وزارة المحافظة على البيئة
في أهرام يوم الثلاثاء الماضي قرأت خبرًا أسعدني حقًّا، كان الخبر يقول: تقرر إعداد تشريعات جديدة لحماية البلاد من تلوث الإشعاع النووي تشمل المواد الغذائية ومختلف البضائع الأخرى التي يتم استيرادها، وكذلك نقل المواد المشعة أو تخزينها، وستتضمن مشروعات القوانين الجديدة تشديد العقوبات على كل من يستورد عمدًا مواد غذائية أو غير غذائية بها تلوث، وقرر المستشار ممدوح عطية وزير العدل تشكيل لجان من مستشاري الوزارة بالتعاون مع الخبراء الفنيين في هيئة الطاقة الذرية ووزارة الصحة والجهات المعنية الأخرى لإعداد هذه التشريعات.
قرأت الخبر وأحسست بنوع من الراحة لا يوصف، حين كتبت — قبل أن أسافر — بضع مقالات عن المواد الغذائية المشعة كنت أحس وكأني أريد تحريك ترس ضخم من الحديد الذي علاه الصدأ واشتبك بغيره من التروس بطريقة في حاجة إلى معجزة ليعود الترس يتحرك، وتعود الآلة الحكومية الرهيبة تدور وتعمل، وها هو الترس قد بدأ يتحرك.
ألا ما أبطأ إجراءاتنا!
لن أقول لماذا ينتظر المستشار وزير العدل كل تلك المدة ليبدأ في التفكير في تكوين لجان وتشريع قوانين، ولكن حسنًا أنه بدأ، كل ما في الأمر أني أتمنى ألا تكون المسافة بين البداية وبين الانتهاء من تشريع القوانين وتطبيقها ألف عام، فجرائدنا تحفل — أو على الأقل كانت — كل يوم بعدد من السفن الحاملة للمواد المشعة والتي في طريقها لإفراغ حمولتها في موانينا، وكل هذا يمضي بلا أي عقاب، لا على المستورد ولا الحامل ولا المصدِّر، وإنما نكتفي بأن نقول لقائد السفينة: ارحل، وكفى الله المؤمنين شر القتال. إن جلب مواد أو محاولة جلب مواد مشعة إلى مصر جريمة أكبر بكثير من جلب المخدرات التي يُعاقَب مرتكبها بالإعدام، فالمخدرات مهما بلغت خطورتها لا يمكن أن تصل إلى عشر معشار خطر التلوث الإشعاعي، فأي مواد غذائية أو غير غذائية مشعة تصل للبلاد يستمر مفعولها المدمر — أي عمر المادة الإشعاعية الموجودة فيها — إلى أكثر من ثلاثين عامًا مستقرة في جسد البشر تفعل فعلها القاتل والمشوه، أو في التربة والنبات والحيوان.
وكنت قد كتبت أطالب علماءنا، علماء الطبيعة والطبيعة النووية والذرة وعلوم الإشعاع بأن يتكلموا وأن يقفوا يشرحون لنا هذا الخطر الخفي ويكلموننا عنه، وقد أسعدني حقًّا أن أتلقى خلال يومين متعاقبَين دعوتَين لحضور ندوتَين هامتَين تمامًا، إحداهما عُقدت في جامعة عين شمس برعاية الدكتور الهاشمي مدير الجامعة وقد أقامها مركز دراسات الشرق الأوسط بالتعاون مع نادي هيئة التدريس في نفس الجامعة، والأخرى عقدتها وتعقدها الآن كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، وهي ندوة على أعلى مستوًى من حيث الموضوعات التي تتحدث فيها وأشخاص المتحدثين من علماء وأطباء وحتى من علماء القوات البحرية أيضًا، ثم علمت أيضًا أن نقابة أطباء القاهرة والمركز القومي للبحوث في سبيلهما إلى عقد ندوات لمناقشة هذا الخطر الإشعاعي المروِّع.
