«الإيدز» المصري
التقيت بجارتنا الطيبة الشابة في المصعد، وكانت مشغولة بإدخال عربة طفل حديث الولادة، ثم حمل الطفل نفسه، ثم أدوات الطفل الكثيرة، وقد حاولت المساعدة ما أمكنني، ولكني فوجئت بها وقد أخذ المصعد طريقه إلى أعلى: ماذا تم في حكاية ألبان الأطفال المسمومة بالإشعاع؟
وهنا تنبهت إلى طفلها الرضيع وقالت: إن عمره أكثر من شهر، وأنا مضطرة لاستعمال الألبان الصناعية لإرضاعه، وما نُشر وقيل عن صفقة الألبان التي جاءت إلى مصر من قبل ووُزِّعت دون أن ينتبه لها أحد، والصفقة التي لولا أن أعلنت وزارة الصحة الألمانية عن خطورتها، ونبَّهت إلى أنها قادمة لمصر، لتسربت هي الأخرى إلى الأسواق دون أن يشعر أحد، كل هذا يجعلني لا أكاد أنام الليل خوفًا من أن يكون في اللبن الذي أُرضعه لابني لبنًا ملوثًا، وأنت تعرف أن الأعراض لا تظهر إلا بعد مدة، ماذا أفعل يا دكتور؟
أجل، ماذا تفعل تلك الأم المصرية الشابة وعشرات الآلاف من مثيلاتها والحكومة تعلن صباح مساء أنه ليس في مصر لبن مشع، ووكالات الأنباء والمصادر الرسمية الألمانية والهولندية تعلن أن لبنًا مشعًّا قد صُدِّر إلى مصر؟!
هل معقول أن تكذب حكومة ألمانيا ونعتبر أنها هي التي «تشنِّع» على شركاتها، وعلى نفسها وأن حكومتنا هي الحريصة على تكذيب هذه السلطات، وتكذيب الحقيقة وتكذيب الواقع وادِّعاء أن مصر خالية تمامًا من أية ألبان مشعَّة، أما الصفقة الجديدة التي قيل إنه أُنزل منها ستة وعشرون ألف «جوال» لبن مجفف، كل جوال يحتوي على خمسين كيلوجرامًا، وكل جرام من هذا اللبن يحتوي على نسبة مدمرة من الإشعاع، هذه الصفقة يعلن مجلس الوزراء، ولا أعرف علاقة الدكتور عاطف صدقي بهذا، ولا حماسه لإصدار بيان عن مجلس الوزراء يدحض فيه تمامًا أقوال وزارة الصحة الألمانية، ومرة تُصدِر وزارة صحتنا بيانًا تؤكد فيه أن اللبن لم ينزل من المركب الرابضة ولا تزال خارج الميناء، وأن ميناء الإسكندرية به من الأجهزة ما هو كفيل بفحص أية عينات لبن واردة وإثبات خلوها من الإشعاع المدمر، مع أني متأكد تمامًا، وأتحدى أي جهة حكومية أن تثبت لي أن في ميناء الإسكندرية جهازًا واحدًا لفحص الألبان بالذات لإثبات خلوها من الإشعاع.
مرة يقولون إن اللبن لم يأتِ إلى مصر مطلقًا.
ومرة يقولون إنه جاء وأُنزل إلى الميناء ولكن مُنع تداوله.
ومرة يقولون إن السفينة محجوزة خارج الميناء، ولم يؤخذ منها سوى عينات للفحص في معامل «أنشاص».
ومرة يكذِّبون المسألة تمامًا ويقولون: لا لبن مجفف جاء، ولا إشعاع هناك، ولا سفينة ولا صفقة ولا أحد استورد لبنًا مشعًّا، وكل ما تقولونه أضغاث أحلام وتخاريف كُتاب.
لقد فوجئت يوم الإثنين الماضي أنني لست وحدي الذي كتب عن هذا الموضوع وإنما كان في نفس العدد يوميات الأستاذ أحمد بهاء الدين عن نفس الموضوع، تلك اليوميات التي أعاد نشرها يوم السبت الماضي، وفي عدد الإثنين الذي كتبت فيه كان هناك برواز بارز كتبه الزميل محمود كامل، وعن نفس الموضوع أيضًا.
وكلنا طالبنا السلطات بالكشف عن اسم ذلك المستورد وتقديمه للمحاكمة بتهمة محاولة إبادة الأطفال والكبار المصريين.
وتوقعت أنا، كما توقع غيري، بعدما نكتب ثلاث مقالات عن موضوع واحد في جريدة واحدة «الأهرام» غير الكلمات التي كُتبت في الجرائد والمجلات الأخرى، أن تقوم الدنيا ولا تقعد لهذا الحدث، وأن يسارع مجلس الوزراء الذي تصدى للمشكلة بإصدار بيان يحوي الوقائع الحقيقية بعدما اتضح كل شيء وانكشفت الحقيقة على مستوى العالم كله من ألمانيا إلى إنجلترا إلى فرنسا إلى أمريكا.
