من الثالث إلى الأول يا قلب لا تحزن
فعلًا، تُقدِّرون فتضحك الأقدار، كان المفروض أن الرحلة القصيرة انتهت. ومراسم افتتاح معهد العالم العربي في باريس وما صاحبها من دعوات ولقاءات انتهت، وما هو إلا يوم واحد أقضيه في لندن لإنجاز بعض المهام وأكون بعدها في القاهرة إذا أراد الله.
ولكن المشيئة أرادت شيئًا آخر.
في الحقيقة إن الرحلة كلها كانت غريبة، وخلال إقامتي في ذلك الفندق الفاخر في باريس، مدعوًّا، كنت كالمنوَّم أو المسحور بهذا الجو الفرنسي الحضاري والثقافي الأنيق، كيف تزينت باريس لقرب مقدم الكريسماس، وكيف تنظف نفسها بأجهزة أوتوماتيكية معقدة لإزالة بقايا الكلاب المدللة طوال النهار؟
معهد للعالم العربي أقامته — مفروضًا مناصفة — حكومة فرنسا بالاتفاق مع اثنتين وعشرين دولة عربية باستثناء دولة عربية واحدة فقط هي مصر المحروسة، ذلك أنه أُنشئ وأُقيم في ظل مقاطعة الجامعة العربية لمصر سياسيًّا وثقافيًّا وحكوميًّا وشعبيًّا، تبرعت فرنسا بمساحة كبيرة جدًّا من أجمل بقاع باريس على ضفاف نهر السين، وقام مهندس فرنسي عبقري بتصميم المبنى بحيث نال على هذا التصميم جائزة أحسن عمل هندسي في فرنسا، والمبنى مزود بمسرح ومتحف ومكتبة وقاعات دراسية واجتماعات وهدفه دعم التبادل الثقافي بين فرنسا والثقافة العربية.
وقد دُعيت إلى هذا المعهد من قبل حين قام باحتفال لتكريم الكُتاب العرب الذين تُرجِمت أعمالهم إلى اللغة الفرنسية، كان ذلك في العام الماضي، وتصادف أن كان الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة في ذلك الحين في باريس ليحضر افتتاح معرض أشغال الذهب الذي افتتحته السيدة سوزان مبارك وألهب عقول الباريسيات والباريسيين لفرط رهافة الصناعة الذهبية في ذلك الماضي السحيق أيام الفراعنة، ومن المؤسف أني وأنا هناك قرأت تعليقًا لكاتب من مصر يقول عن المعرض إنه ذهب اليهود ذلك الذي عُثر عليه في صان الحجر. المهم، حين استفسرت عن تفاصيل حفلة التكريم قيل لي إنه سيكون في قاعة مكتبة؛ سيكون في قاعة المكتبة الوطنية في باريس حيث تتم أرقى التجمعات الثقافية وقيل لي أيضًا إنه مدعو لحضوره وزارة الثقافة، في الدول التي يُكرَّم كُتابها وسفراؤها، فسألت هل وجِّهت دعوة للدكتور أحمد هيكل باعتباره مصريًّا وهو وزير الثقافة المصري، قالوا: أنت تعرف الوضع، هذه مؤسسة أُقيمت وأُنشئت بقرار من الجامعة العربية التي قاطعت مصر، ولكن موقفنا نحن منك ومن أعمالك شيء آخر. وضايقني هذا تمامًا، إني أتصور أن تُقاطع مصر سياسيًّا فعلًا أو اقتصاديًّا، أما المقاطعة الثقافية فذلك عمل من أعمال المراهقة؛ فمصر هي معظم الثقافة العربية، وفي جامعاتها وعلى أيدي أساتذتها تخرج معظم الكُتاب والمثقفين العرب، فكيف تُقاطَع ثقافيًّا؟ وقلت أنا لن أحضر هذا الحفل إلا إذا دُعي الدكتور هيكل دعوة رسمية وكذلك سفيرنا في فرنسا، ومستشارنا الثقافي أيضًا، واستغربت أنهم بادروا بدعوة الوزير والسفير والمستشار وحضروا حفل التكريم.
