صباح الخير
من أغرب الأشياء التي تجعلك تعتقد أن التركيبة النفسية للجنس البشري متشابهة إلى أبعد الحدود، كل ما في الأمر أن العوامل التاريخية والجغرافية والطبيعية هي التي تصنع الفروق بين الأجناس، من أغرب تلك الأشياء تحية الصباح إذا أشرقت الشمس، وتحية المساء حين يحل الظلام؛ فهي بالعربية مثلًا صباح الخير، وبالإنجليزية جود مورننج «صباح الخير»، وبالألمانية جوتن مورجن «صباح الخير». وبالروسية دوبرى أوترا «صباح الخير». وبالإيطالية بونجورنو «صباح الخير» والفرنسية بونجور، وكذلك في الفلندية والهولندية والسواحيلية، وكل ما يخطر على بالك من لغات. أيضًا تحية المساء: مساء الخير بالعربية، وبونسوار «مساء الخير» بالفرنسية، وجود إيفننج بالإنجليزية وجوتناخت بالألمانية، وبوناسيرا بالإيطالية، وكذلك بالروسية والهندوكية والتايلاندية والكي سواحيلية.
ولي عشرات السنين وأنا أتأمل هذه الحقيقة البسيطة، وأظن أني كتبت عنها مرة وقلت إن نفسية أي إنسان في أي مكان تستقبل مشرق الشمس بنفس الإحساس، وتستقبل مقدم الليل بنفس الإحساس، ولكن هذا في رأيي لا يكفي؛ إذ لا بدَّ أن إحساس الإنسان بالخير ومعنى الخير، وقدوم الخير، والفرق بينه وبين الشر، وتفرقته بين الخير وبين الشر، معنى ذلك أنها أشياء قديمة جدًّا في النفس البشرية، وشموليتها في العالم كله تدل على أن الإنسان البدائي كان يفرق بالسليقة — حتى دون أن يعي معنى الخير ومعنى الشر — كان يفرق بينهما، أنَّى وُجِد، سواء أكان في جوف الأحراش أم في قمم الجبال وأعماق السهول، في الشمال والجنوب والشرق والغرب. والمعنى الأخطر لهذا أنه مع بداية نمو المعاني المجردة وإدراك الإنسان البدائي لهذه المعاني، بعد أن كان لا يدرك إلا بحواسه المباشرة وبأحاسيسه، تلك التي ظلت تتشابك وتتعقد حتى بدأ «عقل» الإنسان يوجد، بل حتى حين بدأ «عقل» للحيوان يوجد، حين حدث هذا بالنمو التلقائي؛ معناه أن التطور الذي حدث لخلايا عقله والروابط والعلاقات الكيميائية والإنزيمات وأدق مراكز الأعصاب، كانت هي الأخرى في حالتها قبل وجود العقل، تحس بالخير وبالشر، دون وعي؛ لأنه من هذا الإحساس اللاواعي، نفسه تخلق الإحساس الواعي بالخير وبالشر. هي مسألة علمية عويصة ولكني من هؤلاء الناس الذين يعتقدون أن الحياة خيِّرة بطبيعتها، حتى في تركيباتها العضوية واللاعضوية؛ فالنبات خيِّر بطبعه وكذلك الحيوان، ولا بدَّ حينذاك أن يكون الإنسان خيِّرًا بطبعه. أما الشر فهو القاعدة الشاذة التي تنتجها الظروف الشريرة حين تتكاتف، مثل تواجد الطمع والأنانية مع البيئة المناسبة لخلق إنسان أناني شرير، أو حين يقع الشر في مصادفة شريرة تجعل إنسانًا معينًا يخرج من بيته في لحظة معينة إلى مكان معين «ليتصادف» أن تمر عربة مجنونة السرعة تدهمه وتأخذ عمره.
نعم. إن إدراك الخير المختبئ في النهار إذا جاء النهار، وفي الليل إذا حان الليل، إدراك قديم جدًّا، قِدم الحياة البشرية، بل أقدم من الحياة البشرية نفسها؛ فالأميبا، تلك المُركَّبة من خلية واحدة تُدرك الخير في النور حين تنجذب إلى النور وإلى الطعام البدائي يغذيها، وابتعادها عن الشر ممثلًا في عدو مجهول مقترب أو ظلام محدق.
أتمنى لكم صباحًا خيِّرًا يا سكان العالم كله، وعلى الأخص سكان عالمنا العربي، ذلك الذي يكاد يحدق به الشر وينتصر عليه.