الخاتمة والخطوة التالية
تمسُّ أفكارنا عن الجنس والنوع الاجتماعي جوهر كِياننا، ولا شيءَ تقريبًا سوف يكفل وجود حُجة مثل تعميمٍ فضفاض بشأن «طبيعة» الذكر أو الأنثى، أو على الأقل فيما يخصُّنا كبشَر. هل نحن أحاديو التزاوج بالفطرة؟ هل النساء ثرثارات أكثر، أو أكثر عاطفية، أو أقل ميلًا للاهتمام بالمهام الميكانيكية؟ وهل الرجال بُغاة متعطشون للسلطة؟ والأهم فيما يتعلق بجهودنا في هذا الكتاب، ما الذي تخبرنا به ملاحظاتنا عن الحيوانات بشأن تطور الجنسَين؟ إن التكاثر الجنسي هو محور حياة معظم الحيوانات، ومن ثم فالكتابة عن الانتخاب الجنسي تعني الكتابة عن كلِّ شيء تقريبًا في علم الأحياء؛ عن شكل الحيوانات وموائلها وسلوك بعضها تجاه بعض، وبالطبع كيفية تأثُّر الجنسين بالتطور.
نأمُل أن تكون الدراسات التي نوقشت في هذا الكتاب قد أكَّدت على شيء أدركه جميع الباحثين تقريبًا في مجال سلوك الحيوان، ألا وهو: أن الحيوانات تتنوَّع في سلوكها الجنسي أكثر مما نظن عمومًا، وهو ما يعني أنها لا تمثل نموذجًا للسلوك البشري الفطري، بغضِّ النظر عن طريقة تعريفنا له. فالإناث ليست دومًا الجنس الأكثر اهتمامًا وعطفًا، والذكور ليسوا دائمًا أكثر تنافسية من الإناث، وانتقاء شريك التزاوج والمنافسة يتَّخِذان أشكالًا عدَّة. وفي ظل الضغوط الانتخابية نفسها — المتمثلة في البقاء على قيد الحياة بما فيه الكفاية للتكاثر وتوريث الجينات إلى الأجيال التالية — تطوَّر لدى الحيوانات العديد من الحلول المختلفة. فذكَرُ سمكة أبو الشص هو عبارة عن جراب كامن ومذعن للحيوانات المنوية ملتصق بالأنثى، وتفضل أنثى الجندب النطاط الأمريكي الطويل القرون التناسُل مع ذكرٍ يقدِّم لها هدية عُرس مُغذية تزن ثلث كتلة جسده. وذكر بق الفراش يتحاشى الجهاز التناسُلي للأنثى، وبدلًا من ذلك يطعن شريكة التزاوج بعضوه الذكري الأشبه بمحقن تحت الجلد، وبهذا يطلق الحيوانات المنوية داخل تجويف جسد الأنثى. وربما تكون الطفيليات قد لعبَت دورًا في تطور الخصائص الجنسية الثانوية المبهرجة لدى الذكور؛ ومن ثم تتصرف الإناث كما لو أنها طبيبات تُجري فحصًا طبيًّا، باحثة بدقة عن أي علاماتٍ مرَضية لدى شركاء التزاوج المحتملين. ويبدو أن العلماء يكتشفون كل يومٍ أمثلة جديدة وغريبة لسمةٍ ما مُستخدَمة في الجنس. ويُحذرنا هذا التنوُّع المبهر أيضًا من المغالاة في الاعتماد على نموذجٍ واحد فقط أو بضعة نماذج محدودة للأنواع لتُقدِّم لنا إجابات بشأن آلية عمل الانتخاب الجنسي؛ فقد يكون من الممكن أن نستمدَّ فَهْمَنا لعلم الوراثة بالاستعانة بذبابة الفاكهة والبكتيريا فقط، إلَّا أن هذه المجموعة المحدودة من الأمثلة لن تُفلِح أبدًا مع الانتخاب الجنسي.