ولكن مجلس الوزراء لم يحرك ساكنًا. ولا جهة حكومية أو غير حكومية أخرى تصدت للموضوع، وكأن من كتبوا مجرد أطفال أطلقوا بضع صرخات سرعان ما يسكتون و«يمر» الموضوع، وكأن شيئًا لم يكن!
كل ما في الأمر أني قرأت في أهرام الثلاثاء؛ أي اليوم التالي ليوم الإثنين، خبرًا «من ألمانيا أيضًا» ينفي ورود أية ألبان مشعة إلى الإسكندرية، وهنا أحسست كما أحس غيري أن المسألة ليست مسألة ألبان مشعة أو خطأ جهاز ولكنها مؤامرة على صحة الشعب المصري، مؤامرة لا يمكن أن نسكت عنها حتى نعرف المتآمرين وحتي ينالوا جزاءهم. إني أرجو من الكُتاب الذين كتبوا في هذا الموضوع ومن الصحفيين الذين تعرضوا له أن يستمروا في الكتابة حتى تظهر الحقيقة. أنا شخصيًّا سأفعل هذا، وإذا كان نصف مليون طفل مصري مهددين بالتشويه وبالموت على يد مسئولين لا يهمهم من الموضوع كله إلا إكفاء الماجور على الخبر والتكتم عليه، فإن هؤلاء المسئولين أنفسهم ممكن أن يبيعوا البلاد أو يخونوها ما دام باستطاعتهم هذا نهارًا جهارًا أن يبيعوا أرواح أطفال مصر وكبارها؛ فقد ثبت أن هذا اللبن المجفف يدخل في تركيب الجبنة والحلويات والزبادي والفطائر وأشياء أخرى كثيرة من أصناف الطعام، ثم إن أعراضه لا تظهر فورًا، إنما تأخذ وقتًا طويلًا لتظهر مثلها مثل أعراض مرض الإيدز، ولكنها إذا ظهرت يكون الزمام قد أفلت ويكون الطفل أو الإنسان غير قابل للعلاج، وليس أمامه إلا الموت المؤكد مصيرًا.
لن نسكت حتى نعرف بالضبط ماذا حدث؟ وكيف حدث ما حدث؟ ومن هم المذنبون الحقيقيون ومن هم المتسترون، ولمصلحة من يحدث هذا كله، ولمصلحة من يتم هذا التستر، ولمصلحة من تعمى أعيننا عن أن نرى حقيقة ما نأكل وما يتهددنا من خطر، لمصلحة من يتم هذا، وفي دولة متحضرة، وفي القرن العشرين؟!
إن بوكاسا قد أُزيح من منصبه كرئيس لجمهورية أفريقيا الوسطى نتيجة لقتله ثلاثين طفلًا اكتُشِفت جثثهم بالصدفة، ونحن عندنا في بلادنا نعرِّض حياة الملايين من البشر للإبادة ولا يُجازى مسئول واحد، أو حتى يُعرف أو يُعلن اسمه.
وليست هذه هي كل المشكلة.
لقد نشرت مجلة آخر ساعة المصرية تحقيقًا عن مراسلها (أظنه الزميل محمد فهمي) في بون، وكانت الدماء تغلي في رأسي وأنا أقرأ هذا التقرير الذي حدث أن شركة من الشركات الألمانية المنتجة للألبان الجافة قد أنتجت عدة مئات الآلاف من الأطنان ثبت بعد فحصها أنها تحوي كمًّا من الإشعاع يعادل ثلاثة أضعاف الإشعاع القاتل للإنسان، وهنا قررت وزارة الصحة الألمانية في تلك المقاطعة منع تلك الألبان من التداول وإنذار الشركة المنتجة بالتخلص منها.
وفعلًا وعن طريق الغش (الألماني في هذه المرة) والإجرام استطاعت تلك الشركة أن تبيع هذه الكمية إلى شركة في مقاطعة أخرى وأن تشحن إليها ثلاثمائة عربة من عربات السكة الحديدة مليئة بهذا اللبن المجفف.
ولكن الخبر تسرَّب وهاج الرأي العام في المقاطعة الجديدة وماج وكانت النتيجة أن بدأت تلك الشركة المشترية في محاولة إعدام كمية الألبان تلك ولكن لأن إعدام هذه الكمية يتكلف مبالغ طائلة مثله بالضبط مثل دفن النفايات الذرية؛ إذ لا يمكن التخلص منها بالحرق مثلًا، فالحرق يزيد من تكثيف الإشعاع القاتل في الرماد المتخلف عن الحريق ويصبح أشد خطرًا.