وهذا الذي حدث أرويه للدلالة على سخافة فكرة أن تُقاطِع مصرَ البلادُ العربية ثقافيًّا أو حتى اقتصاديًّا، أو أن تُقاطع البلاد العربية مصر في هذين المجالين بالذات فأنا أعتقد أننا كعرب كالجسم الواحد غير قابل أن تقاطع أعضاؤه بعضها حتى لو أرادت، وقد كلفتنا المقاطعة الثقافية كعرب الكثير، وكلفتنا نحن ككُتاب ومثقفين الكثير، فصحيح أن الكاتب قد يكون مصريًّا ولا يُعامَل بنفس المقاييس التي تُعامَل بها حكومته، وحتى بافتراض أن حكومته أو دولته مخطئة في موقفها السياسي فإننا نصاب بغاية الحرج في بعض الأحيان، وأذكر واقعة مماثلة حدثت في نيويورك حيث كنا مدعوِّين في مؤتمر للكُتاب الأمريكيين وأعضاء نادي القلم الدولي برئاسة آرثر ميلر، وجاءني المرحوم لقون كشيشيان مراسل الأهرام في أمريكا من قبل أن أُولد وقال لي إن السفراء العرب للأمم المتحدة سيُقيمون حفلة غداء لي سيحضرها ١٧سفيرًا، قلت له: ومعهم الدكتور عصمت عبد المجيد سفيرنا في الأمم المتحدة في ذلك الوقت؟ فقال: بالطبع أنت تعرف قرار المقاطعة وهو غير مدعو وهذا شيء طبيعي.
ووقعت في حرج؛ هؤلاء أناس يريدون أن يكرموا كاتبًا مصريًّا باعتباره كاتبًا عربيًّا أيضًا فهل أرفض دعوتهم وأقوم أنا الآخر بنفس المقاطعة الثقافية التي أستسخفها؟ وهكذا حملت المشكلة للدكتور عصمت عبد المجيد باعتبار أن الإنسان منا في الخارج مهما كان رأيه في دولته تلك فعليه: لا يأخذ مواقف ضدها خارج بلاده إلا إذا شاء أن يتمرد ويبقى في الخارج ويسقط النظام من الخارج أيضًا، وهو الشيء الذي لم يحدث أبدًا طوال مجرى التاريخ.
إن كفاح المواطن الحقيقي لتغيير الأوضاع في بلاده لا يمكن إلا أن يكون من داخل الوطن، مهما تعرَّض له الإنسان من سجن أو تشريد فهو الكفاح الوحيد الذي قد يثمر، وهو أيضًا الحق الشرعي للمواطن؛ فالرأي الذي لا أستطيع أن أقوله داخل بلادي وبملء فمي ومهما كانت النتائج، من العار أن يقوله الإنسان خارجها؟ يقوله لمن؟ لأناس هم ليسوا بالتأكيد أصحاب الأمر، وهم في أحسن الأحوال متفرجون أو متعاطفون، إنما الأكيد أنهم ليسوا أصحاب القضية أبدًا.
المهم، شرحت الموقف للدكتور عصمت عبد المجيد، وكان الرئيس السادات في قمة سِبابه للدول العربية، والدول العربية في قمة عدائها لحكم السادات.
والحقيقة استغربت تمامًا لحكمة الدكتور عصمت عبد المجيد في معالجة الموقف؛ فلقد وجدت أنه سعيد تمامًا بالخبر، وسعيد أن سبع عشرة دولة عربية تقاطع مصر تقيم حفل غداء لكاتب مهما كان عربيًّا فهو مصري أيضًا، وقال لي: اذهب أرجوك فمن المؤلم تمامًا أن تتقطع بيننا وبين الدول العربية كل الروابط. قلت له: إني لا أخاف الذهاب، ولكن ما أخافه هو خطابات ما بعد الغداء؛ فأنا أكاد أن أرى مقدمًا أنها كلها ستنصب هجومًا على الرئيس السادات وسياسته، وأنا أعترض وغير متفق أبدًا مع سياسة الرئيس في معظم توجهاته ولكني لا أستطيع أن أتصور أحدًا يلعن رئيس بلادي أمامي أو يتهمه بالخيانة، إن الشعب المصري داخل مصر هو وحده الذي يملك هذا الحق.
قال: في هذه الحالة أترك لك أن تتصرف كما ترى.
وكان موقفًا دقيقًا فعلًا، وأصررت أن أصطحب معي ممثلًا للسفارة أظنه كان المستشار محمود كارم محمود ابن الفنان الكبير كارم محمود، أو لعل الذاكرة خانتني وكان مستشارًا آخر.
ويا للمفاجأة التي كانت تنتظرني في الغداء.