في الوقت نفسه، توفر لنا مبادئ الانتخاب الجنسي إطارًا نُفسر من خلاله كل هذا التباين. سيكون من الخطأ أن ننفض أيدينا ونقول إن كل شيء مباح في المملكة الحيوانية. ثمة مقولة شهيرة لتشارلز داروين في كتاب «أصل الأنواع»: «فإذا استطاع أحد أن يُثبت أن أيَّ جزءٍ من أجزاء تركيب عضوي في نوعٍ بعينِه من الأنواع، قد استُحدث خالصًا لنفع نوعٍ آخر، لتقوَّضت نظريتي؛ لأن ذلك لا يمكن أن يُستحدث بتأثير الانتخاب الطبيعي.» بالمثل، من شأننا أن نجادل بأنه حتى أغرب السمات الناشئة عن الانتخاب الجنسي لا يمكن أن تتطوَّر إلَّا لأنها تجعل حاملها أكثر جاذبيةً أو قدرة على التغلُّب على منافسيه؛ ومن ثم تزيد من كفاءة حاملها في سياق المنافسة الجنسية. وأحيانًا تأتي هذه الكفاءة بتكلفةٍ تتعلق بالانتخاب الطبيعي؛ فعلى سبيل المثال، ربما تُبرز الطيور الملونة التي تُصدِر تغريدات عالية نفسَها أكثر بالنسبة إلى الحيوانات المفترسة. ولكن ما لم تَكُن المزايا تفوق التكاليف فيما يتعلق باجتذاب شريك التزاوج أو القدرة على المنافسة، فلن تتطوَّر هذه السمة على أي حال.
تساعدنا نظرية الانتخاب الجنسي أيضًا في تفسير الأنماط الشاسعة للاختلافات بين الجنسَين التي نراها عبر مختلف المجموعات الحيوانية. لماذا تميل الذكور، لا الإناث، بوجهٍ عام إلى امتلاك الأسلحة المستخدمة في الاشتباك مع ذكورٍ أخرى من نفس نوعها وكذا الريش والفراء وغيرها من سمات التزيُّن الأخرى التي تجعل أنواعًا كثيرة مميزة؟ تكمُن الإجابة عن هذا السؤال في طريقة تأثير الانتخاب الجنسي على الجنسين. كما رأينا، فإن قدرة الذكور على توريث الجينات إلى الجيل التالي مُقيَّدة بعدد الإناث التي يمكنها تلقيحها. والمزيد من شريكات التزاوج — والقدرة على التنافس من أجلها — هو العنصر الأساسي للنجاح. من ناحية أخرى، تتمتع الإناث بمخزونٍ محدود من البويضات، وتلك البويضات يمكن أن تصير مُخصبة على نحوٍ شبه مؤكد. وفي حين أن الإناث يمكن أن تستفيد أيضًا من تعدُّد شركاء التزاوج، فإن نجاحها التنافُسي يعتمد إلى حدٍّ كبير على جودة العدد القليل من الذكور التي تسعى إليها لاتخاذها شركاء تزاوج. والاستثناءات قائمة، كما هو الحال مع إناث الجندب النطاط الأمريكي المتنافسة والذكور المدقِّقة في الانتقاء؛ لأن في ظروف معينة، تكون الذكور هي السلعة المقَيِّدة؛ نظرًا لأنها تُقدِّم هدايا العُرس المُغذية المكلفة.