لم تمكنني ظروفي الخاصة من حضور ندوة كلية علوم إسكندرية، وكم أسفت لهذا، ولكني تمنَّيت أني تعلمت الكثير وأنا أُصغي لعلمائنا الكبار وهم يشرحون لنا ما هي بالضبط حكاية المواد المشعة تلك؛ فعلم الإشعاع وإن كان قد طُرق في أوائل القرن الحالي وأواخر القرن الماضي، إلا أنه لم يُدرس بشكل علمي وجاد يمكن قياسه وقياس مدى تأثيره على الإنسان وعلى الكائنات الحية إلا بعد إلقاء القنبلتَين الذريتَين على هيروشيما ونجازاكي، ولست هنا بسبيل شرح مفصل لكل تلك المواد المشعة، ولكن أقول على سبيل التعميم غير المخل إن الانشطار النووي ذلك الذي إذا حدث بسرعة شديدة يؤدي إلى انفجار ذري أو قنبلة ذرية، وإذا ما تحكم في انفجاره وأبطِئ منه ينتج عنه مواد مشعة وهي عناصر قابلة للانحلال البطيء أو السريع، ومع انحلالها تصدر إشعاعات تُسمى — بالعربي — ألف وباء وجيم، أخطرها جميعًا أشعة ب أو بيتا، وتظل تنفث هذه الأشعة التي تُحدث أمراضًا خطيرة من السرطان إلى تغيير مكونات الكروموسومات الوراثية في الإنسان، تظل تفعل هذه لفترة طويلة من الزمن؛ ففي عناصر «السيزيوم» مثلًا يظل لثلاثين عامًا طويلة يصدر هذه الأشعة بينما هو قابع في النخاع العظمي للإنسان أو في لحاء الشجر والحبوب أو في التربة أو في مكونات جسد الحيوان.
ندوة كانت حافلة حقًّا، وأعتقد أني لست وحدي الذي استفاد منها وإنما استفاد منها كل الحاضرين بما فيهم الدكتور عزت عبد العزيز رئيس هيئة الطاقة الذرية نفسه.
كل ما في الأمر أنني أعتقد أننا ما دمنا قد دخلنا أو بالأصح أُدخل لنا عنصر الإشعاع النووي من الباب الخلفي، وكما كُتب علينا القتال، كُتب علينا أيضًا الوقوف وقفة واعية متربصين لهذا الخطر، فإنني أعتقد أن الهيئة العامة للطاقة الذرية وظيفتها تطوير الأبحاث الذرية ولا يمكن أن تُترك — كما أجمع الحاضرون — مهمتها العلمية الهامة تلك للتفرغ لقياس الإشعاع في المواد الغذائية أو المواد التي استوردت من قبل، لقد اقترحت في الندوة أنه قد آن الأوان لإنشاء وزارة للبيئة في مصر؛ فقد أصبحت المحافظة على سلامة البيئة كيماويًّا وإشعاعيًّا مسألة حياة أو موت بالنسبة لمصر، ليس فقط المحافظة على البيئة وإنما المحافظة على الرقعة الزراعية؛ فهي ليست فقط مصدر المحاصيل والغذاء، ولكنها المصدر الوحيد للأكسجين — إكسير الحياة — ذلك الذي تقابله في مصر مصادر هائلة من ثاني أكسيد الكربون وأكسيد الكبريت وكل ما يجعل مدينة كالقاهرة تتعدى مراحل الخطر بكثير.
إن من المضحك أن الذي يحافظ على الرقعة الزراعية ويحمي الأرض من تجريفها هي شرطة «المسطحات المائية»، فشرطة المسطحات «المائية» تحمي «الأرض» الزراعية، كيف بالله؟!
أما اللجان التي ستتكوَّن لوضع التشريعات ضد المتاجرين والمستوردين للإشعاع فإني أرجو ألا تقل عقوبة الفاعل عن عمد عن عقوبة جالب الكوكايين والهيروين، من الإعدام؛ فهو لا يقتل شخصًا وإنما يقتل شعبًا بل أجيالًا كثيرة من الشعب.