حين انعدلت القضية
لأمر ما، كنت — ولست أدري لمَ؟ — أتصور أن إسرائيل دولة شديدة الذكاء والخبث، تخطط إلى أبعد الآماد، وتحقق خططها بطول بال، وبدقة، وتخفي أهدافها عن الجميع، حتى عن أصدقائها الأمريكان.
وحين قام الجيش المصري بهجومه المفاجئ في حرب ٧٣ وبعد ٢٤ساعة، كان الجيش الإسرائيلي قد تمزق إربًا، وتشتت أمام الجحافل المصرية وأصبح الخطر يهدد إسرائيل نفسها وليس جيشها في سيناء، بدأ هذا التصور عن إسرائيل وذكاء قادتها ومخابراتها وقوَّادها يتهاوى أمام ناظري تمامًا، وبدأت أعتقد أن سر قوة إسرائيل سببه الأوحد ضعف القوة العربية وتمزقها وخلافاتها وزعاماتها الكثيرة التي تأبى كل منها إلا أن تكون المنفردة بالمجد والقيادة العليا والانتصار.
وحين انتهت الأمور إلى احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة تصورت أن إسرائيل ستستفيد باعتبارها أحدث أنواع الاستعمار الاستيطاني من كل الدروس ومن التجارب الإنجليزية والفرنسية والأمريكية في الاحتلال والاستعمار، وإنها ستُخضع هذه الأماكن بذكاء وأساليب سياسية وتآمرية يعجز الفلسطينيون المحتلون عن مقاومتها، ولكن أثبتت الانتفاضة الأخيرة للشعب الفلسطيني كله سواء في قطاع غزة أم في الضفة أم في الأراضي المحتلة منذ عام ١٩٤٨م، والتي اعتقدت إسرائيل أنها بمرور الوقت قد اندمجت في الكيان الإسرائيلي أو «تهوَّدت» إلى أبد الآبدين.
حيث حدثت هذه الانتفاضة ووجدت الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي يتصرفان قبلها بأغبى وأجرم طريقة يستعملها أي محتل؛ أي بمحاولة إخضاع الثورة العارمة بالقوة القاهرة وبالحديد والرصاص والقتل والنار. انتهيت إلى الاعتقاد أن إسرائيل ليست أغبى دولة محتلة فقط، بل أغبى من الاستعمار الأمريكي الذي انسحب من فيتنام ضاربًا عرض الحائط بسمعة ومجد وعظمة أمريكا التي سينال منها هذا الانسحاب، وأغبى من الاستعمار الإنجليزي الذي حين وجد مظاهراتنا في عام ٤٦ تجأر بالجلاء فيقابلها العساكر الإنجليز بالرصاص ويسقط الشهداء في ميدان قصر النيل (التحرير الآن) وفي ميدان المحطة بالإسكندرية سارع الإنجليز بالجلاء عن القاهرة والإسكندرية ليبعدوا بوجوههم الحمراء عن أنظار المصريين شبابًا كانوا أو نساء أو رجالًا.
ذلك أن أبسط المبادئ في التعامل مع إنسان أو شعب ثائر ألا تحاول استعمال القوة القاهرة معه؛ فالقوة لا تُخضع الثائرين أبدًا وإنما تزيد الثورة اشتعالًا، وسقوط الضحايا بالعشرات أو المئات لا يفلُّ من عضد الثائرين أبدًا، بل يعطيهم مزيدًا من أسباب الثورة المقدسة حين تجتاح شعبًا من الشعوب، تشتعل لأن الروح الجماعية هي التي تقضي على الإحساس الفردي بضرورة المحافظة على الذات، ويصبح الفرد مهما كان وصفه، جزءًا من قوة كبرى، أكبر من كل عدد، وعلى هذا يتصرف، وقد رأيت بعيني يوم خرجنا من كلية طب قصر العيني وانضمت إلينا بقية كليات الجامعة وزحفت المظاهرة الرهيبة في شارع قصر العيني إلى ثكنات قصر النيل الإنجليزية، وبدأ إطلاق الرصاص، كيف أننا كنا ونحن طلبة شباب أمامنا المستقبل العريض، ننظر إلى إطلاق الرصاص بكل استهتار وقد حدث أن أصابت رصاصة طالبًا كان بجواري مباشرة فانحنيت عليه غير عابئ بأن الرصاص لا يزال ينطلق تجاهنا، وانحنى معي عشرة من الطلبة ورفعنا الشهيد فوق أكتافنا ودمه يسيل، ونحن نُخرج مناديلنا نعطرها بدمه ونحاول إيقاف النزيف، نحمله ونهتف: الجلاء بالدماء، الجلاء بالدماء. وكنا نردد هذا الهتاف في كل المظاهرات تقريبًا، ولكن، هذه المرة والدم يسيل، طعم آخر ومذاق آخر، ومفعول السحر في أجسادنا حتى لقد كهربها تمامًا، وسارت فينا رعدة من يريد الموت فعلًا، بل يفضله في هذه اللحظة بالذات على الحياة.