فبعد نهاية الطعام، وقبل تقديم «الحلو» بدأ الحديث ممثل الجامعة العربية ثم أعقبه بقية السفراء، وقالوا كلامًا جميلًا عن شخصي المتواضع، وفي كل لحظة أتوقع أن يبدأ الهجوم على السادات، ولكن المضحك أنه لم يحدث عليه أي هجوم، وإنما مضى كل سفير ينعى حرية الرأي المفتقدة في العالم العربي وحتى في بلاده، وبعضهم أشفقت عليه تمامًا فقد كانوا يمثلون أنظمة لا ترحم، ولكني وجدت الغداء يتحول إلى ندوة مثقفين عرب ينعون على عالمنا العربي جهل معظم حكامه ومعاداتهم للفكر والثقافة وحرية الرأي والأقلام.
كلنا في الهم شرق.
وتناولنا «الحلو».
•••
نعود إلى حفل افتتاح معهد العالم العربي الذي عهد المعهد بتكاليف افتتاحه إلى صاحب شركة صخر للكمبيوتر وهو الصديق، أغرب عربي قابلته في حياتي، محمد الشارخ، هو رجل غني كمعظم الكويتيين ولكنه مجنون بالتقدم والتحضر كلورد سنكير الذي صنع أول كمبيوتر منزلي وخسر فيه الجلد والسقط، ومثل زميلنا الكبير السابق في الأهرام المهندس محمد نصير رائد الكمبيوتر في مصر ولكن عبقرية محمد الشارخ أنه «عرَّب» الكمبيوتر من ألفه إلى يائه بحيث جعله يتكلم ويكتب ويفكر ﺑ «العربي» وصرف على هذه البروجرامات الكمبيوترية أكثر من مليون دولار، وساعده في هذا مهندس كمبيوتر طيران مصري عبقري هو الآخر مع الدكتور أسامة الخولي عالم اللغة العربية، وفي حفل افتتاح المعهد دلفت إلى صالة صخر، وتفرجت على شيء يشبه المعجزة، فالقرآن الكريم مثلًا موجود كله، ليس هذا فقط بل هو مبرمج بحيث يعطيك كل الآيات التي فيها عن الوالدين مثلًا، أو ذكر لكلمة فرعون، أو يهود، أو الآيات الخاصة بالعلاقة بين المسلم والمسلمة، فبضغطة زرار تجد هذا كله سطورًا أمامك.
في برنامج آخر للشعر العربي، تلقم الكمبيوتر البيت فيكتب لك: هذا من بحر كذا ووزنه كذا كذا، تلقمه بيتًا مكسورًا فيشير لك إلى الكلمة الزائدة أو الناقصة أو غير المناسبة والتي كسرت البيت.
ولقد جلست ساعة أستمع إلى إمكانيات هذا الكمبيوتر العربي في تطوير التعليم واختزاله، وتخزين المعلومات، والحق أن ما أعجبني ليس هو نجاح محمد الشارخ في هذا المشروع التعليمي الخطير، ولكن ما أعجبني حقًّا أنه مشروع لم تقم به أي حكومة عربية أو حتى أي مؤسسة تعليمية، ولكن قام به فرد عرف كيف «يفكر» له، وبمن يستعين، ثم أنشأ شركة يابانية الاسم عربية رأس المال اسمها الشركة العالمية لتصنيع هذا الكمبيوتر.
لو فعل واحد في المائة من أغنيائنا وأغنياء العرب ما فعله هذا الرجل لانقلب بكاؤنا في تخلفنا وعلى خيبتنا إلى فخر بنهضتنا وطفرتنا، ولكن للأسف أغلب أثريائنا إما لاهون في متع الدنيا بعد أن اطمئنوا على ودائعهم في البنوك، أو يفكرون في التهرب من الضرائب أو شراء هاردوز، ما أخيبه من هدف تغتني به دولة غنية، ونفتقر به نحن الفقراء أصلًا، قليلون هم الأثرياء الذين لديهم بقية من عقل أو إدراك يعون به أن لا يدعوا المال يمتلكهم، وإنما هم مالكو المال، وأنه مسئولية وأنه إذا لم يُستعمل لخير الناس فهو حرام وهم مجرمون، إنهم كالذي يُؤتى موهبة من عند الله فيستغلها في الشر وفي الإضرار مع أن الله يمنح المواهب لتستعمل لإسعاد الناس ودفعهم إلى الأرفع والأنفع.
