أنا غير خائف على أنفسنا
أنا شخصيًّا غير خائف أبدًا على أنفسنا كعرب بل لست خائفًا على الفلسطينيين أنفسهم من إسرائيل، في الحقيقة أنا خائف على أنفسنا من أنفسنا.
إن دولة إسرائيل القائمة الآن كانت فكرة أو مبدأ اعتنقه بعض المتطرفين اليهود الذين سمَّيناهم بعد هذا «الصهاينة» وكان شأنهم في المجتمع اليهودي المبعثر في أنحاء العالم شأن «الخوارج» في الدول الإسلامية مثلًا، أو شأن الولاة والأئمة في إيران، بل ربما أقل كثيرًا، ولكن باعتبارهم شعبًا ظل طوال التاريخ أقلية مضطهدة في كل بلد أوروبي أو غير أوروبي عاش فيه، لاقت فكرة «هرتزل» وزملائه حماسًا أدى إلى تجنيد عدد أكبر وقيام منظمات إرهابية لتحقيق الفكرة وخلق رأي عام عالمي أدى إلى انتزاع وعد «بلفور»، وبعده بست وأربعين سنة قامت إسرائيل كدولة، وتصور كثير من الإسرائيليين أنهم قد وصلوا إلى الذروة وحققوا الفكرة التي كان يبدو أن تحقيقها من المستحيلات، ومجرد تحقيق الفكرة أدى إلى انضمام معظم يهود العالم إلى هؤلاء القادة الصهاينة ودولتهم الوليدة الجديدة التي أرادوها ديمقراطية ليبرالية حلوة كالعروسة في وسط الدول العربية المتخلفة العجفاء حينذاك.
ولكن من كانوا وراء المشروع الإسرائيلي لم يروا سوى أحلامهم وامتداداتها، ولم يدركوا حتى أبسط قوانين الطبيعة، من أن لكل فعل رد فعل مساويًا له في المقدار ومضادًّا له في الاتجاه، وهكذا بينما تخلَّقت إسرائيل الدولة، تولَّدت فكرة القومية العربية والوحدة العربية وكانت ثورة ٢٣ يوليو، واشتعل العالم العربي كله صوتًا واحدًا ضد إسرائيل.
ولأنهم كانوا — أي العرب — مجرد أصوات وخطب ميكروفونات، استطاعت إسرائيل أن تهزم الدول العربية؛ أقصد مصر وسوريا والأردن في أي حرب دخلتها، وبهذا تحولت الدولة والعروسة إلى دولة شرهة مصاصة للدماء تحلم أحلامًا إمبراطورية هوجاء، مثل استقدام جميع يهود العالم لاحتلال المنطقة العربية كلها بالقوة والإكراه، والتوسع وضم الأرض حتى سكروا بخمر يحرز الانتصار الذي حدث غيلة وعن دهاء وخبث وليس أبدًا عن شجاعة قتال أو روح مقاتلين؛ فاليهود — بطبيعتهم — ليسوا مقاتلين، وكل ذكرياتهم عن القتال مأخوذة من أساطير التوراة ومعاركها القصصية، وهي النغمة التي ظلوا يعزفون عليها عند الأجيال الجديدة ليثيروا فيهم روح الأجداد ويواصلوا انتصاراتهم عبر التاريخ.
إلى أن فاجأتهم حرب ٧٣ بما كانوا لا يتوقعونه أبدًا، أن ينهزموا أمام المصريين والسوريين وحدهم، وما لم يتدخل الأمريكان كان يمكن أن تصبح الهزيمة حقيقية وأمرًا واقعًا، ولولا الاتفاقات غير المكتوبة لضاعت الدولة الأسطورة أو أسطورة الدولة.
ثم جاءت انتفاضة الشباب والصبية والأولاد والبنات، جاءت أخيرًا ثورة الحجارة لتكشف القناع عما يسمَّى «جيش الدفاع» الإسرائيلي، عن قيادة دولة إسرائيل وتعطشها للدماء ولإخضاع الشعوب الأخرى بالرصاص في الظهر وفي المليان والحرث بالدبابات والبولدوزرات.
ولكن ما حدث في ناحيتنا (الناحية العربية والإسلامية) كان هو الأخطر؛ فإن انتصار الدولة العنصرية اليهودية كانت ردة فعله الطبيعية قيام حركات إرهابية إسلامية، وتعصبًا ليهوديتك، أنا متعصب لإسلامي ومسيحيتي وشيعتي، وفي منطقة موبوءة بالتعصب من قديم الأزل، جاءت تلك الدولة المتعصبة لتؤجج التعصب من جديد، تعصب ممكن ببساطة شديدة أن يتشابك ويتساند ويسقط الحكومات العربية الموجودة ويتولى هو ذبح الإسرائيليين وإلقاءهم في البحر كما ظلوا يتقوَّلون؛ فثلاثة ملايين متعصب إسرائيلي يمكن أن يهزموا مائة وعشرين مليون عربي، ولكن هذه الملايين الثلاثة ستذوب تمامًا أمام مائة مليون متعصب عربي، وهذه هي الكارثة الحقيقية. فإنها لن تقضي على إسرائيل فقط، ولكن الردة الحضارية التي ستحكمنا بعدها ستؤخرنا إلى مئات السنين.
إن إسرائيل بما تفعله، بعنادها وتعصبها وعماها، إنما تسير في طريق الانتحار مهما حازت من قنابل وأسلحة، وهو انتحار سنعاني منه نحن كما لم نعانِ في أي فترة من فترات التاريخ، وحتمًا سننتصر، ولكن الردة التي يسوقوننا إليها، والتعصب الذي لا بد منه لهزيمة العدو، سندفع نحن ثمنه الفادح من تقدمنا وحضارتنا وكل ما حققناه من حضارة وتقدم!
وهنا تقع الكارثة.