ما هي أحدث النتائج التي توصلت إليها أبحاث الانتخاب الجنسي وإلى أين يَتَّجِه المجال؟ حظي الصراع الجنسي بقدرٍ كبير من الاهتمام على مدى العقد الأخير أو نحو ذلك، كما أوضحنا في الفصل السادس. مع بداية انطلاق أبحاث سلوك الحيوان، كان يُعتقد أنه لا يمكن لشيءٍ آخر أن يكون أكثر توافقًا من مصالح الذكور والإناث من وراء التزاوج، نظرًا بالطبع إلى أن المهمة الأساسية لإنجاب النسل واحدة لدى كِلا الجنسين. ولذا، كان يُعتقَد أن الانسجام هو القاعدة، مع وجود الإناث المتردِّدة التي تحتاج فقط إلى الاقتناع من خلال المغازلة وإبراز مظاهر الزينة بأن الوقت المناسب قد حان. غير أن ثمة نظرية الآن حول مزايا التزاوج التي كثيرًا ما تتعارَض بالنسبة إلى الجنسَين تسلط الضوء على السبب وراء ما يبدو من أن هذا الانسجام لا يتحقَّق دومًا. تكشف الفكرة القائلة إنه حتى تركيب الأعضاء التناسُلية الذكرية والأنثوية يعكس ضغوطًا انتخابية متعارضة على كِلا الجنسين، تكشف طرقًا جديدة لفَهْم وجه اختلاف الذكور عن الإناث والسبب وراء هذا الاختلاف. ولكن مرةً أخرى، قد يكون من المغري تعميمُ هذا الصراع والمغالاة في التأكيد عليه، حتى عندما تنعكس آثاره على سلوكياتٍ كثيرة وسمات أخرى، كما هو الحال مع تأثير الانتخاب الجنسي الأوسع نطاقًا. ومن وجهة نظرٍ مبدئية تنصُّ على أن الجنسين طالما كانا مُتوافقَين مع فكرةٍ أحدث عن التزاوج باعتباره ساحة قتال، نأمُل الآن أن تتعادل كفَّتا المِيزان. فليس بالضرورة أن يكون التزاوج، حتى التزاوج المتعدِّد، مؤذيًا للإناث ومفيدًا للذكور، والصراع يمكن أن يتجلَّى بدرجاتٍ متباينة من الشدة، تتراوح بين الانعدام وصولًا إلى التطرف.
ثمة نظرية أخرى حديثة نسبيًّا تُواصِل فتح أُفقٍ جديدٍ وثريٍّ أمام البحث العلمي ألا وهي الإقرار بأن الانتخاب الجنسي لا يتوقف بعد التزاوج. لقد تجلَّى تنافُس المنيِّ والانتقاء الخفي من جانب الإناث في مجموعةٍ متنوعة وواسعة من الأنواع، وإن كان الأول أوسع انتشارًا من الأخير. لم يستثمر الذكور الطاقة في الأسلحة الظاهرة للعِيان مثل القرون أو الأجساد الضخمة وحسب؛ وإنما في حجم حيواناتها المنوية وتركيبها أيضًا. ويمكن أن تتناسل الإناث مع عدة ذكور إلا أنها تحابي مجموعة فرعية فقط من هؤلاء الذكور في أبوة ذريتها. وهذه الظواهر التالية لعملية التزاوج كثيرًا ما يغفُل عنها المراقبون؛ إلَّا أن لتأثيراتها تداعيات مهمة على التطور. ولعلَّ من أقوى الأدوات الجديدة لتعقُّب وتقييم تنافس المني والانتقاء الخفي من جانب الإناث هي التطور التجريبي، حيث يقوم الباحثون بإعادة تمثيل عمليات الانتخاب في ظلِّ ظروفٍ خاضعة للرقابة الدقيقة ومشاهدة النتائج في الوقت الفعلي.
يتيح لنا علم الجينوم، وهو علم دراسة المجموعة الكاملة لجينات الكائن الحي، طريقةً لفَهْم كل أنواع السلوكيات، بما فيها السلوك الجنسي، على نحوٍ غير مسبوق. ومن خلال الاستعانة بالتكنولوجيا المطورة حديثًا التي يمكن أن تُحدِّد التسلسلات الجينية لأجزاءٍ طويلة من الحمض النووي، يستطيع الباحثون أن يطرحوا أسئلةً حول كيفية انعكاس جينات الكائن الحي — نمطه الجيني — على شكل ذلك الكائن الحي وسلوكه؛ أي نمطه الظاهري، وهو رابط وثيق الصلة بالانتخاب الجنسي. ونظرًا لأن السلوك مرِن للغاية، فإن تحديد أُسسه الجينية يساعدنا على رؤية إلى أي مدًى قد يستطيع الانتخاب أن يُغير سمةً معينة. يتيح لنا علم الجينوم أيضًا دراسةَ، ليس الحمض النووي فقط، أو ما يُطلق عليه «برنامج» الجينات، وإنما يتيح لنا أيضًا دراسة الترانسكربيتوم، وهو الحمض النووي الريبي الذي يخبرنا بكيفية التعبير عن تلك الجينات. فامتلاك الجين أمر قائم بذاته، ولكن السؤال الحقيقي هو ما إذا كان هذا الجين يظهر حقًّا تأثيراته على الكائن الحي الذي يحمله أم لا.
