هذه المصر الأخرى
حين كنا ندرس التشريح الخلوي (من الخلية) على ميكروسكوبات، كان منتهى أحلامي أن أمتلك ميكروسكوبًا؛ إذ هو يُطلعني على عالم غريب، عالم الخلية ومكوناتها، والبكتريا والميكروبات، ويجعلني أراها رأي العين.
ولكن الميكروسكوب أيامها (عام ۱۹٥۰م) كان ثمنه أكثر من ألف جنيه مصري، وكان لا بد من استيراده من إنجلترا؛ ذلك أن المهم في الميكروسكوب هو نوع العدسات المستعملة فيه. العدسة العينية، والأهم، العدسة الشيئية، تلك العدسة التي في حجم يزيد قليلًا على رأس الدبوس، ولكنها تستطيع تكبير الأشياء ثلاثمائة مرة.
لم أكن أتصور يومها، ولم أكن أبدًا أستطيع أن أتصور أن الميكروسكوب يمكن أن يُصنَّع من ألفه إلى يائه في مصر؛ ذلك أن تلك العدسة الشيئية صناعتها من أدق أنواع الصناعات، وتتطلب مهارة فائقة في قياس بعدها البؤري فضلًا عن نوع خاص من الزجاج تُصنع منه.
وحين دخلنا مجموعة من رؤساء التحرير والكُتاب لا يزيدون على الستة مصنع البصريات التابع للهيئة القومية للصناعات الحربية، وقابلنا مهندسًا عظيمًا يدير المصنع وجدت في المعروضات ميكروسكوبات، ونظَّارات معظمة ميدانية ونظارات ترى بالليل؛ إذ تستطيع تركيز ضوء النجوم ثلاثين ألف مرة؛ فترى الليل وكأنه نهار، ونظارات ليزر تستطيع أن تنشِّن على الهدف في الليل وتوجِّه الصواريخ لتركب أشعتها وتصيب الهدف في لمح البرق، تصورت أن هذا كله مجرد تجميع لقطع نستوردها من إنجلترا أو ألمانيا، سألت المدير وعلى فمي ابتسامة، نحن طبعًا نجمِّع الميكروسكوب هنا؟
فقال لي بوجه يحمل كل ملامح التأكيد، بل نحن نصنِّعه بكل أجزائه الحديدية والزجاجية.
واندهشت تمامًا وسألته: أتعني أننا نصنع العدسات الشيئية أيضًا هنا؟
فقال: بل نحن نصنع العدسة الزيتية أيضًا.
والعدسة الزيتية لمن لا يعلم هي عدسة ترى من خلال نقطة زيت توضع بين العدسة والنسيج المراد فحصه، وتستطيع التكبير ستمائة مرة أي ضعف العدسة الشيئية.
وحينما رأى علامات عدم التصديق على ملامحي قال: سترى بنفسك هذه العدسات وهي تُصنَّع أمامك بواسطة عمال مصريين.
والحقيقة وأنا أتجول داخل العنبر النظيف تمامًا، الأنظف من حجرة عمليات أي مستشفى استثماري، رحت أتتبَّع صُنع العدسات من كتلة زجاجية وزنها أكثر من ثلاثة كيلوجرامات تؤخذ منها القطع وتظل الآلات المبرمجة بالكمبيوتر التي يبرمجها عمال مصريون عاديون، تظل الآلات تنحت فيها وتنحت إلى أن تصبح عدسة بالكاد ممكن رؤيتها بالعين المجردة.
ووجدت أن الميكروسكوب هو «أهيف» ما يصنعه ذلك المصنع إذا قيس بمنظارات الليزر، ومناظير الأشعة تحت الحمراء التي تصوِّر وترى في الليل بحيث بهذه المناظير تستطيع القوات المسلحة المدرعة أو نصف المدرعة أن تقاتل في الليل البهيم، وتحدد أهدافها بدقة وكأنها تقاتل في النهار.
أما المصنع الثاني الذي زرناه فهو عكس هذا تمامًا، إنه يبدأ بقطعة أسطوانية من الصلب وزنها ثمانية أطنان ويظل بواسطة الكباسات والمطارق التي تبلغ قوتها ٢٦ طنًّا على ألسنة المربع يطرقها ويعالجها، وبالمخارط يخرطها ويثقبها، وبمئات القطع يزودها بها حتى تصبح في النهاية مدفعًا متقنًا للغاية عيار ١٠٥ أو ١٣٠ أو أكبر من هذا بكثير، مدفع ميدان ومدفع مضاد للطائرات ومدافع دبابات، ومدافع محمولة على عربات مجنزرة.
وكل هذا أيها المصريون يُصنع في مصر، بمهندسين مصريين، وعمال مصريين، وبابتكارات مصرية لتعديل مدافع الدبابات الروسية، والعنبر كبير كبير، لا يوجد به إلا ما يزيد قليلًا على الثلاثين عاملًا ومهندسًا، وكل خطوة لها مقاييس وضوابط واختبارات، تُرسل إلى مصانع فرنسا وإنجلترا أو ألمانيا وتعود معتمدة من هذه المصانع العريقة.
أما المصنع الأخير مصنع صقر، صانع صواريخ صقر، فهو مصنع أتمنى أن يستطيع زيارته كل مصري ليحس ببلاد أخرى غير بلاد المجاري الطافحة والضجيج الهائل في الشوارع والميكروفونات، وفوضى المرور، مصنع غريب، يقوم بصناعة ١٨ ألف هي مكونات الصاروخ، يصل حجم بعضها إلى ملِّيمترين، والآلات التي تنتجها آلات مغلقة، تقوم بكل العمل، وليس على العامل إلا أن يبرمج الآلة ويراقب أداءها، وفي النهاية رأينا الصاروخ ينطلق ليصيب أهدافًا على بعد ٨٠ كيلومترًا.
الحقيقة لم أكن في حالة جسدية طيبة ومع هذا مشينا كثيرًا، وقضينا أكثر من سبع ساعات على أرجلنا نتفرج وننبهر، ونحس بالفخر وبالثقة بالنفس، وأروع ما شد انتباهي هو العامل والعاملة في ذات المصنع، ناهيك عن الدكتور أحمد مدير المصنع مَثل للعالم الصانع العارف المتمكن، والعامل المصري يعمل بمهارة عتاة العمال الألمان في دقتهم وانضباطهم التام المهيب، والانكباب الكامل على ما في أيديهم، لدرجة أنهم لم يكونوا يشعرون بنا، ونحن نمر أمامهم ونتحدث، لو عشنا كمصريين بهذه الجدية والخطورة لحللنا مشاكل مصر كلها في أقل من ثلاثة أعوام، هكذا قلت للفريق أبو شناف رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة الذي صاحبنا في الزيارة.
وكان يمضي كثيرًا ويؤلمني ذلك السؤال الذي طالما سألته لنفسي وللآخرين: إذا كنا قادرين على العظمة، فلماذا التفاهة؟
أجل؛ إذ بعد مغادرتنا المصانع بربع ساعة كنا في قلب القاهرة، قلب الفوضى والكلاكسات، والرشاوى والتهرب والتهريب، والاختلاسات والسرقات، والميكروفونات والضجة الشديدة التي لا ترى لها طحنًا وإنما هو طحن للأعصاب، وللآدمية وللإنسان.
إنني أرجو من المصانع الحربية أن تنظِّم رحلات لشباب الجامعات وحتى لموظفي الدواوين الذين يقولون: تعالى بكره. ليروا هذه المصر الأخرى، ليروا هذا المصري الآخر، فلعل شيئًا فينا وفيهم يتغير.