•••
لقد ظلت القضية الفلسطينية تتقاذفها الأيدي والأهواء والاتجاهات الخاطئة، وقد كان رأينا ونحن شباب وطلبة أنه لا يجب أن تتدخل الحكومات العربية بجيوش منظمة في الثورة الفلسطينية، وإنما الثورة يقوم بها الشعب الفلسطيني نفسه ونساعده نحن بالتطوع والسلاح والأموال، ولكن إسرائيل وحلفاءها كانوا يريدون الجيوش النظامية ليفرضوا عليها الهدنة مرة، ثم ليكرِّسوا بهزيمتها ومفاوضات قبرص قيام دولة إسرائيل، ولو ظلت المسألة ثورة الشعب الفلسطيني نفسه، لما قامت دولة إسرائيل بهذا الاعتراف العربي، ولظل الشعب الفلسطيني ثائرًا وحاملًا السلاح، ولما هاجر؛ فإسرائيل تستطيع قتال الجيوش النظامية في ذلك الحين ولكنها أبدًا، لا هي ولا أية دولة في الدنيا، تستطيع قتال شعب بأكمله، وقد كان هذا فيما أعلم رأي عبد الناصر في القضية الفلسطينية، ولكن دهاء وذكاء قادة إسرائيل في ذلك الحين بن جوريون وديَّان ومائير وغيرهم رأى أن يحوِّل المسألة إلى مسألة حرب إسرائيلية مصرية تظهر فيها بمظهر المعتدية التي تريد اجتياح إسرائيل، إذن ستكون حرب دولة لدولة، وليس شعبًا مقهورًا مستعمرًا محتلًّا مأخوذة أرضه بالقوة ضد غاصبيه، وهكذا جرجر الإسرائيليون عبد الناصر إلى حرب ٥٦ وحرب ٦٧ وأصبحت المسألة مسألة مصر — والعرب — إسرائيل باشتراك سوريا والأردن، ولكن الحس الشعبي أبدًا لا يُقهر، فبهزيمة ٦٧ قامت فتح وبقية منظمات منظمة التحرير الفلسطينية لتملأ الفراغ، ولكن، لأسباب كثيرة حاولت تلك المنظمات أن تملأ الفراغ من الخارج، من الأردن مرة، ومن لبنان مرة أخرى، وبخطف الطائرات مرة ثالثة، وبقي الشعب الفلسطيني حبيس سجنه بإسرائيل يصدق وعود مؤتمرات القمة وصيحات دول التصدي، وينتظر يوم الخلاص وجهود السلام وعقد مؤتمر السلام وتواضعت المطالب الفلسطينية — حسبما قرأت في تصريح لأحد القيادات الفلسطينية الهامة — إلى حد الظفر بأي قطعة أرض فلسطينية يقيمون عليها كيانًا فلسطينيًّا مستقلًّا.
وحتى هذا رفضته إسرائيل بصلف وعنجهية وكبرياء وكأنهم هم أصحاب الأرض والقوة والنفوذ، والعرب جميعًا بما فيهم الفلسطينيون لا يساوون أمام قوتهم وقنابلهم قلامة ظُفر.
وأنا مع الأستاذ أحمد بهاء الدين في قوله إن مؤتمر القمة العربية الأخير الذي عُقد في عمان كان هو القشة التي قصمت ظهر البعير، البعير الذي يصل الفلسطينيين في الداخل، بالقوة العربية المزعومة في الخارج سواء أكانت فلسطينية أو عربية.