بوجهٍ عام، لم يُحقق تطبيق علم الجينوم في مجال سلوك الحيوان نجاحًا أكبر من ذلك الذي حقَّقه عند استخدامه في دراسة الحشرات الاجتماعية، مثل النحل والدبابير والنمل التي تظهر سلوكيات استثنائية مثل سلوك الشغالات العقيمة التي تكرس نفسها لتحقيق الرفاهية لمستعمرتها. كيف تطور مثل هذا الشكل الاستثنائي؟ لاحظنا على مدار مئات السنين كيف أصبحت يرقات نحل العسل شغالات بينما صارت يرقات أخرى ملكات، غير أن الأسس الجينية لم تتَّضِح حتى الآن. وقد أوضحت مجموعة متنوعة من الأدوات الجينومية أن خطوات عديدة بين تحوُّل البيضة إلى ملكة أو شغالة هي خطوات قابلة للارتداد، وهذه الجينات ليست مجرد مفتاح تشغيل وإيقاف للسلوك، وأن ثمة مسارات مشابهة يمكن استخدامها لتحقيق نتائج مختلفة.
ثمة موضوع آخر ذو صلةٍ أكبر بالانتخاب الجنسي؛ ألا وهو الاستعانة بعلم الجينوم لفَهْم تطوُّر «سلوكيات التكاثر البديلة»، التي ناقشناها في الفصل الرابع. على سبيل المثال، عُث البصل هو مفصليات دقيقة الحجم ذات صلة بالعناكب يستوطن مجموعة متنوعة من البصليات، كما يوحي اسمها، بما في ذلك الزهور مثل زهور الياقوتية أو الزعفران، وحتى البصل. ويحظى أحد أنواع عُث البصل بنوعَين تكاثُريين من الذكور قابلَين للتوريث، الذكور المقاتلة والذكور اليافعة المسالمة، مثلها في ذلك مثل متساويةِ الأرجل البحرية المذكورة في الفصل الرابع. تتمتع الذكور المقاتلة بزوجٍ ثالث أكبر حجمًا من الأرجل تستخدمها في القتال، بينما تملك الذكور اليافعة المسالمة أرجلًا شبيهة بأرجل الإناث ولا تنخرط في سلوكيات قتالية. وفي دراسة أُجريت على الترانسكربيتوم — نطاقات التعبير الجيني — لكلا النوعَين التكاثُريين من الذكور وكذلك الإناث، وُجد أن الجينات التي يُرجَّح التعبير عنها أكثر لدى الذكور تتطور بوتيرةٍ أسرع من الجينات التي يُرجَّح التعبير عنها أكثر لدى الإناث. علاوة على ذلك، تفوق النوع المقاتل من الذكور في التعبير عن عدد جينات أكثر من النوع المسالم بأربعة أضعاف. وخلَص العلماء الذين أجرَوا دراساتِهم على العث إلى أن الاختلاف بين نوعَي الذكور لا صلةَ له بوجود جينٍ معيَّن من عدمه، وإنما بالطريقة التي يُعبَّر بها عن نفس الجين في أفراد مختلفين.
اقتُرح استخدام علم الجينوم أيضًا بوصفه أداةً مفيدة لبناء فَهْم أفضل للصراع الجنسي. قد يحدث مثل هذا الصراع عند موقعٍ واحد على كروموسوم ما. وفي هذه الحالة، سيكون الجين المعبَّر عنه ويحابي كفاءة الذكر سيئًا إذا ظهر في الأنثى، والعكس صحيح. وهذا يعني أن الجين نفسه يخضع لانتخابٍ مضاد، استنادًا إلى الجنس الذي يرثه. إن تحديد الجينات التي تقف وراء الصراع الجنسي وتحديد موضعها داخل الجينوم ربما يكون من شأنه أن يطور فَهْمنا للسبب وراء إمكانية تسوية بعض الصراعات الجنسية واستمرار البعض الآخر نحو التصعيد.
