة للتوريث. لذا فمن خلال التزاوج مع عدة ذكور، تستطيع الإناث إنجاب أبناءٍ يتفوقون في تنافس المني لأن الأبناء ببساطة يرثون قدرات آبائهم في الفوز في معركة الإخصاب. وتمتدُّ هذه الفكرة إلى فرضية «النُّطَف الجيدة»، التي يُفترض بموجبها أن نجاح التخصيب التنافسي مرتبط جينيًّا بالصحة العامة للفرد وقابليته للبقاء. والذكور التي تنجح في تنافس المني لا تُنجب أبناءً يرثون هذا النجاح في تنافس المني فحسب؛ وإنما تُنجب أيضًا ذرية من الأبناء والبنات تتمتع بصحة عامة أوفر وقابلية أفضل للبقاء. على سبيل المثال، في حالة الدصيوريات أو الأنتكينوس، رأينا كيف أن مبالغة الإناث في التزاوج بعدة ذكور يؤدي إلى إنفاق الذكور موارد الجسم على إنتاج الحيوانات المنوية إلى حدٍّ قاتل. ففي الدصيوريات البُنية (الفأر الجرابي البني)، يمكن أن تكتسب الإناث مزايا هامة للكفاءة من خلال تشجيع هذا التنافس الشديد للمني؛ لأن الذكور التي تظفر بالأبوة تُنجب ذرية أكثر قابلية للبقاء على الحياة حتى الفطام بثلاث مرات. لذا فمن خلال تشجيع تنافس المني، يمكن للإناث أن تجنيَ مزايا جينية لذُريتها مثلما يحدث في انتقاء الإناث للذكور قبل التزاوج بناءً على مظاهر الزينة لدى الذكور.
تستطيع الإناث أن تلعب دورًا أنشط وأكثر فاعلية في تحديد نتيجة تنافس المني. ففي النهاية، تكون الكلمة الأخيرة للأنثى بخصوص من يُخصب بويضاتها، وقد أبرز عالِم الأحياء ويليام إيبرهارد أكثر من ٢٠ آلية مختلفة قد تقوم من خلالها الإناث بذلك. على سبيل المثال، يمكن للإناث اختيار قَبول الحيوانات المنوية وتخزينها ورعايتها واستغلالها بناءً على الخصائص المميزة للآباء المحتمَلين. ويمكن أن تُحدد عدد البويضات التي تُطلقها وتخصبها، أو قدر الموارد التي تُقدمها لهذه البويضات أو الذرية الناتجة بناءً على الخصائص المميزة للآباء. وكل آلية من آليات ما يُسمى بالانتقاء الخفي من جانب الإناث يمكن أن تفرض انتخاب سمات الذكر التي تجدها الأنثى جذَّابة أو تُقدِّم أكبر عوائد تناسُلية على ما تستثمره من موارد، أو كِلا الأمرين معًا. ومن المُهم أن نلاحظ أن هذا «الانتقاء» لا يحدث بطريقة واعية على الإطلاق؛ بمعنى أن إناث أي نوع، سواء الحشرات أو غير ذلك من الكائنات، لا يمكن أن تمارس سيطرة واعية على آلية عمل أعضائها التناسلية. ولكن إذا فُضلت بعض الحيوانات المنوية على الأخرى، لن تكون النتيجة مختلفةً عمَّا لو كانت قادرةً على السيطرة الواعية.
في بعض الحالات، قد تكون السمات الخاضعة للانتقاء الخفي من جانب الإناث هي نفسها السمات الخاضعة للانتقاء في فترة ما قبل التزاوج. ولقد رأينا في الفصل الثالث كيف تُفضل أنثى سمكة الجوبي الذكور ذات اللون البرتقالي الأكثر زهاء، ما يعني أنه كلما زاد اللون البرتقالي، لا بدَّ أن يميل الذكر لإنجاب مزيدٍ من النسل. وباستخدام مُعالَجات تجريبية لإدراك الأنثى للون الذكر، أوضح أندريا بيلاسترو وزملاؤه أن إناث الجوبي أكثر قابلية للاحتفاظ بالحيوانات المنوية عند الالتقاء بالذكور ذات الألوان الأزهى، مع أن هذه الذكور لم تَكُن الذكور التي شاركت في عملية التزاوج الفعلي. علاوة على ذلك، حتى في التفاعلات بين الذكور والإناث التي يحدث فيها تلقيح صناعي، فإن الحيوانات المنوية الخاصة بالذكور الأكثر تلونًا بالبرتقالي أكثر قابلية للظفر بأبوة النسل. ولهذا السبب، تكتسب ذكور سمكة الجوبي اللون البرتقالي بسبب انتخاب ما قبل التزاوج وبعده على حدٍّ سواء.
