اللون الأبيض
حجرة نومي هي حجرة عملي وسرحاني وتمددي ومعمل تفكيري، ولم أكن أتصور أن هذا الانقلاب في تفكيري سيحدث بهذا الإجراء الصغير الذي قمت به. كنت منذ عشر سنوات قد اخترت لونًا لورق الحائط، بدأ في ذلك الحين حديثًا جدًّا وجميلًا جدًّا، وكان لون زخرفته بنفسجيًّا وكذلك كانت السجادة، ومنذ عامين بدأت أضيق بالحجرة، لم أكن أعرف لماذا، ثم تأملت المسألة فوجدت أني أضيق بلون الورق ولون السجاد وهذا الجو البنفسجي الذي طال، ولأني لم أكن متأكدًا من ذلك التشخيص كسبب لضيقي؛ فقد ظللت أؤجل العلاج أو التغيير أسبوعًا بعد أسبوع وشهرًا بعد شهر؛ فأنا أعرف مشقَّة نزع الورق وإعادة الطلاء ولصق لون جديد، إلى أن بدأت رحلة سفر طويلة قاطعًا المسافة من أقصى الشرق في بلادنا العربية الرياض إلى أقصى الغرب في الرباط وأجادير، وذات مكالمة تليفونية طلبت من زوجتي ورفيقة حياتي أن تمد إصلاحات المطبخ إلى حجرة النوم وأن تختار هي اللون المناسب، وحبذا لو كان فاتحًا جدًّا، وحين عدت وجدت سيدة البيت قد اختارت اللون الأبيض، ومن كله بنفسجي إلى كله أبيض مع لمسات من لون ذهبي، وفوجئت وأنا أُشعل نفس الضوء أن الحجرة تضيء جدًّا، أكثر من الأول بكثير، ثم فوجئت حين استيقظت من النوم أني مرتاح نفسيًّا جدًّا وكأنما اختفت جدران الحجرة تمامًا وأسلمتني إلى فضاء لا نهائي، أحسست أني مرتاح جدًّا لأفكاري وأن دموية اللون لا وجود لها، راحة غريبة لم أكن أعرف بالضبط سببها في ذلك الوقت، ولكن في اليوم التالي وما بعده اكتشفت السبب، إنه اللون الأبيض، واستغربت تمامًا؛ فمنذ أن كنت أدرس الطبيعة في كلية الطب، كنت أهتم بكل الألوان ما عدا اللون الأبيض، فهو صحيح مكوَّن من كل ألوان الطيف الأحمر والبنفسجي والأصفر والأخضر والأزرق وما فوق البنفسجي وما تحت الأحمر ولكنه بدا لي وأنا طالب لونًا لا طعم خاص له، وكأنه ليس لونًا وكأن لا لون له، إنه العادي تمامًا، لا يمكن أن يكون له تأثير الأزرق مثلًا أو الأحمر، ولقد ظللت على هذا الاعتقاد طويلًا، إلى ذلك اليوم الذي صحوت فيه منشرح الصدر هادئ الأنفاس مؤمنًا تمامًا في قرارة نفسي أن كل مشكلة لها حل، وأنه إذا كان الأعداء ينتصرون مؤقتًا فالنصر النهائي لنا بالتأكيد؛ فنحن الذين على حق، والتاريخ لا يُبنى على باطل أبدًا؛ فكل باطل مصيره الفناء، وكل حق مصيره البقاء. كما نقول بالمصري «احلوِّت» الدنيا في عيني، وراح التوتر.
لا بد أن للون الأبيض، لون النهار، لون كل الأشياء المشرقة، تأثيرًا نفسيًّا خاصًّا على البشر. وما اتُّخِذ رمزًا للخير عبثًا؛ فاللون المضاد له هو الأسود، وهو لون الشر والحقد والفاجعة، إذن كان شعبنا على حق حينما اتخذ تحية «نهارك أبيض»؛ فهي تحية لا لعب بالألفاظ والمعاني فيها، إنما هي اكتشاف عبقري للشعب، وهو اكتشاف خاص بنا، فلا يوجد في أي لغة في العالم تعبير مثل تعبير «نهارك أبيض»، وإنما نحن بدقة مشاعرنا وبالقوى الغريزية الكبيرة التي تربطنا بالنهار والليل وبالصحراء وبالخضرة، اكتشفت نفوسنا القديمة منذ أمد بعيد، سر اللون الأبيض وثبتته في الذاكرة الجماعية، وصدِّقوني ليس هذا تمجيدًا للون الأبيض وإعلائه على كافة الألوان، وإنما هو إحساس شخصي يحدث لي لأول مرة في حياتي، وقد يكون غيري قد اكتشفه من زمن، ولكني هنا أعبِّر عن تجربتي.
نهاركم أبيض إن شاء الله.