ثمة مجال آخر سريع التطور في علم الأحياء التطوري؛ ألا وهو علم التَّخلُّق؛ أي دراسة التغييرات الطارئة على جينوم كائن حي خلال فترة حياته، والتي يمكن تمريرها إلى الذرية على الأقل لجيلٍ أو جيلَين تاليَين. ويتزايد إدراك العلماء لإمكانية أن تترك السلوكيات، رغم أنها قد تبدو عابرةً، بصمتِها على الجينات. ففي الكثير من الفقاريات، تُبرمَج بعض السلوكيات المحددة للجنس قبل الميلاد وبعده مباشرة، أو خلال الانتقال من فترة النشأة إلى فترة البلوغ، عندما يتعرض المخ إلى مستوياتٍ مختلفة من الهرمونات مثل هرمون التستوستيرون. كما تحفز الهرمونات تغييرات في التعبير عن الجينات المرتبطة بالسمات المنتقاة على الصعيد الجنسي، وهو ما يعني أن البيئة يمكن أن تُغير آلية عمل الجينات. ويمكن تمرير التغيرات الجينية، بدورها، إلى الذرية. ومثل هذه التغيرات، التي تحدث داخل الأجيال، التي تطرأ على البرمجة الجينية تكون عُرضة أيضًا للأضرار البيئية مثل التلوث. ويتدارس الباحثون الطرق التي قد تؤثر بها مُسببات اختلال الغدد الصماء — المواد الكيميائية التي تُعيق الأنشطة الطبيعية للهرمونات في الجسم — في النهاية على السلوك الجنسي والسمات المرتبطة بالجنس.
يُعد التحرير الجيني أحدث الآفاق التي وصل إليها علم الوراثة، وهو طريقة لإدخال مادةٍ جينية جديدة إلى الكائن الحي واستبعاد مادة أخرى تُعتبر غير مرغوب فيها. وعادةً ما تُناقَش التقنيات المستخدمة فيه في سياق صحة الإنسان، بحيث يمكن تحرير جينٍ مَعيب وإحلال جين فعَّال محله؛ ولكن سيأتي اليوم الذي تُستخدَم فيه مثل هذه الطرق في التطور التجريبي بلا شك؛ ومن ثم يمكن أن يكون ذا صلة بالانتخاب الجنسي. تخيل إمكانية إحلال جينٍ يُوجَد عادةً لدى الإناث محل آخر يُوجَد في الذكور، والقدرة على رصد النتائج في الكائن الحي أثناء تطوره. والمستقبل هو ما سيُحدِّد كيف سيُستعان بهذه الأدوات لتساعدنا في فَهْم التطور والأسس الجينية للسلوك الجنسي.
في النهاية، على الرغم من أننا نحاول بالأساس فهم الانتخاب الجنسي لنكتسب معرفة أكبر بالعالم وسكانه، قد تكون مثل هذه المعرفة مفيدة أيضًا في مساعينا نحو الحفاظ على التنوع البيولوجي. فيمكن أن يُساعدنا فهم نظام التزاوج وسلوك المغازلة والتودُّد لدى الأنواع محل الدراسة في ضمان نجاح عمليات التزاوج. يُعلمنا الانتخاب الجنسي أن التزاوج نادرًا ما يكون عشوائيًّا، ومجرد الجمع بين ذكرٍ وأنثى من النوع المناسب لا يضمن بالضرورة نجاح التكاثر. بالإضافة إلى هذا، وكما أشرْنا في الفصل السابع، فالسماح للإناث باختيار شركاء التزاوج ربما يُتيح تطهير المجموعة من الجينات السيئة، وفي النهاية يزيد من احتمالية استمرار المجموعة أو النوع.
لا يزال هناك الكثير لمعرفته بخصوص طرق انخراط الحيوانات في عملية التكاثر. وفَهْم كيفية تطور السلوك الجنسي، بالإضافة إلى السمات المفرطة عادة المصاحبة لذلك السلوك، يعني فَهْم الطرق المعقَّدة التي تتفاعل بها الطبيعة مع التنشئة. وحتى داروين نفسه اندهش من قدرة الانتخاب الجنسي؛ إذ ذكر في كتاب «نشأة الإنسان»: «سوف نرى أيضًا، وهو ما كان لنا أن نتوقَّعه على الإطلاق، أن القدرة على استمالة الأنثى كانت في بعض الأحيان أهمَّ من القدرة على هزيمة الذكور الأخرى في المعركة.» وبعد مرور ١٥٠ عامًا تقريبًا، نتساءل عمَّا يمكن أن نتوقَّعه بشأن أعاجيب الانتخاب الجنسي.