تبدو الفكرة القائلة إن الانتخاب الجنسي من الممكن أن يؤثر على تطور الأعضاء التناسلية لدى الحيوانات، فكرة منطقية، ولكن أين الدليل؟ يأتي الدعم لهذه الفكرة إلى حدٍّ كبير من الدراسات التي أُجريت على الحشرات؛ ربما لأن هذه المجموعة تظهر بالفعل قدرًا مذهلًا من التفاوت في حجم العضو الجنسي وشكله. واتضح أن ذلك التفاوت ليس عشوائيًّا؛ وإنما تفاوت يمكن أن يُنذر بتفاوت أيضًا في نجاح التلقيح والتخصيب؛ من ثم وُجِد أن أنواع الحشرات الخاضعة لانتخابٍ جنسي أقوى لدَيها أعضاء جنسية ذات أشكال أكثر تعقيدًا.
ويأتي المزيد من الأدلة على أن الانتخاب الجنسي يمكن أن يحفز تطور الأعضاء التناسلية الذكرية من دراسات قائمة على التطور التجريبي؛ أي تعريض الحيوانات المختبرية إلى ظروف تحاكي الانتخاب الطبيعي أو الانتخاب الجنسي. وقد أظهرت مجموعات من الحشرات والفئران المنزلية الخاضعة للتطوُّر في ظل الانتخاب الجنسي، يتنافس فيها الأفراد على شركاء التزاوج، أو يخضع لأحادية تزاوج جبرية، تباينًا في شكل الأعضاء التناسلية الذكرية. ولكن ماذا عن الإناث؟ ينبغي أن نتوقع أيضًا رؤية أنماطٍ مشابهة لتباين الأعضاء التناسلية الأنثوية؛ لأن هذه الأعضاء تمارس الانتقاء الخفي على الذكور. وقد سجلت الدراسات القليلة التي أُجريت على التراكيب التناسلية الأنثوية أنماطًا لافتة للنظر للتبايُن القائم على التطور المشترك بين السمات التناسلية الذكرية والأنثوية، في حيوانات تنوَّعت ما بين الخنافس والأسماك والبط، وهو ما يتماشى مع فكرة أن شكل العضو التناسُلي يخضع للانتقاء الخفي من جانب الإناث. ويبدو أن الأعضاء التناسُلية الذكرية تتطوَّر بنمطٍ مشابه لتطور الأسلحة ومظاهر الزينة الخاضعة للانتخاب الجنسي في فترة ما قبل التزاوج، مما يُصعِّب التفرقة بين السمات الجنسية الأساسية والثانوية.
لا نظن عمومًا أن ذكور الطيور لها قضيب، والواقع أن معظم الطيور لا تمتلك قضيبًا بالفعل. غير أن البط يُعَد استثناءً لهذه القاعدة. فبط البحيرة الأرجنتيني يمتلك قضيبًا يعادل طول جسده تقريبًا، أي نحو نصف متر ويُشبه في شكله نازعة السدادات الفلينية. ويختلف طول قضيب البط باختلاف الأنواع، والأهم من ذلك أنه يتباين بالترافق مع شكل الجهاز التناسلي الأنثوي كما هو متوقع إذا كان الانتقاء الخفي من جانب الإناث يمارس الانتخاب على تطوُّر الأعضاء التناسلية لدى الذكور. غير أن الجهاز التناسلي للأنثى معقَّد على نحوٍ لافت للنظر؛ إذ يحتوي على حويصلات غير نافذة وأنابيب ملتفَّة مع اتجاه عقارب الساعة. ومن المثير للاهتمام أن الجهاز التناسلي الأنثوي يلتفُّ في الاتجاه المعاكس للقضيب، مما يجعل من الصعب إجبار الأنثى على العملية الجنسية من جانب الذكر. وتشير هذه النتائج إلى أن التطور المشترك للسمات التناسلية الذكرية والأنثوية بين أنواع البط قائم على الصراع الجنسي، وهو الموضوع الذي سنناقشه في الفصل السادس.