كلمة — أيضًا — لا بدَّ منها
أريد أن أتكلم بصراحة في موضوع أنا متهم به؛ فمنذ بضع سنوات قامت ضدي حملة، بدأت من بعض كُتابنا وصحفيينا الصغار الذين يراسلون صحفًا ومجلات عربية، ثم أصبحتُ الموضوعَ المفضَّل لصفحات وملاحق الأدب في تلك الصحف، ثم أصبح أول سؤال أُسأَلُه في أي حديث صحفي أو أدبي، وأقول سؤالًا، ولكنه في الواقع يُذكر على هيئة اتهام وكأنه اتهام بالخيانة العظمى: لماذا تركت الأعمال الأدبية، ومنها القصة القصيرة والرواية والمسرح واتجهت للمقالة الصحفية؟
وكنت أجيب إجابات زاهدة أحيانًا، زاعقة أحيانًا أخرى، أقول فيها يا ناس أتريدون من رجل يرى الحريق يلتهم بيته أن يترك إطفاءه للآخرين، وأن ينتحي ركنًا من هذا البيت المحترق ويكتب قصة أو رواية عن هذا الحريق الذي بدأ يمسك بجلبابه؟ إني إنما أدافع في مقالاتي تلك، دفاعًا يوميًّا عن وجودي اليومي وعن كل قيمي وكل ما أومن به، وأذود عن عِرضي وعِرضكم وشرفي وشرفكم، ولا أفعل هذا خارج دائرة الكتابة، فأنا لم أنضم إلى حزب ولا كوَّنت تنظيمًا، أو هاجرت إلى فرنسا أو إنجلترا، وإنما أنا قاعد في داري القاهرية إلى الأبد أحاول بكل ما أملك من جهد أن أقوم بدوري ككاتب، وإذا كنتم أنتم تسمونها «مقالة صحفية» فهذه في الواقع تسمية خاطئة تمامًا، باعتبارها تكرارًا لمفهوم مقالات فترة الثلاثينيات والأربعينيات التي رسَّخت لدى القارئين فكرة عن أن المقالة عمل عقلاني محض، لا دخل للعاطفة أو الوجدان أو الفن فيه، وإنما هي «أفكار» مرتبة ترتيبًا منطقيًّا، كطريقة حل تمارين الجبر والهندسة، تؤدي إلى نتيجة. أنا أكتب كتابة انطباعية، والانطباعية مدرسة حتى في الفن التشكيلي؛ فأنا أترك الواقع ينطبع على مخيلتي ويرسم صورة قد تكون رهيبة وقد تكون متناقضة ومضحكة، ولكنها تحتوي على كل عناصر العمل الفني الانطباعي، وأحاول أن أوصل هذا الانطباع إلى الآخرين عن طريق ما سمَّيته «المفكِّرة». هي إذن ليست مثل «مقالات» العقاد، أو طه حسين أو سلامة موسى بل في حقيقة الأمر ليست مقالات بالمرة لها أولًا وثانيًا وثالثًا، ثم استنتاج أخير على طريقة الأكاديميين أو البحوث والمقالات الأكاديمية، ولكنها نوع من الفن الانطباعي المكتوب قد يملك صفات القصة ولكنه ليس قصة، وبعض خصائص الشعر ولكنه ليس شعرًا، وفيه ملامح من المسرح ولكنه ليس مسرحًا، وإن احتوى عناصر كثيرة من عناصر الدراما.
ولقد ظلوا يلحون عليَّ بالسؤال: لماذا تركت الفن إلى الصحافة؟ وأنا أحاول إفهامهم ما قلته سابقًا، دون جدوى، وأخيرًا، بدل الانفعال، قنعت بالسخرية — منتهى الحكمة — وقلت من يدري عسى يأتي ناقد يومًا يُنصفني ويُفهم هؤلاء الناس ماهية الكتابة الفنية أصلًا، وأنها في أحيان لا يمكن أن تندرج تحت عنوان محدد مثل القصة، أو كما كانوا يسمونها الأقصوصة أو الرواية أو القصيدة، أو كما كان يسميها المرحوم الدكتور محمد مندور «الأوتشرك»، إذ هي أيضًا ليست كذلك كما في فن «الأوتشرك» الروسي أصلًا.
ولهذا يا عزيزي القارئ أنا أجمع شتات تلك الأعمال بين دفتي كتب، أراعي في كل منها أن يكون هناك خيط ما بينها ليحقق الكتاب في النهاية «رؤية» كاملة، مثلما يحققها، في النهاية، أي عمل فني طويل.
وقد نجحت كثير من الكتب في أن يتلقفها القراء، سواء من كان قد قرأ بعضها أو من لم يقرَأْها. كتاب «الإرادة» مثلًا، طُبع ست طبعات، «فقر الفكر وفكر الفقر»، «أهمية أن نتثقف يا ناس»، «خلو البال المصري»، وغيرها، عدة مرات وهي تطبع وتُقرأ وتؤدي رسالة تعجز القصة أو الملحمة عن أدائها.
من أجل هذا أقدِّم لك هذا الكتاب، على الأساس السابق، فهو ليس بحثًا في الإيدز، ولا في الإشعاع، ولا في أفريقيا، ولكنه بحث دائب عن الداء جنبًا إلى جنب مع الدواء.
ومن يدري، لعل وعسى، يشفي، أو على الأقل ينجح في أن يضيء للقارئ أشياء كانت مجرد مشاكل عقلانية محضة، لا يجد لها حلًّا.
فإذا لم يفعل الكتاب ومحتوياته سوى هذا، وإذا وصلت الرسالة، فإن سعادتي لن تقدر وجهدي الكبير في كتابتها سيرد إليَّ أضعافًا مُضاعَفة.
القاهرة، يوليو ٨٨