الخالق الأول والأخير
أروع قراءاتي الشخصية هي تلك التي أقرأ فيها كتابًا جديدًا عن موضوع علمي لا يزال مجهولًا، أو إن كنا قد عرفنا أشياء عنه، فإننا لم نعرف بعدُ كل الحقيقة، ومسألةُ العلم والجهل معادلة غريبة، فازدياد علمك بالأشياء، أحيانًا يزيدك جهلًا بها، حتى إنني، شخصيًّا، أحيانًا أعرَّف العلم بأنه كم علمك بمدى جهلك بالموضوع الذي تفكر فيه، فمثلًا علم الفلك في السنوات الأخيرة استطاعت الوسائل العلمية الحديثة مثل التلسكوبات ذات العدسات القوية جدًّا، والتلسكوبات التي تستعمل اللاسلكي للتصنت على الأحداث الكونية البعيدة، وتلك التي تستعمل أشعة الليزر، بالاستعانة بأينشتاين ونظرية النسبية العامة وتصوره عن الكون، استطاع هذا كله أن يجعلنا نرى كونًا غريبًا تمامًا، أكبر بكثير من الكون المستأنس الذي كان يتصوره العلماء أيام فلاسفة وعلماء العرب القدامى، مثل ابن سينا وابن الهيثم إلى أواخر القرن الماضي؛ فقد ثبت أن الكرة الأرضية ليست سوى كوكب مسكين في المجموعة الشمسية التي ليست سوى شمس متواضعة في إحدى أذرع مجرتنا، وأن مجرتنا ليست سوى واحدة من ملايين المجرات التي تكوِّن «كوننا»، وأن كوننا هذا ليس سوى كون واحد من ملايين الأكوان التي تشكِّل الكون الأكبر، وإلى هنا انتهت رسائلنا الحديثة جدًّا وقدرتها، وظل السؤال حائرًا، أتلك هي نهاية الوجود، أم أننا فقط وصلنا إلى هنا، وأن الطريق لمعرفة نهاية النهاية للكون الأكبر الموجود لا يزال طويلًا جدًّا؟!
بمعنى أن علوم الفلك الحديثة قد كشفت لنا أشياء جديدة ولكنها أيضًا كشفت لنا كم «الجهل» الذي لا يزال أمامنا للوصول إلى التصور الأعمق.
وإذا كان الفلك هو علم دراسة الأكوان المرئية الكبيرة، فعلوم الذرة هي علوم دراسة الأكوان الأصغر كثيرًا جدًّا التي تشكِّل الوجود «المادي» ولا تستطيع ولا يمكن أن نرى مكونات الذرة إلى الآن، فأي محاولة لرؤيتها تستعمل ضوءًا أو أشعة «إكس»، أو طرقًا حديثة جدًّا ليس هذا مجال شرحها، وهذه الطرق نفسها تؤدي إلى تغيير تركيب الذرة، بحيث لا تعود ذرة؛ بحيث تتشتت محتوياتها على هيئة انفجار ذري، لو كانت النواة كبيرة كنواة اليورانيوم أو على هيئة وابل من الإشعاعات المكونة من أجسام صغيرة جدًّا تسمى أ، ب، ﺟ … إلى آخره.
وحين كنت في لندن قضيت يومًا بأكمله في مكتبة «ماندارين» في «ناتنج هيل جيت» أبحث عن آخر ما أخرجته المطبعة في مجال تركيب الذرة بالذات؛ فهوايتي الكبرى هي دراسة الطبيعة النووية ومتابعة بحوثها، ليست متابعة متخصص ولكنها متابعات هاوٍ، على شيء قليل جدًّا من العلم، بمعادلاتها، منذ المعادلات الساذجة التي كنا نأخذها في ثانوي، إلى المعادلات المعقدة جدًّا التي أفرزتها نظرية الكم وماكس بلانك، ونيل بوهر وأينشتاين. إلى آخر هؤلاء الرواد الحديثين.
ولا أريد أن أجعل هذا الموضوع موضوعًا علميًّا ثقيل الدم؛ فأنا أريد أن أصل إلى خلاصة ما قرأته عن تركيب المادة، وأيضًا لا أريد استعمال الأسماء العلمية مثل الميزونات والبوزيكرونات والميكو كونز، إلى آخر تلك القائمة. خلاصة ما انتهى إليه العلماء أن الذي يعطي للذرة مواصفاتها ووزنها ويُبقيها على قيد الوجود الذري وعمرها الذي يُقدَّر بواحد وأمامه ستة وعشرون صفرًا من السنين، هو ما يسمى بنواة الذرة. وقد كنا في الخمسينيات ندرسها على أنها مكونة من «بروتونات» فقط، حولها تلف إلكترونات، يختلف عددها ومجالاتها باختلاف الذرات، وأن ما بين الإلكترونات والبروتونات «فراغ» ذري. وقد ثبت أن هذا كله أضغاث أحلام؛ فالبروتون ليس سوى «عالم» صغير بأكمله من الجسيمات وأن لا فراغ في الذرة سواء داخل النواة أو خارج النواة، وأن الإلكترون نفسه الذي كان يعتبر أصغر وحدة للوجود، ليس سوى عالم مركب أصغر وأصغر، وأن فيه هو الآخر جسيمات أصغر وأصغر.
في ماذا تسبح تلك الجسيمات وماذا يربطها ما دام ليس هناك، في الذرة أو في الكون، فراغ؟ وهل هناك فعلًا فراغ أم أن «الفراغ» هو الآخر خرافة؟
هل تتابعونني إلى الموضوع القادم؟