وهكذا حلَّ اليأس الكامل على الشعب الفلسطيني في الداخل، اليأس من أي تحرير يأتي من الخارج، ومن أية جيوش أو قمم عربية تنقذهم، بل أكاد أقول من أن تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية نفسها أن تحل لهم القضية في مؤتمر دولي يحرم على الفلسطينيين فيه أن يمثِّلوا أنفسهم ولا بد من تمثيلهم من خلال وفد أردني فلسطيني مشترك.
وأحيانًا يصبح اليأس هو الطريق الوحيد للأمل في حل جديد.
وهكذا فجَّر اليأس هذه الانتفاضة التي أعتقد أنها هي، وهي وحدها، التي جعلت إسرائيل تفيق من أحلامها الوردية في ابتلاع فلسطين كلها وإقامة الإمبراطورية من النيل إلى الفرات، هي وللإنصاف أقول عمليات الطائرات الشراعية وبداية القتال الجدِّي والهجوم على القوات الإسرائيلية المسلحة، وليس أبدًا مؤتمرات القمة أو خطف طائرات الركاب أو خطف الأطفال في لبنان.
وأقول إن إسرائيل تتصرف حيال هذه الهبَّة التي من المحتَّم أن تظل مشتعلة حتى تصبح ثورة، تتصرف بغباء لم يكن أحد يتصوره، ذلك أننا ننسى في أحيان كثيرة أن إسرائيل دولة عنصرية متعصبة، وما من متعصب إلا وهو يحفل بكم رهيب من الغباء وانعدام البصيرة، ولهذا يسمون التعصب بالتعصب الأعمى؛ لأن المتعصب لا يرى إلا أهدافه فقط والقوة وحدها هي التي يراها وسيلة لتحقيق أهدافه، إنه لا يرى الآخرين أبدًا ولا يرى لهم قضية أو منطقًا أو رأيًا أو حق وجود، هو وحده ورأيه ووجهة نظره المتعصبة المحدودة، وبعده الطوفان، وبعده كل الناس وكل الآراء أصفار على اليسار.
ولا أعتقد أن إسرائيل ستتحول من منطق القوة الغاشمة، ولهذا أتوقع أن تستمر ثورة الحجارة، ثورة الأطفال والشباب والذين علَّموهم ولقَّنوهم العبرية، وشرعية الدولة الإسرائيلية، ستستمر إلى أن يخبط الحائط البشري الصلد رأس إسرائيل، وحتى عند هذا لن تفيق؛ فالمتعصب لا عقل له ليغيب أو يفيق، المتعصب لا يرجع عن تعصبه إلا بالقوة الغاشمة المماثلة.
أقول هذا لعل بقية من عقل تكون لا تزال باقية في أدمغة الأمريكان والعقلاء اليهود فيرغموا هذا القاتل السفاح المتعصب شامير على قبول السلام؛ فهو آخر أمل لإنقاذ اليهود الإسرائيليين من مصير دموي محتوم.
فأخيرًا، وأخيرًا جدًّا، حمدًا لله، قد انعدلت القضية الفلسطينية، وانتهينا من هذا اللجاج الذي استمر طويلًا حول أنها حرب مصرية سورية إسرائيلية، أو حرب مصرية سورية أردنية عراقية إسرائيلية، أو أنها «مشكلة الشرق الأوسط» أو «السلام في الشرق الأوسط» ومن أن هذا الزعيم المصري أو ذاك هو المسئول عن النكسة أو الورطة أو كامب ديفيد، ومن خناقات بين العرب حول من الخائن ومن البطل، واتهامات وصراعات في سبيل «تحرير فلسطين»، أخيرًا انعدلت القضية وأصبحت قضية شعب فلسطيني محتل يقاوم غزاته ومحتليه الغاصبين المتعصبين الأغبياء، غباء المحتلين في كل مكان وزمان.
وحين تنعدل القضية، كما انعدلت، يأخذ الشعب المقهور حقه كاملًا، بيديه وبالقوة …
أما حين كانت مقلوبة ومميَّعة وضائعة بين الشركاء في الخارج فلم يكن هناك ثمة أمل في حلها …
اليوم فقط أحس، ومعي الدنيا كلها، بالأمل.