أخبار وأخبار
في يوم واحد فقدت صديقَين ورفيقي عُمر، وفي نفس اليوم نُعي إليَّ وأنا في الفندق الكبير أُهنئ نفسي بنجاح الرحلة ونجاح الترجمات وانتهاء كل الأعمال وأعدُّ نفسي لثلاثة أيام بأكملها أحيا فيها باريس الحضارة والمسرح والجمال، ولكنني أوقظت في الثامنة صباحًا على تليفون يدق، «البقية في حياتك، أخوك مات.» أخي عبد الحي الذي تركته موفور الصحة زاخرًا بالتفاؤل والإيمان العميق، مات؟
قلت للصديق وللزميل الأهرامي الذي تكبَّد مشقة إخباري نقلًا عن الطبعة الثانية للأهرام، تلك التي لا تصل إلى الأهرام الدولي: «أرجوك، دعني قليلًا.» كان عقلي بعدُ لم يستوعب، كان الخبر لم يصل بعد إلى مراكز الإدراك. أخي؟ مات؟ كيف؟ وماذا يعني أنه مات؟ بينما أنا أحاول أن أوصل الخبر إلى الإدراك، والإدراك إلى الخبر، لست أدري كم مضى من الوقت ولكن التليفون دقَّ وجرى الكلام بيني وبين الصديق المتحدث عاديًّا، ولكني كنت أتحدث، لست تائهًا وإنما أتحدث على موجة أخرى، وإلى أناس آخرين، وإذا بالمتحدث يذكر لي أن عبد الرحمن الخميسي قد مات ونُقل إلى مصر ودفن، وأن نعمان عاشور هو الآخر قد مات، وكانت الأخبار تأتي ببساطة، ورسائل الموت وكأنها الجريدة تتسرب إليَّ من تحت عقب الباب متوالية، وبسرعة حتى بدا كما لو أنها صنعت دوامة اختفت فيها أسماء صديقي وأخي ولم يبقَ إلا فم الدوامة مفتوحًا ودائرًا وجاذبًا إلى أسفل، وأن تلك الدوامة حالًا سوف تبتلعني أنا نفسي، ولماذا لا تكون قد — الآن — ابتلعتني، وأني أتلقى الأخبار في العالم الآخر من عالم آخر، كنت وحيدًا في حجرتي، ووحدتي طالت حتى تحولت الحجرة إلى نسيج عنكبوتي للموت، أنا فيه الذبابة التي سقطت، والعنكبوت قادم، أراه قادمًا يزحف، احمرَّت عيناي وسال الدمع، ولكنني لم أبكِ، ضاقت الحجرة العنكبوتية حتى دخل العنكبوت في حلقي وحبس حتى الهواء.
كانت الساعة قد بلغت الرابعة، وكنت كالمنوَّم قد سألت عن مواعيد الطائرات وعرفت أني لن أعود إلى مصر إلا في طائرة المساء القادم، وكان عليَّ أن أمضي ساعات انتظار طويلة أكثر من سبع وعشرين ساعة أنتظر الموت، أو الإنقاذ. طائرة تحملني إلى مصر.
تجربة أرجو ألا تمر بأحد، كان اليومان السبت والأحد عطلة، وباريس خاوية من سكانها الأصدقاء، وأنا لم يكن في صحبتي إلا الموت، وإلا عقل توقف وأبى حتى أن يتذكر أو يصل إلى تمام الوعي، والإحساس الوحيد المتبقي أني محاصر، وأني ضعيف ضعفًا لا أملك معه فض الحصار أو دفع العنكبوت لو أنشب مخالبه في عنقي. ارتديت ملابسي. كيف؟ لا أعرف، هبطت إلى صالة الفندق الواسعة، تشبثت بمقعد شاغر أجلس وارتميت عليه، بعيون جوفاء، ترى ولا تنظر، أحدِّق في الناس، الناس كثيرون، قادمون وراحلون عن الفندق، لماذا هم قادمون، ولماذا يرحلون، هل هم أحياء، أم هم صور تتحرك في وعاء زجاجي مفرغ من الهواء؟!
فراغ تورشيلي الذي درسناه في الطبيعة، مدرس الطبيعة، أخي مات، عبد الرحمن الخميسي، ليلة رأس السنة في الستينيات وهو يقف ساعة الفصل بين العامين يقول: بإذن الله سأحيا إلى سن المائة.