•••
فوجئت أن الافتتاح افتتاحان واحد سيقوم به الرئيس ميتران، والآخر سيقوم به شيراك رئيس الوزراء، واحد تفتتحه الدولة والثاني تفتتحه الحكومة، أناس دعتهم الدولة عن طريق شركة صخر، والآخرون دعتهم الحكومة الفرنسية عن طريق آير فرانس وهذا هو مجرد مَثل واحد من أمثلة السباق الانتخابي على الرئاسة بين فرانسوا ميتران وجاك شيراك، إذا ظهر هذا في التلفزيون كان على الآخر أن يختلق مناسبة ليظهر فيها، إذا خطب هذا خطب ذاك، والاثنان: الحكومة والدولة في حالة لا أعتقد أن الديمقراطية الفرنسية قد شهدتها أبدًا.
كنت قبل الذهاب إلى باريس بأسبوع واحد قد عدت من رحلتي إلى أفريقيا، أي فجأة وجدت نفسي أنتقل من قِبل العالم الثالث أو ربما الخامس إلى قلب العالم الأول، بعد الغابة والخشونة والناس المسالمين البسطاء الطيبين في قلب أفريقيا، ها أنا ذا أتحرك في قلب باريس محاطًا بمخمل ناعم ينفث عطرًا وبرفانات، ونباتات الغابة بكل عنفوانها العشوائي قد استؤنست ووضعت في الغرف، وحتى داخل الحمامات، نباتات دقيقة الأوراق محدِّقة كالكلاب الكانيش الصغيرة التي يقود شعرها عند الكوافير، وعليك في النهاية أن تدفع أنت كل ثمن هذه الأناقة والجمال. عزمت أحد أصدقائي على الغداء في مطعم متوسط فدفعت ألف فرنك حوالي ٢٠٠ دولار أي ما يوازي ٤٥٠ جنيهًا مصريًّا ثمنًا للوجبتين، نذهب نحن إلى العالم الأول بمهايا وأسعار العالم الثالث فندفع ضريبة التقدم من حُر عرقنا ودمائنا.
طبعًا الفارق هائل بين دار السلام أو ممباسا أو مقديشيو وبين باريس، ولكن صدقوني إن الناس في قلب أفريقيا أكثر طيبة ونقاء، وجهنم قد تكون موجودة في الجو ولكن جهنم الحقيقية هي في الأسعار هناك.
وانقضى الأسبوع وكان عليَّ أن أمر على لندن لمدة ٢٤ ساعة.
ولكن شاء القدر أن أبقى أسبوعين.
لست أدري لماذا.
ولكن يخيَّل إليَّ أن تغييرًا كبيرًا قد حدث في العالم كله بحيث تسلل نوع من الغوغائية الحديثة إلى كافة أنحاء المعمورة، لندن مثلًا في الستينيات وأوائل السبعينيات غيرها الآن تمامًا، في حجرة سواء أكانت حجرة فندق أو حجرة مستشفى فقد كانت أعراض هذا التغير واضحة في برامج التليفزيون، والتليفزيون البريطاني سواء بي بي سي أو القناة التجارية تليفزيون محترم تمامًا يقدم الإمتاع والثقافة والمعلومات والمناقشات الحرة، وتحس أنك لا تستطيع أن تترك متابعة أي قناة فيه إلا لضرورة قصوى. ظللت أسبوعًا بأكمله حائرًا بين قنواته الأربع أبحث عن برنامج يليق بعقل إنسان ناضج فإذا كلها تقريبًا برامج لا تستحق أن يشاهدها إلا الأطفال أو الطلبة، كلها برامج مضحكة أو تستضيف أناسًا يضحكونك أو تضحك عليهم، والإنجليز قوم يحبون الضحك والتمثيل مثلنا نحن المصريين، بالسليقة، أذكر أن الأستاذ «ديري» أستاذ علم التشريح في كلية الطب وكان يناهز السبعين من عمره وهو الذي كشف على جثة توت عنخ آمون حين اكتشفها زميله البريطاني كان رجلًا مضحكًا؛ فقد كان فرَّاش المدرج يحمل الأذرع والسيقان والهيكل العظمي إلى المدرج ونعتقد أن «ديري» هذه المرة سيعطينا محاضرة حقيقية عن التشريح، وإذا به كالعادة يقضي ثلاثة أرباع المحاضرة في تقليد القردة والشمبانزي العليا، وفي رواية طرائف عن نظرية داروين في الأنواع، وقصص من حياته في أفريقيا وفي الأدغال، أما التشريح فيقول لنا ببساطة إنه في الكتب وفي المشرحة اذهبوا شرِّحوا الجسد البشري واحفظوا علاقات العضلات والأوعية والعظام والأعصاب وتصوروها فأنا في محاضراتي لا أستطيع أن ألقنكم هذا.