لأن العملية مكلفة جدًّا؛ فقد كان الأسهل على الشركة أن «تسرح» على بلاد العالم الثالث لتقبل أن تأخذ الصفقة فقط أي تنقلها من المقاطعة الألمانية ويهجع سكانها ويسكتون، وقد وجدت الشركة من يقبل على نفسه في مصر وفي أنجولا أن يشتري هذه الكمية بثمن بخس، مع أنها كانت مستعدة أن تعطيها لأي شركة أو شخص في العالم الثالث حتى دون مقابل، فقط يخلصها من هذه المصيبة الإشعاعية.
بل والمذهل الغريب أن صاحب هذه الشركة الألمانية جاء بنفسه إلى القاهرة «للاتصال» بالمسئولين ومحاولة تمرير الصفقة، وقد نجح في هذا، وقبلت جهة ما في مصر، شركة أو قطاع عام أو وزارة تموين أو مستورد مغامر، قبل أن يأخذ الشحنة، والمضحك المذهل أن صاحب هذه الشركة كان موجودًا في القاهرة إلى حين أُعلِنت الفضيحة من ألمانيا، وسافر بعد إعلانها بيومين وقرأت خبر سفره في إحدى جرائدنا اليومية.
بدلًا من القبض عليه، ومطالبته ومطالبة شركته ومطالبة الحكومة الألمانية بتعويضات لا تقل عن المليارات من الماركات، تركنا الرجل يسافر هو وزوجته، وأخفينا اسم الشريك المصري، وقبلنا أن تهرَّب الألبان إلى ميناء أنتويرب في هولندا، لتُشحن من هناك إلى الإسكندرية.
وجاءت الشحنة غير المباركة إلى الإسكندرية.
وأعلنت وزارة الصحة الألمانية عن الفضيحة.
وأعلن المسئولون المصريون أن وزارة الصحة الألمانية كاذبة دجالة تدعي كذبًا على شركاتها الغش وبيع السموم الإشعاعية.
وظلت السفينة واقفة في ميناء الإسكندرية.
الكارثة الكبرى أنه سيقع على عاتق مصر التخلص من السفينة وشحنتها. وإذا كانت دولة غنية قوية كألمانيا قد عجزت ميزانيتها عن أن تعدم الشحنة أو تتخلص منها، فكيف باستطاعة مصر، وهي الفقيرة التي تحيا بالكفاف وبالديون أن تقوم بإعدام الشحنة. إن إعدام الشحنات المشعة (واسألوا الصديق الخاص جدًّا أمريكا) لا يمكن أن يقوم به إلا دولة تنتمي إلى النادي الذري، أي دولة غنية؛ إذ هي تحتاج إلى أن تُشحن في صناديق من الرصاص تلقى إلى أعمق أعماق المحيط، وإلى إجراءات أخرى كثيرة تتكلف ملايين الملايين أو بالأصح مليارات الجنيهات والدولارات. وهذا ما لن نستطيعه أبدًا، لا كشعب ولا كحكومة.
إنها مشكلة أخرى كبرى، لا أعرف يا إلهي كيف سنحلها.
أو كيف ستبقى الباخرة الملعونة واقفة في ميناء الإسكندرية تهدد بتلويث جوها وقتل أهلها؟!
•••
كل هذا ومسئولونا لا يقيمون للموضوع وزنًا، وكأنه مجرد حالة «إيدز» واحدة تسربت إلى مصر، في حين أن الإيدز المصري الحقيقي هو الخوف من مجابهة المسئولية إلى درجة الخيانة أحيانًا، والخيانة ليست فقط أن تنضم إلى صفوف الأعداء، الخيانة أساسًا أن تعرف الحقيقة المهلكة لشعبك وتخفيها عن شعبك، لتحمي نفسك أو تحمي أناسًا أخطئوا بل وأجرموا ولا يستحقون الحماية.
•••
إن نصف مليون أم، وشعب مصر بأكمله يقف حائرًا مشلولًا أمام عدو لا يراه ولا يعرفه وأمام سلطات تتكاتف مع العدو لتخفيه، وكل هذا ولا أحد يتحرك، وأنا متأكد أنني وغيري كتبنا وسنكتب ولا حياة لمن تنادي.
ولهذا فالجريمة الأكبر من الاستيراد ومن عدم القدرة على التخلص من الشحنة هي جريمة السكوت على هذا كله.
جريمة متعمدة عن سبق إصرار وترصد لإخفاء الحقيقة.
ويتوقف القلم هنا عاجزًا عن أن يستمر وقد بلغ به الغضب حد الخرس!