كان قويًّا عملاقًا متفائلًا إلى ألف عام قادمة، وكان فمه مفتوحًا إلى آخره مستعدًّا لابتلاع الحياة كلها بكل ما فيها من طعام وشراب وجمال، ولكني فوجئت به في اللحظة التالية، وفي داره الحافلة بالأصدقاء يتفجر باكيًا زوجته الشابة فاتن الشوباشي، ويقضي بقية الاحتفال في بكاء، ولم يبتلع عبد الرحمن الخميسي الحياة، وإنما ابتلعته الغربة، وإلى أربعة أركان الكرة الأرضية مضى يتسلمه ركن ليرفضه ركن، وهو قوي مقاتل وطني عنيد، هذا الشاعر المخترع الموسيقي كاتب القصة راوي الحكاية قاهر المدينة الذي قهره من قهرنا كلنا ومن بطط — بحذائه الغليظ — ثقافتنا وإنساننا، ثم لماذا — أستغفر الله — يموت نعمان عاشور، مع أن الموت حق، كنت حين ألقاه ويشكو لي الوحدة وبُعد الأصدقاء، أضحك لشكواه، فقد كان يبدو — لأمرٍ ما — غير جاد في شكواه؛ إذ كنت أعتقد أن إنسانًا مثله، مملوءة مخيلته بكل تلك الشخصيات والأنماط التي تبكيني الآن وأنا أشاهد رائعته «عيلة الدوغري» لا يمكن أن يوجد للحظة واحدة وحيدًا، ولكن هكذا كان نعمان الإنسان ونعمان الفنان، يحدثك عن المآسي فتظن أنه يسخر أو أنه لا يحفل بها، بينما هي في الحقيقة تطحنه، وتمرر حلقه، فإذا أضحكتَه ضحك من أعماقه وكأن لا شيء هناك.
وأن يموت صديقاك ورفيقاك وفي أسبوع واحد حتى، شيء — ماذا أقول؟ — اعتدنا عليه، فمنذ بضعة أسابيع عددت اثني عشر صديقًا وفنانًا ماتوا خلال السنوات القليلة الماضية، الآن صاروا أربعة عشر، مرة أخرى ذلك النسيج العنكبوتي المميت تضيق فتحاته، ويتجول عنكبوته بعيونه الجاحظة البارزة، تحتار قليلًا، ثم بمفاجأة كالصاعقة ينقض على فارس أحلام، على فنان، على صديق في عمر الزهور، وكل مرة يموت لك صديق يموت معه جزء منك.
ولكن هذا كله شيء وموت أخيك شيء آخر، إنه مثل عملية جراحية تُجرى لبتر جزء منك وبغير مخدر أو بنج، وأنت فاتح عينيك، مستشعرًا أقصى وأبشع درجات الألم، ولا تملك — وأنت الرجل — أن تصرخ أو تتأوه؛ فالبكاء للرجال عيب، والصراخ للأطفال، وأنت رجل، وكبير أخوتك وأخواتك، فلتقف، بعد أن انفضَّ المأتم قبل حضورك وتم العزاء ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلتقف في بيت العائلة الواسع حيث كان أخوك معمره وكبيره، ولتحس ما شئت بالدنيا كلها مجرد فراغ أجوف اختفى منه أحب إنسان إليك، ولم يعد له ولا للدنيا من بعده معنًى، لن تراه بعد هذا أبدًا، لن تجلسا أبدًا تناقشان أمور العائلة وتتبادلان الشوق بعد طول غياب، لن يأتي العيد ونحن مكتملون أبدًا.
شيء مخيف حدث ولم تعد العائلة هي العائلة ولا أنت أنت، إن زيارة الموت الأولى لِلَحْمك الحي شيء من البشاعة بحيث لا أتمنى لأعدى أعدائي أن يجربه.
ولأني كنت أشفق على قارئي أن أبدأ الكتابة بهذا فأعتقد أني لا بد أن أتوقف هنا، فلست في مجال تأبين أو تقدير، إنما هي دمعة تغلي، وطال غليانها، وكان لا بد أن أسكبها، لأرى لكم، وأكتب، وها أنا ذا أعتذر.