وكنت أتصور أن الأستاذ «ديري» وحيد نوعه، ولكني اكتشفت أنها الطبيعة الإنجليزية؛ فهؤلاء أناس يبدون وكأنهم لا يريدون أن يفعلوا شيئًا في الحياة إلا أن يضحكوا ويضحكوا.
وهكذا كثرت برامج الهلس في القنوات الأربع.
بل والأدهى أنها أصبحت، وبالذات القناة الرابعة، قناة موجهة بخبث ضد العرب والمسلمين بالذات، وكأن العقول التي تدبِّر هذا تريد أن تجعل التمييز العنصري ضد اليهود الذي ساد في فترة ما ينقلب إلى تمييز عنصري ضد المسلمين وضد العرب منهم بالذات، والإنسان يسمع عن منظمات اسمها المؤتمر الإسلامي، ومؤتمر القمة الإسلامي، وعن الجامعة العربية ونقود البترول، ونفوذ العرب الاقتصادي، ويرى أن السر الحقيقي في ازدهار الاقتصاد الإنجليزي مرجعه إلى النقود العربية البترولية بالذات، ومع هذا فلا أثر لهذا كله أمام الدعاية المضادة للعرب وللمسلمين كجنس بشري وليس فقط كديانة، أو كبشر يأخذون منا النقود يديرونها هم لحساب إدانتنا كعرب ومسلمين، والمضحك أنهم يفعلون هذا بمادة عربية خام، باستنطاق العرب والمسلمين من خلال وجهة نظر خبيثة حتى لا يقول أحد إنهم يدَّعون علينا شيئًا.
إنها حملة عنصرية أعتقد أن مؤتمرًا قد أقيم في لندن لدراستها والتصدي لها، ولكن شيئًا حقيقيًّا للآن لم يحدث.
وقد آن أن يحدث.
كان الشيء الوحيد الصادق الذي أنفعل له على شاشات التليفزيون هو عرض الأخبار للمظاهرات الفلسطينية في الأرض المحتلة؛ ربما لأنها فاجأت العالم كله حتى الفلسطينيين في الخارج فهي غضبة شعبية تلقائية، وقد قلت مرة أن الشعوب في صبرها كالجِمال، تصبر وتصبر وتظن أنها ساكنة وراضية ولكنها فجأة كما يغضب الجمل ويعقر عقرة الموت من يحيطونه، تفعل.
إنها مثل غضبتنا هنا في مصر عام ٤٦ للاحتلال البريطاني، ومثل غضبة الجزائر للاحتلال الفرنسي، غضبة ضد محتل غاصب حتى لو كان يحكمه ويسانده أذكى الأذكياء وأقوى الأقوياء.
والكارثة أن المحتل دائمًا يتصرف نفس التصرف الغبي الذي كان يتصرفه المحتلون في كل تاريخهم، يحاولون إخماد الغضبة بالقوة القاهرة، والنتيجة، الثورة التي لا تُبقي ولا تذر.
ليس هناك ذكاء أمريكي أو إسرائيلي أو إنجليزي أو فرنسي أو رومي في مواجهة الشعوب؛ فهي كالقوى الكونية، أبدًا لا يخمدها أي عقل بشري مهما أُوتي من ذكاء، لا يخمدها إلا الرضوخ لها، وهو آخر ما يفكر فيه أي محتل منذ عهد الهكسوس إلى عهد إسرائيل.
– شكرًا يا فضيلة الشيخ.
– الأخ الدكتور يوسف إدريس.
– نعم.
– فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي يريد أن يحادثك.
– أهلًا وسهلًا.
قلتها غير مصدق.
كنت وحدي في غرفة المستشفى بعد أن كنت قد قلت للأصدقاء جميعًا أنني مسافر غدًا، ولهذا كان زائري الوحيد هو الزميل والصديق العزيز محمد الحناوي مدير مكتب الأهرام الدولي في لندن، وكان هو أيضًا حلقة الاتصال بيني وبين الأستاذ إبراهيم نافع رئيس التحرير الذي أحسست أنه يقاسمني المحنة، وفوجئت أن محمد الحناوي هو نفسه أحد أبطال انتخابات معركة النقابة التي خضتها مجردًا من أي سلاح ضد العزيز والصديق المرحوم يوسف السباعي، ووقتها كان مرشح الدولة ورئيس تحرير الأهرام ورئيس التضامن الأسيوي الأفريقي ورئيس اتحاد الكتاب، وضقت ذرعًا أن يُضاف إلى هذه الصفات نقيب الصحفيين أيضًا فتوكلت على الله ورشَّحت نفسي نقيبًا.
ولم أكن أتصور أنني سأخوض معركة ضد النظام كله وليس أبدًا ضد يوسف السباعي بمفرده، ويبدو أن هذا الموقف مني قد حشد كل الطاقات الشجاعة في الصحفيين وما أكثرها، حتى إنني كنت فعلًا لولا خذلان من أصدقائي للأسف أن أنجح، وكان محمد الحناوي أيامها يعمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط وكان مع الدكتورة سهام هاشم من أشد المتحمسين لانتخابي ونالا أذًى كثيرًا بسبب هذا الموقف. المهم، ذكر لي محمد الحناوي في إحدى زياراته أنه كان مدعوًّا على العشاء مع الكاتب الظاهرة محمود السعدني عند فضيلة الشعراوي، وهكذا عرفت أن فضيلته كان يُعالج بمستشفى ولنجتون وأنه غادره موفور الصحة، فطلبت منه أن يبلغ فضيلته أعمق تحياتي وتمنياتي بتمام الشفاء، وإذا بالرجل هو الأكثر كرمًا والسابق إلى عمل الخير والمعروف.
وفي الثواني الأولى لم يَدُر حوار مطلقًا إن هي إلا كلمات من عندي أتمتم بها شاكرًا محييًا، وبيت شعر من عنده يبدو أنه من أصعب أبيات الشعر إذ لم أستطع أن أدرك منه إلا ما يفهم من المثل الشعبي ما مودة إلا بعد انقطاع، أو لا قدر الله خصام.
إن رجلًا فيه خير كثير مثل فضيلة الشيخ الشعراوي أحبَّه الخَلق لأنه يحب الخَلق ويريد أن يفيض عليهم بما عنده، رجل كهذا ممكن أن يختلف الإنسان معه في الرأي فالرأي اجتهاد وكل منا عليه أن يجتهد فيصيب فيكون له أجران، أو يخطئ بأجر وشتان ما بين الاجتهادَين؛ فموضوع اجتهاد أي عالم ديني أو داعية كبير هو الدين وهذا ما لا يمكنني ولا أستطيع أن أجتهد فيه إلا بمقدار ما عند المؤمن المتعلم من أدوات الاجتهاد، أما اجتهادنا نحن الكُتاب فهو اجتهاد في مجال حياتنا للدنيا هذه وكيف نعيشها ونسمو بها في حدود الإمكانيات العقلية والبشرية والتي نملكها والتي أمرنا الله سبحانه وتعالى باستغلالها إلى أقصى قدر وطاقة.
في أحيان قليلة جدًّا يحدث التشابك والتضاد.
وضميري كمسلم يملي عليَّ أن أقول ما عندي حتى في آراء علماء كبار كالشيخ الشعراوي. وقد يُغضب هذا بعض مُحبِّيه ومُريديه الذين يريدون رفعه إلى درجات عليا من التقديس بحيث يضعونه فوق البشر، وهذا ما لا أعتقد أن فضيلة الشيخ يريده أو يستريح له أبدًا، إن رفع أي إنسان إلى درجة التقديس واللامناقشة هو شرك بالله معاذ الله أن يأخذ به أي مسلم، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ … صدق الله العظيم. النبي بشر والشيخ شعراوي بشر وشخصي الضعيف مثل شخصك بشر. هكذا علمنا الإسلام.
وبعد أن أجزلت كل الشكر والامتنان لفضيلة الشيخ بادرني ببيت شعر آخر لا أذكره وإنما أعي منه ما معناه أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وهكذا الرجل في بساطته وتواضعه أطلب منه أن يدعو لي بالشفاء، وهو يطلب من ضيوفه أن يدعو له وأنه في حاجة لدعاء الآخرين. نعم لأنه عالم، ولأنه عارف يدرك أن مثله مثل البشر في حاجة لدعاء الآخرين، فليست المشكلة أبدًا في فضيلة الشيخ، المشكلة الدائمة أبدًا هي في بعض مريديه والمستفيدين منه والمستغلين لاسمه ومحبة الناس له.
سامحهم الله وعفا الله عنهم جميعًا.
وشكرًا لمكالمتك وسؤالك يا مولانا.
فقد كنت سبَّاقًا إلى الخير والمعروف.